ركّزت السلطاتُ الأوكرانيّة خلال شهر أغسطس حملةَ ضغطٍ على الحكومات الأوروبيّة وبقيّة الدول في حلف الناتو بعنوانٍ واحدٍ رئيسي، وهو ضرورة حصول القوّات المسلّحة الأوكرانيّة على طائرات أف ١٦ الأمريكيّة من هذه الدول.
وذلك مع اقتراب فصلي الخريف والشتاء، وما تفرضه الظروف المناخيّة على أرض المعركة في أوكرانيا من صعوباتٍ جمّة تتعلّق بحركة القوات البرية، وخصوصًا المدرّعة منها، يبدو الهجوم الأوكراني المضاد يسيرُ تجاه التوقف الإجباري على الأقل في محاوره الحالية.
وقد نجح الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلنسكي في أخذ تعهّداتٍ بتسليم عشرات من هذه الطائرات لأوكرانيا، ذلك بجانب المضي قدمًا في برامج تدريب الطيارين الأوكران على استخدام هذه الطائرات، التي بدأت مبكّرًا في العديد من الدول الأوروبيّة، وأيضًا في الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
تثيرُ الجهودُ الأوكرانيّة للحصول على طائرات الأف ١٦ لسلاحها الجوي مجموعةً كبيرةً من التساؤلات في ظلّ ما هو معروف ومتداول من معلوماتٍ حول طبيعة ظروف السيطرة الجوية في هذه المعركة، خصوصًا أن فلاديمير زيلنسكي صرّح مؤكّدًا أنّ هزيمة روسيا قد باتت مؤكّدةً في ظلّ حصول بلاده على طائرات أف ١٦.
معركة السماء وأسئلتها:
مثار التساؤلات أنّ قدرات سلاح الجو الأوكراني هزيلة ومتواضعة بالفعل مقابل نظيره الروسي، ولكن، وبشكلٍ أساسي، يبدو سلاح الجو إجمالًا أقلّ الأسلحة تأثيرًا في هذه المرحلة من الحرب لدى طرفي القتال، وأن الحكومة الأوكرانيّة وحلفاءها يدركون جيّدًا أنّ بضع عشرات أو حتى مئات من طائرات أف ١٦ لن تمنحهم السيادة الجويّة؛ وذلك لاعتباراتٍ تتجاوز القدرات المتفوّقة للقوّات الجوية الروسيّة، وتتعلّق بالأساس بما يمكن تسميته بثبات خطوط السيادة الجويّة.
فلقد استخدم الجيش الروسي الغارات الجويّة بشكلٍ موسّعٍ في بداية الحرب حين كانت لديهم سيادة جويّة شبه كاملة على سماء المعركة، ولكن تزويد حلف الناتو لأوكرانيا بعددٍ هائلٍ من منظومات الدفاع الجوي الأكثر حداثةً في العالم، أخرج فعليًّا معركة السيادة الجويّة لموضع آخر.
حيث تعجزُ روسيا عن المغامرة بطائراتها القاذفة أو المقاتلة في تنفيذ هجمات تتطلّب منها التحليق مباشرةً في سماء أوكرانيا، وتعتمدُ بشكلٍ أساسي في استخدام القاذفات المختلفة في أسطولها الجوي الضخم على التحليق داخل مناطق السيادة الجويّة الروسيّة، وبعيدًا عن مدى الدفاع الجوي الأوكراني لإطلاق صواريخ بعيدة ومتوسطة المدى، وقنابل انزلاقيّة وأخرى موجّهة، وذلك لتفادي إسقاط هذه الطائرات، كما يعتمد كلا الطرفين على استخدام الطائرات المسيّرة الانتحاريّة في تنفيذ هجماتٍ تكتيكيّةٍ في جبهات القتال أو في العمق، فيما تنفرد روسيا بقدرتها على ضرب العمق الأوكراني بصواريخَ فائقةِ السرعة ودقيقة في توجيهها.
