شهدت الآونةُ الأخيرةُ تذبذبًا في السياسات الأميركيّة تجاهَ السعوديّة، التي انتهجت أسلوبًا سياسيًّا جديدًا غير تقليدي في التعاطي مع الملفات الإقليميّة والدوليّة؛ الأمرُ الذي شجعها على اتخاذ قراراتٍ بعيدةٍ عن حليفتها الاستراتيجيّة الولايات المتّحدة الأميركيّة، المشغولة بقضايا ليست من أولويات حلفائها، ما أدّى إلى استثمار هذا الانشغال بتوسيع دائرة التحالفات الإقليميّة؛ وذلك للتخفيف من وطأة الضغط الأميركي على الحلفاء، خصوصًا السعوديّة التي خضعت طوال علاقتها التاريخيّة مع الولايات المتّحدة إلى ثنائيّة التجاذب والتناقض بين الحزبين؛ الجمهوري والديمقراطي، فكانت الرياض أكثر انسجامًا مع الجمهوريين من الديمقراطيين الذين اتّسمت أجواء العلاقة معهم بالتوتّر.
ورغم محاولات إدارة بايدن عزل الرياض إلّا أنّ شريان الطاقة والنفط يقف حاجزًا منيعًا ضدّ سياسة العزل، خاصّةً في ظلّ أجواءٍ وظروفٍ سياسيّةٍ دوليّةٍ بالغة الخطورة، تفرضها تداعيات الحرب الروسيّة الأوكرانيّة، وما نجم قبلها من تفاقم الأزمات الاقتصاديّة؛ بسبب انتشار جائحة كورونا؛ الأمرُ الذي جعل العديد من الدول الإقليميّة أكثر مرونةً في نسج العلاقات الجديدة والتحالفات المشتركة للحفاظ على المصالح الحيويّة والاستراتيجيّة.
ولاحظنا ذلك بتوقيع الاتفاق السعودي الإيراني برعايةٍ صينيّةٍ، الذي شكّل مفاجئةً للعالم حينها حتى إن الرياض لم تتوقّف عند طهران فقط، بل تعمّقت مع الصين وغيرها، وأدّت هذه التحالفات الجديدة مع خصوم واشنطن وأعدائها إلى أن تبحث عن خياراتٍ تمنع بها أو تجذب بها الحليف السعودي إليها، وقد وجدت إدارة بايدن في خيار التطبيع مع حكومة نتنياهو أفضل الخيارات المتاحة حاليًّا للحدّ من علاقات السعوديّة مع طهران وبكين.
ونشطت الدبلوماسيّة الأميركيّة مؤخّرًا؛ بهدف وقف نشاطات السياسة السعوديّة نحو العواصم المذكورة. وفي السياق ذاته، نشطت الآلةُ الإعلاميّة الأميركيّة والصهيونيّة بالترويج بشأن التطبيع مع (إسرائيل).
وتحدّثت وسائل الإعلام في الأسابيع الاخيرة عن وجود مسعى أميركي لإقامة اتفاقية تطبيع بين الاحتلال والمملكة العربية السعوديّة، وتناولت الصحف العالمية أهداف هذا المسعى، وكذلك تفاصيل المحادثات التي جرت بين الإدارة الأميركية والسعودية. لكن قبل الدخول في هذه المضامين لا بدّ من تقديم بعض المقاربات لفهم هذا المسعى الأميركي، وكذلك الأمر حاجة كيان الاحتلال لهذا التطبيع وكذلك السعودية.
من الواضح أنّ إدارة الرئيس الأميركي بايدن تقود حملةً انتخابيّةً حتى آذار/مارس القادم، وتريد من هذا المسعى تحقيق إنجازٍ كبيرٍ للدبلوماسية الأميركية، ومن ثَمَّ إحداث فروقاتٍ نوعيّةٍ في مزاج الناخب الأميركي المؤيّد للكيان الصهيوني، أمّا على صعيد حكومة نتنياهو، فهي من الواضح أنّها تعاني أزماتٍ داخليّةً مركّبةً وتعاني أيضًا تهديداتٍ أمنيّةً سواءً كانت على حدود الشمال أو في داخل الضفة الفلسطينية؛ كل هذه العوامل مجتمعة، وللخروج منها، ترى حكومة نتنياهو المتطرفة أن التطبيع مع الرياض سيقودها إلى تحقيق نصرٍ حقيقي ذي طابعٍ استراتيجي؛ لأنّه سيقود إلى فتح العواصم العربيّة والإسلاميّة لكيان الاحتلال.
