Menu

الحدائق التوراتية.. أحد أذرع أخطبوط الاستيطان

ثائر أبو عياش

تختلف وتتنوع أدوات الاحتلال في تهويد مدينة القدس ، سواء عبر مصادرة الأراضي، وتوسيع المستوطنات بشكلٍ أفقي وعمودي، والسيطرة على البيوت الفلسطينية في الجزء الشرقي من القدس تحديداً، ومحاولة تقسيم المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً، وفرض ضرائب عالية على المواطنين الفلسطينيين، ومحاربة فكرة الإنجاب في ظل الصراع الديمغرافي داخل القدس، ومحاربة أيضاً التعليم داخل مدراس عبر تغيير المنهاج، وصولاً إلى فكرة هدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل المزعوم مكانه كما تطمح الجمعيات الاستيطانية الصهيونية.

أحد أذرع المشروع التهويدي في القدس المحتلة هو "الحدائق التوراتية" التي انطلقت من محيط المسجد الأقصى إلى أحياء أخرى وكان أخر تلك الأحياء بلدتي "العيساوية والطور"، حيث قامت ما تسمى "سلطة الطبيعة الإسرائيلية" بمصادرة مساحات واسعة من أراضي البلدتين لصالح بناء حدائق توراتية عليها لتصبح مدينة داوود كما يحلو للاحتلال تسميتها، حيث كان قرار إقامة هذه الحدائق في بلدتي "الطور والعيساوية" منذ عام 2007، وفي عام 2013 صادقت عليه ما تسمى "اللجنة اللوائية للتخطيط والبناء في وزارة الداخلية الإسرائيلية"، وقامت هذه الوزارة في عام 2017 بتجميد هذا القرار، ولكن في شهر آب/أغسطس 2023 أعلنت الوزارة عن مصادرة نحو "730 دونم" لإقامة "حدائق توراتية".

قبل استشراف المستقبل من هذه الخطوة وربطاً بالماضي علينا العودة قليلاً بالتاريخ إلى الخلف، وتحديداً إلى عام 1891م حيث أُسست جميعة الاستعمار اليهودية "JCA" في لندن لمساعدة الاستيطان في فلسطين لتكون نواة المشروع الصهيوني للحركة الصهيونية، هذا المشروع الذي تحدث فيه "ثيودور هرتسل" بشكلٍ مفصل في كتابة "دولة اليهود" عام 1896، وروَّج لها في المؤتمر الصهيوني الأول بازل/ سويسرا في العام نفسه، داعياً لإنشاء "وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين" لتخليصهم من الشتات والاضطهاد الممارس ضدهم في المجتمعات الأوروبية.

منذ ما يربو عن قرن من الزمان يحاول الاحتلال التنقيب داخل التراب، وداخل "كتاب التوراة" عن أدلة تدعم فكرة وجود الهيكل المزعوم، لستُ هنا بخبير ديانات في هذه المادة، ولكن يقوم الاحتلال بالسيطرة على كل ما هو تاريخي، وينهب العملات المدفونة في الأرض، ويقوم بإنشاء الحدائق التوراتية وغيرها من الأدوات في محاولة مزيفة لادعاء حقهُ بالأرض والوجود عليها، ليبرر عمليات القتل الفردية والجماعية بحق الشعب الفلسطيني منذ عام 1948، وما يجعلني أختلف مع كل ما كتب سابقاً في هذا المضمار هو أن ما يقوم به الاحتلال يثبت أنهُ لا يمتلك رواية بالإساس ولذلك يحاول كتابة رواية على الأرض بعد أن يتخيلها في رأسه، أما الفلسطيني فهو بطبيعة الحال يمتلك رواية إنسانية، وأخلاقية، وتاريخية، ودينية...