إذن، فهناك خطوطُ جبهةٍ واضحة الملامح تقريبًا في السماء والمجال الجوي، وهي مقاربةٌ لتلك المرسومة على أرض المعركة، ومن المؤكّد أنّ أوكرانيا لن تستخدم طائرات أف ١٦ في هجماتٍ انتحاريّة، أو طلعات فرديّة متفرّقة كتلك التي أهدرت فيها معظم مخزونها من المقاتلات السوفيتيّة.
كيف ستستخدم أوكرانيا طائرات أف ١٦؟
إنّ الأسلحة المستخدمة في الهجوم والدفاع تحكم التكتيكات المستخدمة، وبجانب طبيعة أرض المعركة والعامل البشري ترسم الشكل الأساسي للحرب، وقد خطّطت أوكرانيا وجنرالات حلف الناتو الهجوم المضاد بالاستناد للعدد الهائل من العربات المدرّعة والدبابات التي زوّدت بها دول حلف الناتو القوّات الأوكرانيّة، ومع قدوم فصلي الخريف والشتاء يبدو ثبات خطوط الجبهة هو السيناريو المرجّح، الذي ينافي ما وعدت به أوكرانيا حلفاؤها، وما راهن عليه هؤلاء الحلفاء.
وإذا ما استثنينا السيناريو الأوكراني الغربي الجديد، الذي تشكّل طائرات أف ١٦ ركنًا أساسيًّا فيه، فإنّ أقصى ما لدى الأوكران فعله في الشتاء المقبل، هو توجيه ضرباتٍ بواسطة المدفعيّة والصواريخ المتوسّطة المدى التي حصلوا عليها من دول الناتو، وهو ما يعني إمكانية امتلاك الروس لوقتٍ يحتاجونه لزيادة تنظيم وعدد قوّاتهم، ومعالجة العديد من الثغرات التي واجهوها منذ بداية الحرب، والترجمة السياسيّة لذلك هو فتورٌ في المزاج الغربي الداعم للحرب، وتراجع في دعم الجمهور الأوروبي لتسليح أوكرانيا، وللدور الأوروبي في هذه الحرب برمّتها.
هناك إشكالاتٌ ميدانيّةٌ أخرى يفرضها هذا الواقع على القوّات الأوكرانيّة، حيث تحتاج الذخيرة اللازمة للمدفعيّة، وأيضًا الصواريخ التي حصل عليها الأوكران من حلفائهم إلى ترتيباتٍ لوجستيّةٍ معقّدة تتعلّق بالنقل والتخزين، وكذلك بالاستخدام في ظلّ الاستهداف الروسي المكثّف لهذه المنظومات، وهو ما يجعل من سيناريو "حرب الشتاء الجالسة" مصدر تهديدٍ لوضع القوات الأوكرانيّة.
فيما تمثّل طائرات أف ١٦ - ليس بحدّ ذاتها - مجالًا مختلفًا لتكتيكاتٍ جديدةٍ قد تسمح بسيناريو مختلف، حيث طلبت أوكرانيا الحصول على صواريخ "JASSM" الأميركيّة، التي يصل مداها إلى 370 كلم، لاستخدامها مع طائرات "أف 16"، التي لا تستطيع حمل صواريخ "ستورم شادو" و"سكالب"؛ لكي تصبحَ قادرةً على استهداف القوّات الروسيّة من مسافاتٍ بعيدةٍ دون تهديد مقاتلاتها الجديدة.
