Menu

اكتشاف الثورة

خالد فارس

لا نُبالِغ في القول: أن أهم اكتشاف وتقدم في تاريخ الإنسان منذ عصر الحداثة في القرن السابع عشر، هو الثورة.

لم تكن الثورة وليدة عصر الحداثة، ولكنها صاحبت ولادة العصر وتقدمه، ولم تفارقه في كافة المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية. يجسد تقدم الحداثة الثورة حياة، وليست مجرد حدثاً عرضيا-ظرفيا، عابراً. تَشْغَلْ المثقفين والسياسيين والشعوب. للثورة أدبيات وكتب ودراسات متخصصة. بل إن القراءات الحديثة للتاريخ القديم تبحث عن مكنونات-كينونات الثورة في الشعوب القديمة، وما كان لهذه القراءات مكانا، إلا لأن الثورة تعيش فينا وبيننا. لم يَحْدُثْ في عهود ما قبل الحداثة، أن قُرِأَ التاريخ القديم ضمن سياقات الثورة، لأن الثورة مفاهيم وأدوات العصر الحديث، فهي من اكتشافاته في سبر غور سيرورات التقدم والتطور.

برزت تنظيرات حول اكتشاف الثورة وتداعياتها في العصر الحديث من منظور فلسفة العلوم. على سبيل المثال جاء كتاب "بنية الثورات العلمية" للمؤلف توماس صامويل كون، الصادر عام 1962، لكي يشير إلى أن "الباردايم" العِلمي الذي يُعَبّر عن نموذج تفكير ما، يبرز في شكل تغيير نظري يتخذ شكل تغييرات عالمية، وبالجُمْلَة، في مجموعات الافتراضات التي يتضمنها النشاط العلمي. على سبيل المثال، الانتقال من تصورات بطليموس الى كوبرنيكوس للكَوْن، لم يكن تدريجيًا أو بالقِطْعَة، بل عالميًا وثوريًا، وبالتالي كان بمثابة نقلة نوعية. نورد موقف كون ليس من باب الاتفاق معه في تحليله وموقفه من النظريات العلمية، ولكن للإشارة إلى أنماط التفكير السائدة لدى المفكرين والنخب والفلاسفة حول صيرورة الثورة في العصر الحديث. فالثورة قد تغلغلت في نسيج العقل والأفكار والمجتمع.

يَحْضُرْ كتاب المؤرخ إريك هوبزبوم "عصر الثورة أوروبا (1789 – 1848) بمثابة إشارة قوية على أن الثورة عنوان عصر، وليست جغرافيا محددة، بل هي تدخل الثورة نطاقاً كونياً لأول مرة في تاريخ الإنسان. توالت وتوالدت الثورات في العالم الى يومنا هذا. جاء في تقديم الطبعة الأولى ص-14 ".. استعراض الآثار والتداعيات التي اِنداحت على بقاع العالم الأخرى،... جراء الثورة الفرنسية، والثورة الصناعية، وحملات نابليون، والتوسع الاستعماري الأوروبي، وبدايات التفاعل الثقافي والعلمي والسياسي الحديث بين العرب وأوروبا." (ترجمة د.فايز الصُياع. تقديم: د. مصطفى الحمارنة).

رفض إيمانويل كانط الثورة، واعتبر أنه لا يوجد حق في الثورة. عَبَّرَ كارل ماركس معترضاً على فلسفة كانط بقوله "قماءة البرلمان"، حيث أن كانط من الفلاسفة الذين يعتبرون أن التغيير بواسطة البرلمان أمر أخلاقي وتحرري. أما ماركس فقد اعتبر أن الثورة ضرورة، وأن هناك ضرورة لإعادة بناء الدولة (تحرر سياسي) و-أو ما بعد الدولة (تحرر إنساني). عادَ كانط واعتبر الإصلاح ضرورة، غير كافية. حيث أن الإصلاح يقود الإنسان الى أن يكون صالحاً من الناحية القانونية، ولكن ليس كافياً للناحية الأخلاقية. لذلك تبنى نوع من ثورة في الشخصية الأخلاقية للإنسان. تموضعت أطروحة كانط بصدد الثورة الأخلاقية أو القيم العليا في سياق ثقافي، ثقافة الإنسان المهنية-الحِرَفِيَّة والانضباطية. هناك العديد من المُفَكرين في أوروبا والعالم ينظرون الى ماركس وكانط بتقاطعات فيما بينهم في الإستراتيجيا، من حيث عدم التناقض في المشروع الإنساني. لا مجال للحديث عن هذا الأمر هنا.

نتعلم من الاشتراكية التي أنتجها كارل ماركس أن هناك مراحل في التاريخ، تتجسد في التاريخ الكلي للعالم والتاريخ الجزئي للجغرافيا. تؤكد لنا المراحل أن الثورات عمل جماعي وليس فردي، ويمكن القول: أنهم افراد مُوَزَّعين على جماعات أهلية أو وطنية أو سياسية. وحركة هذه الجماعات يتخذ طابع الاتجاه التاريخي، أي أن الكائن البشري لديه نزوع نحو التحرر الجماعي، باتجاه غايات عليا (أطلق عليها ماركس المجتمع الشيوعي وكانط مملكة الغايات النهائية)، يتحقق له فيها حقيقته الإنسانية.