بالعودة إلى "الحدائق التوراتية" حيث انطلقت هذه الفكرة تحديداً عام 1970 وحمل هذا المخطط اسم ع م/9 وتم المصادقة عليه عام 1974، وكان هذا المخطط لتهويد محيط القدس القديمة بمساحة "1100 دونم" كأول حديقة توراتية، أما الحديقة الثانية تم المصادقة عليها رسمياً في عام 2000 لإقامتها في وادي الصوانة بمساحة "170 دونم"، والحديقة الثالثة تم أقامتها على السفوح الشمالية الشرقية لجبل المشارف "العيسوية/ الطور" بمساحة "730 دونم"، أما الحديقة الرابعة والتي حملت اسم "حديقة الملك" والتي تم اقامتها في حي البستان وسط سلوان بمساحة "50 دونم"، بالإضافة إلى إقامة حديقة خامسة في جبل الزيتون بمساحة "470 دونم"، أما بخصوص الحديقة السادسة والتي حملت اسم "شمعون هتصديق" في حي الشيخ الجراح تم إقامتها على مساحة "120 دونم"، ولم تتوقف الحدائق إلى هنا حيث أقام الاحتلال حديقة سابعة في منطقة باب الساهرة بمساحة "40 دونم"، إلى جانب ذلك "سيطر الاحتلال على مساحات واسعة من عموم مدينة القدس وأقام عليها حدائق لذات الهدف، من أهمها ثلاث حدائق، حديقة النبي صموئيل جنوب غرب مدينة القدس على مساحة نحو 3500 دونم، من ضمنها أراضي ومسجد قرية برج النواطير 'النبي صموئيل'. وحديقة 'لفتا' التي تقع على مساحة نحو 80 دونما، على حساب أراضي قرية لفتا المهجرة عام 1948م. وثالثها حديقة ' وادي رفائيم – الولجة'، بمساحة نحو 1400 دونم مقتطعة من أراضي قرية الولجة، على حدود بيت جالة، وبالقرب من مستوطنة جيلو¹"

منذ عام 2010 صادرت بلدية الاحتلال ما يقارب 22% من مساحة القدس الشرقية² لصالح هذه الحدائق، وفي سياق متصل تعمل جمعية "إلعاد" الاستيطانية والتي تعتبر رأس حربة الاستيطان على مصادرة الأراضي لصالح تهويد القدس، وتُشرف "إلعاد" على ما يقارب 70 بؤرة استيطانية في سلوان، وفي عام 2022 كشفت "إلعاد" النقاب عن مشروع تهويدي في سلوان حمل اسم "مزرعة في الوادي" لإقامة حديقة وطنية في سبيل جذب السياح إلى القدس.

تعتبر "الحدائق التوراتية" هي جزء من عملية تهويد البعد التاريخي لمدينة القدس، عبر خنق أحياء المدينة وصولاً إلى تفريغها من السكان الأصليين، حيث تمنع هذه الحدائق أهل القدس من القدرة على البناء داخل المدينة، ومن زاوية أخرى يسعى الاحتلال إلى تشويه الوجه الديني العربي "الإسلامي" لمدينة القدس، وفرض الوجه التوراتي عليها عبر هذه الحدائق، محاولاً اختراع هوية يهودية في القدس عبر جعل السكان الفلسطينيين هم "معذبو الأرض"، وفي سياق منفصل لم تكن هذه الحدائق إلا لتؤكد على ما يصبو لهُ الاحتلال عبر خلق واقع المستعمِر والمستعمَر والذي تحدث فيه "فرانز فانون" في كتابة "معذبو الأرض"، وأكثر لم تخرج هذه الحدائق من عباءة "هيغيل" في جدلية العبد والسيّد، وبل لم تكن هذه الحدائق إلا تعبير عن تاريخ الصراع في التفاوت بين البشر في جدلية الضعيف والقوي التي تحدث فيها "جان جاك روسو" في كتابة "أصل التفاوت بين البشر"، ولكن لنتمعن جيداً فيما قاله "فرانز فانون" في كلماته التالية: " لا يرفع الاستعمار يده إلا إذا وضعت السكين في رقبته".

_____

¹. محسن، محمد، 2015. "الحدائق التوراتية"... أخطبوط الاستيطان والتهويد للقدس القديمة والأقصى.

². مجلة آفاق البيئة والتنمية، 2023. الحدائق التوراتية في القدس استيطان وتهويد تحت مسمى "الزراعة والمساحات الخضراء".