لكن نتساءل هنا هل الظروف الموضوعيّة الحالية تسمحُ لتحقيق هذا الإنجاز، وهل السعوديّة في عجلةٍ من أمرها لتحقيق التطبيع مع (إسرائيل)؟
فالمتابعُ لمجريات هذا التفاوض يرى أنّ السعودية قد وضعت شروطًا لتحقيق هذا الاختراق، والمدقّق في هذه الشروط يدرك أنّها لا تلبي الطموحات الأميركية والإسرائيلية. فالسعوديون طلبوا مقابل هذا التطبيع:
1. إنشاء معامل نووية والسماح بتخصيب اليورانيوم بمشروع نووي سلمي.
2. الحصول على أسلحةٍ أميركيّةٍ متقدّمةٍ بتكنولوجيا عالية.
3. إحداث اختراق فعلي في المسار التفاوضي بين الفلسطينيين والإسرائيليين ورسمت السعودية معالم هذا الاختراق تحت مظلة المبادرة العربية بقيام دولةٍ فلسطينيّةٍ على حدود الرابع من حزيران 1967.
أمام الشروط الثلاثة يتضح أن كيان الاحتلال بقيادته السياسية والعسكرية والأمنية غير قادر على هضم تلك الشروط، ويمكننا القول هنا: إنّ كل هذه التسريبات لا تخرج عن كونها حفلة علاقات عامة تحاول فيها وسائل الإعلام أن تكون سباقة في نقلها لكن الحقيقة في مكان آخر. الرياض تدرك أنها أمام تحدٍّ فعلي، وتملك في الوقت نفسه هامشًا من الاستقلالية والمناورة يسمح لها بإبقاء شروطها على الطاولة.
وهنا يجب أن نتوقف لنبيّن أن إصرار إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على التطبيع بين (إسرائيل) والسعوديّة هو لسببين؛ الأول: محاولات بايدن للفوز في ولاية ثانية، كما أسلفنا، وأيضًا إيقاف التراجع الأميركي في المنطقة بكسر تحالفات السعودية مع الصين وروسيا وإيران. أما مكاسب حكومة نتنياهو والكيان الصهيوني من التطبيع السعودي تكمن برمزيّة السعوديّة الدينيّة للمسلمين، وهذا يعني تسهيل عمليّة إقناع العالم الإسلامي، وبالأخصّ (السني) لشرعنة التطبيع مع (إسرائيل).
وفي هذا السياق، حذّر المسؤولون الإسرائيليّون من تحقيق شرط البرنامج النووي، ولا مبرّر لوجوده مستحضرين النموذج الكوري الجنوبي، حيث صرّح وزير الخارجيّة الإسرائيلي إيلي كوهين لوسائل إعلام "إنّ الضمانات الأمنيّة التي منحتها الولايات المتّحدة لكوريا الجنوبيّة ضدّ أي اعتداءٍ من جارتها الشماليّة التي تملك أسلحةً نوويّةً قد طمأنت كوريا الجنوبيّة، وجعلتها في غنى عن امتلاك برنامجٍ نووي خاص بها، ويضيف، أن نموذج كوريا الجنوبية هذا يصلح للتطبيق على المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى، ويساعد على إحلال السلام في الشرق الأوسط، حيث إنّ ضمانات أمنيّة أمريكيّة تمنح للسعودية ضدّ "اعتداءات إيرانيّة محتملة" سوف تجعل الطموحات النوويّة للسعوديّة غير ضروريّة. وبالإضافة الى ذلك، فإنّ الشرطين الآخرين، وهما قيام الدولة الفلسطينيّة المستقلّة ذات سيادة على خطوط الرابع من حزيران 1967، وعاصمتها القدس الشرقية لن يتحقّقا وفقًا للوقائع الاحتلاليّة والمرتبطة برفض رئيس الحكومة الصهيونيّة الأكثر تطرّفًا في تاريخ كيان الاحتلال لهذا المطلب، وتأكيده على ضرورة اجتثاث فكرة الدولة الفلسطينيّة. أمّا شرط تزويد السعوديّة بأسلحةٍ أميركيّةٍ نوعيّة ومنظوماتٍ دفاعيّةٍ متطوّرةٍ قوبل برفض المستويات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية كافة؛ لأنها ترى من شأنه أن تفقد (إسرائيل) تفوقها النوعي في التسلح في منطقة الشرق الأوسط. ونستنتج من ذلك أن حكومة نتنياهو قد رفضت الشروط السعودية الثلاثة للتطبيع معها، ما يعني الوقوف حائلًا بوجه أي إمكانيّة تحالفٍ أمنيّ سعوديّ أميركي، وذلك في إشارةٍ إلى خطوةٍ كان سيعلن عنها الرئيس الأميركي جو بايدن حول إطلاق صفقة تحالفٍ أمنيٍّ سعوديّة أميركية مع العلم أنّ خطوة بايدن تتعارضُ تمامًا مع الشروط السعودية الثلاثة، خاصّةً فيما يتعلّق بالدولة الفلسطينيّة، فالمطلوبُ من كيان الاحتلال، كما ورد في صحيفة نيويورك تايمز (27/7/2023)، هو فقط الإبقاء على حل الدولتين قائمًا بالرغم من أنّه قد صرّح سابقًا – بايدن- بأن هذا الحلّ بعيد المنال، وكل ما هو مطلوبٌ من (إسرائيل) هو تقديم بعض "التنازلات" التي لا تسمن ولا تغني من جوع، كنقل بعض الأراضي من منطقتي B و C إلى حدود السلطة الفلسطينية لتضمها إلى مناطق A.
