منذ مطلع هذا العام، تمثيلًا لا حصرًا، تجاوز العدو عشرات مما كان يعتبره يومًا خطوطًا حمراءً لا يقدر أن تجاوزها، لأنه قد يلحق به تبعات هائلة لا يمكن تجاوزها، بل وأنه خلال الأيام الماضية فقط؛ صعد العدو من عدوانه ضد المقدسات في القدس ، وتجاوز خطوط حمراء كثيرة في أنماط عدوانه على النساء الفلسطينيات، وصعد عمليات القتل والاعتقال والهجمات الوحشية، وفاقم تنكيله بالأسرى الذين يتهددهم تشريع الكيان الصهيوني لقانون يبيح إعدامهم.
واللافت هنا، أن ذلك قد جرى في وقت ينهض فيه الفعل الفدائي الفلسطيني ضد العدو، حتى وإن كان هذا الفعل لم يبلغ مداه المنشود بعد، ولم تتسع قاعدته، وكأن العدو يستفز غضبًا ويستحث انتفاضةً، أو أن حكومته ومنظوماته القمعية قد فقدت كل معايير العقل وباتت تنتقم أكثر من كونها تدير عملية قمع ممنهجة ومحددة بدقة، وهذه الافتراضات لو صحت كتفسير لما يحدث من تصعيد لأمكننا القول: أن هذا الكيان يسقط فعلًا وستكون نهايته أقرب مما يمكن تخيله، ولكن من يدرك عمل منظومة القمع الصهيونية وطبيعتها وبنيتها، يدرك أن هذه ليست طريقة عملها؛ فلقد صمم الغزاة منظومة قتل وتنكيل وتعذيب باردة القلب، تحترف التدمير والقتل ونثر العذاب في سياقات محددة سلفًا؛ لضمان استعباد الفلسطينيين وإبادة كل معنى لوجودهم، وأن رفعها لوتيرة العسف والقتل والتنكيل وتوسيعها لاتجاهاته والمساحات التي يطالها لا ينفصل عن جوهر الأهداف التي صممت لأجلها هذه المنظومة الاستعمارية، وهي: تحطيم الوجود الفلسطيني بكل معانيه، وضمان خضوعه بالكامل للغزاة الصهاينة. وبلغة أخرى، تقدم هذه المنظومة بتصعيدها الحالي والمتسع مقولة مفادها: أن الفلسطيني مستباح تمامًا أمامها، لا يوجد ما يمكن أن يحميه، أو يحول دون تمزيق جسده، أو إهانة كرامته، أو انتهاك أقدس قيّمه.
انتهاك الأجساد والمقدسات وأماكن العبادة؛ التعرية، التعذيب، كل شيء مباح لدى الغزاة، ليقولوا للفلسطيني: أنه وإن حمل بعض من الفلسطينيين السلاح وروعوا الغزاة الصهاينة، فإن الأمن للغزاة والخوف والاستباحة لأصحاب البلاد وشعبها، والحقيقة أن من يسن هذه السياسات الوضيعة؛ يراهن بالأساس على ويحلم بإمكانية، ردع التمرد، لا بواسطة بنادقه فحسب وغارات طائراته، ولكن بالأساس بواسطة إثارة موجات رعب جديدة، لدى عموم الجماهير الفلسطينية، تحيل هذه الجماهير لأداة ضغط على من يختار القتال. باختصار: أن ثمن قتالكم للغزاة هو تعرية نساؤكم ومزيد من الاقتحامات لأماكن العبادة، وسن قانون لإعدام الأسرى. ولكن في غمرة هذا التحليل لا يجب أن ننسى نقطة جوهرية، وهي أن من يفعل ذلك خائف بالفعل، وربما يكون قد يأس بالفعل من إمكانية إلحاق هزيمة مباشرة بالحالة الفدائية المسلحة التي تقاتله؛ رغم قلة عديد أفرادها وبساطة إمكانياتهم.
مبعث هذا اليأس، إدراك الصهيوني أنه لا يقاتل ضد عشرات، أو مئات من الفدائيين المسلحين فحسب، ولكن بالأساس ضد تحول في المعادلة الإقليمية؛ أنتج فيه محور المقاومة قدرة حقيقية على مضاعفة التهديد للكيان الصهيوني في كل الجبهات، وأضعف كثيرًا قدرة حلفاء هذا الكيان على إحداث تأثير جذري في السياق الحالي. نعم لدى الفلسطيني اليوم حلفاء جادين ومحور تقاتل أطرافه الرئيسية إلى جانبه ولا تكتفي بمجرد دعمه، بل ويمكن القول وبكل وضوح: أن هناك في ساحة المواجهة من يدفع الدم في كل يوم وفي كل ساحة، كثمن لاستعادة شعوب هذه المنطقة لحريتها واستقلالها ولخلاصها المقدر، من الهيمنة الاستعمارية وأداتها السرطانية الصهيونية. فعلى تخوم غزة وفي ساحات القدس وشوارع ومخيمات الضفة، هناك قتال حقيقي يدور في كل يوم، وفي الشمال جبهة أساسية أخرى؛ بات العدو منذ سنوات يدرك استحالة ردعها ويعي قدرتها على إلحاق دمار غير مسبوق في كل مرفق وقطعة عسكرية في هذا الكيان.
إن هذا التنكيل يشبه ما فعله ضباط فرق الإس إس النازية في وارسو ومعسكرات الاعتقال، حين أدركوا عجزهم عن وقف الانهيار في صفوفهم؛ صحيح أن جنرالات العدو لم يدركوا بعد استحالة وقف عملية إزالة الكيان الصهيوني، ولكنهم يدركون اليوم جيدًا، حدود قدرتهم وقدرة المنظومة الأمنية والعسكرية الصهيونية، في مواجهة الفعل الفدائي الذي يخوضه محور بأكمله؛ بهدف واحد ومحدد وواضح: هو إزالة هذا الكيان من الوجود.