هذا النوعُ من الصواريخ بالذات يمتلك مواصفاتٍ مختلفةً عن أيٍّ من الصواريخ التي تستخدمها القوّات البريّة الأوكرانيّة، فالصاروخُ الذي صنعته شركة لوكهيد مارتن الأمريكية الشهيرة، يعدُّ صاروخ كروز شبحي، يمتلك أفضليّةً نسبيّةً في التخفّي عن أجهزة الرادار، ومنظومة الدفاع الجوي، فيما يبلغ مداه من ٣٧٠ كم إلى ٩٢٥ كم حسب نسخه المختلفة، ورأسه الحربي نحو٤٥٠ كجم، ونظم توجيه تعمل بنظام تحديد المواقع العالمي GPS و بالقصور الذاتي INS ، والتصوير الحراري بالأشعة تحت الحمراء (IRT) والفيديو الحراري و/أو التصوير الحراري.
وللوقوف حول آلية العمل المحتملة لطائرات أف ١٦ ضمن الجيش الأوكراني، علينا تصوّر عشرات الطائرات الأوكرانيّة المحمّلة بهذه الصواريخ تنطلق من قواعد جويّة لحلف الناتو في دولٍ مجاورة لأوكرانيا، لتحلّق ضمن مجال السيطرة الجويّة لشبكات الدفاع الجوي الأوكراني، وتطلق صواريخها على عشرات الأهداف في عمق خطوط الدفاع الروسية أو حتى داخل الأراضي الروسيّة، وربّما وصولًا لموسكو نفسها لو احتسبنا النسخ الأطول مدى من هذا الصاروخ.
ستتجاوز بذلك القوات الأوكرانيّة الكثير من صعوبات النقل والتجهيز وحتى الحاجة لحماية مرابض الصواريخ ومخازنها، فما على الطائرات إلا التزود بهذه الصواريخ من قواعدَ جويّةٍ لحلف الناتو، ثم التحليق بضع دقائق ومعاودة الكرة طالما أن المخزون الصاروخي موجود.
في مسعاها للحصول على طائرات أف ١٦، تراهن أوكرانيا على تطوير سيناريو مختلف لحرب الشتاء، يعتمد بالأساس على إعطاء مكانة هامشيّة للعمليات البرية المباشرة الهادفة لاقتحام خطوط الدفاع الروسي واختراقها، والتركيز على تطوير تكتيكاتٍ لتوجيه ضرباتٍ ذات قيمة نوعيّة لأهدافٍ حيويّة، بل وبناء قائمة أهداف جديدة لهذه المرحلة من المعركة، الهدف الأساسي المعلن هو شبه جزيرة القرم، ولكن الهدف الأعلى قيمة من أي موقعٍ ستطاله هذه الصواريخ هو توريط السياسة الأوروبيّة ومجموعة من الدول المتاخمة في أوكرانيا لمشاركةٍ قتاليّةٍ واضحةٍ في توجيه ضرباتٍ لروسيا.
كذلك، وفي ضوء ما ترسمه بريطانيا تحديدًا من خططٍ لما تسمّيه معركة البحر الأسود، تبدو الموانئ الروسيّة والأسطول البحري الروسي بشقيه التجاري والعسكري في محور الاستهداف المقبل، وبدل أن يكون الشتاء وقتًا تستفيد منه روسيا في ترميم قدراتها وتطوير سيناريوهاتٍ هجوميّةٍ مختلفة، سيحاول أعداؤها إمطارها بسيلٍ من الهجمات الصاروخيّة، تستهدف معظم بناها التحتية القتالية والاقتصادية، ولا يستبعد أن يتوسّع في استهدافه سكانَها.
هذا السيناريو رغم سلاسة الحديث حوله في الأروقة الغربيّة والنهم الكبير لاستهلاكه تعويضًا عن التعثّر المستمرّ للهجوم الأوكراني البرّي المضاد، فإنّه يحملُ ثغراتٍ عديدةً، أبرزُها إغفالُهُ لقدرات الدفاع الجوي الروسي، بل ولاستعداد القوات الجويّة الروسيّة لقبول مخاطر أكبر، والالتحام في معارك جوية في سماء أوكرانيا، وأكثر من ذلك ما قد تكون عليه ردة الفعل الروسية على تلك القواعد الغربية التي ستنطلق منها هذه الطائرات.