ويأتي الحديث عن التطبيع مع دولةٍ مركزيّةٍ ومهمة في المنطقة بحجم السعودية لأسبابٍ عديدة، أهمّها ما نتج عنه في العقد الأخير من ظهور بؤرٍ سياسيّةٍ وتجاريّةٍ وصناعيّةٍ وثقافيّةٍ مع دول الخليج، التي كانت بمثابة مؤشّراتٍ أوليّةٍ على إمكانية النظام الرسمي العربي على تدجين المواطن العربي وتطويعه، وجعل الأجواء مواتيةً للاعتراف بإسرائيل دولةً في المنطقة. وبما أن الفشل يرافق مخطّط إسرائيل التطبيعي طوال العقود الماضية نلحظ أنّ التركيز الأميركي والإسرائيلي على إعادة فتح ملف التطبيع في هذه الفترة يحملُ رمزيّةً مهمّةً توظّفها حكومة نتنياهو في خدمة مخطّطاتها الاحتلاليّة، فلم يأتِ التوقيت بلا سيناريو مدروس يتوافق مع ما تمرّ به الحكومة الإسرائيليّة من أزماتٍ داخليّةٍ وما تواجهه من مقاومةٍ فلسطينيّةٍ نوعيّةٍ وصمود شعب يأبى الاستسلام، حيث تعدّ إسرائيل أن الوقت مناسب لتصفية القضية الفلسطينية، التي تعيش الآن مرحلةً جديدةً من تصاعد الهجمات من قبل الإدارة الأمريكية، التي تسعى إلى استهداف المنطقة برمتها، ومحاولة إنهاء القضيّة الفلسطينيّة، فهي ألغت كل المناقشات في القضايا الجوهريّة العالقة منذ عقودٍ، كحق العودة وحدود الدولة الفلسطينيّة والقدس والمستوطنات، وجاءت بـمشاريعَ سياسيّةٍ وصفقاتٍ أمنيّةٍ تتلاءم مع الرؤية الإسرائيليّة بأنّه "لا دولة فلسطينيّة ولا انسحاب من الضفة الغربيّة وإبقاء المستوطنات في مناطق الضفّة الفلسطينيّة مع توفير المجال الجغرافي الحيوي لحمايتها وتطويرها" ما يشكّل ذريعةً لاحتماليّة ضمّ أجزاءٍ من الضفة "مناطق ج" إلى كيان الاحتلال، وتاليًا ترجمة الواقع وفقًا للرؤية الصهيو- أميركيّة التي تقول "إنّ الخطوط العريضة لأي صفقةٍ هو تنظيم سيطرة أمنيّة" إسرائيليّة كاملة على الضفة الغربيّة ووجود أمني "إسرائيلي في غور الأردن واعتبار القدس عاصمةً للكيان".
لذلك كل ما هو متوقّع من إدارة بايدن هو استمرار محاولات تصفية القضية الفلسطينية بكل أبعادها، وإخضاع منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي إخضاعًا كليًّا لرؤيتها بعيدًا عن التحالفات الجديدة. وتعزيز دور الكيان الصهيوني في المنطقة بما يسمح بتمرير المشاريع والصفقات الأمنية كافةً؛ بهدف الإجهاز على القضية الفلسطينية باعتبارها آخر العناوين الجامعة لأي لحمةٍ عربيّةٍ مستقبليّة. وتؤكّد معظم الدلائل الآن أن المنطقة تعيش قلق مخططات استراتيجية وطويلة الأمد وتبدو من عناوينها البراقة أنّها ذو دوافع وأهداف إنسانيّة نبيلة إلا أنّها تحمل في خباياها أهدافًا سياسيّة واستراتيجيّة تخدم مصالح قوى الإمبرياليّة العالميّة.
خلاصة القول: إنّ الولايات المتّحدة تعمل لاستمرار الهيمنة والسيطرة على العالم والوقوف بوجه التطور الدولي الذي يهدف لبناء نظامٍ عالمي متعدّد الأقطاب يحقّق وينبذ سياسة الظلم والهيمنة والعدوان؛ الأمرُ الذي يلقي بظلاله على القضية الفلسطينية، لذلك نلحظ أن الموقف الدولي بغالبيته يقول باحتمالية تفجر الأوضاع داخل فلسطين المحتلة.