لم يَرْهَنْ ماركس التحولات الجزئية إلى الكُلِّية. فكل تحول جُزْئي مَرْهون إلى قدرات وظروف، ولا يحتمل مقاييس أو جَوْدة الكلي. فالثورات التي تحدث في أي مكان في العالم، ليست ثورات كلية بما فيها السوفييتية والصينية والجزائرية والفلسطينية والإيرانية والفيتنامية وقبلها الفرنسية والأمريكية والبريطانية ...إلخ، أي أنها تحمل الانتقال الجزئي، هي تجسيد للجزئي الممكن. ففي هذا الزمان لن تكون الثورات إما اشتراكية صافية الوجود أو لا، كُلَّية أو لا داعي لها. فالثورات الكلية هي تصورات مجردة، من إنتاج الذهن المَحْض، وليست من الواقع. ليس بالضرورة أن يحدث تحول إلى الاشتراكية الشيوعية، لكي تكون الثورة، ثورة حقيقية.

بسبب الثورات حدث تغير نوعي في مفهوم التقدم (الحالة التقدمية) الإنساني. قبل "عصر الثورات"، خضع التاريخ الى الميتافيزيقيا والأساطير والحكايا الشعبية، وقَصَصْ الأديان التي سيطرت في النهاية، وحولت تاريخ الإنسان إلى تاريخ "العِناية الإلهية أو القَدَرْ الإلهي" في الطبيعة، التي لها بداية إلهية، ونهاية في الآخرة الإلهية. مع دخول الإنسان عصر الثورة، ننتقل من تاريخ "العناية الإلهية" بمعنى التدبير الإلهي في الطبيعة وحياة الإنسان، الى تاريخ الإنسان في المجتمع أو التدبير الإنساني في الطبيعة وفي حَياتِهِ.

بِلُغَةٍ أخرى، ماذا نعمل ونمارس أو كيف نتبادل أعمالنا وممارساتنا وصناعة تشريعاتنا-التبادل الإنمائي التقدمي، هو الذي له معنى في بناء التقدم من عدمه. الاحتلال مثلاً، ليس "قدر إلهي" أو تدبير إلهي، فذلك لا يُفَسّرْ شيء، ولا يفسر السياسي في التاريخ، لأن الأمر مرتبط بِغايات سياسية من صُنْع الإنسان، نشأت في مجتمعات أثناء سيرورة بناءها لمجتمعاتها. وليس "قدر الطبيعة أو غائية الطبيعة" كما حاول الكثير من منظري الغرب اللاهوتيين الإشارة له، بل هي تاريخ سياسي للمجتمع الإنساني. ويعود الى تاريخ ولادة الدولة الحديثة وإلى سيرورات تطورها في أوروبا وأميركا منذ ما قبل وخلال القرن السابع عشر، وما بعده.

وضعت الثورات أسئلة الحياة أمام تحول نوعي، لم يعد هناك الحاجة الى سؤال يبحث في قصة أصل وجود الإنسان (يبقى سؤال عِلمي من اختصاص الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، لكنه يبحث في الجانب المادي، وليس في سردية انثروبولوجية دينية)، لأن الثورات الحديثة التي تنامت وتعايشت مع مفاهيم فلسفية معاصرة، أعادة طرح سؤال الوجود، فأصبح سؤال الوجود قائم على افتراض أزلية وجود الإنسان، وتاريخ الكون لا وقت محدد له، وبالأحرى الكون حالة لا نهائية. إن السؤال عن أسباب الوجود أو متى، سيعني حُكماً، وجود افتراض مسبق بأن أسباب الوجود (البداية) هي القضية الأصلية للإنسان، وبالتالي فإن الإنسان بذاته ليس هو الأصل، بل إن الإنسان هو تابع الى سردية أو قصة وقضية أصل وأسباب وجوده الأولي، تأبيد وإقحام نقطة بداية في كل شيء قادم سياسي وغير سياسي.

أما عندما نتجاوز سؤال متى وكيف اِنوجد الإنسان، يصبح الإنسان بذاته مركز القضية الإنسانية والكون. هذا ما تبناه كانط وماركس وجون لوك، فلسفيا، سواء من خلال مشروع الكائن الأخلاقي (كانط ضمن مشروعه العَلْماني في سعيه نحو "مملكة نهايات" على أساس علاقات بين البشر تنبع من القيم العليا الأخلاقية) أو الكائن المُنْتِجْ-العمل (ماركس ضمن مشروعه الذي سعى الى راديكالية عَلمانِية اجتماعية في مواجهة الليبرالية التي تقوم على الفَرْدِيّة، وتحويل المشروع العَلماني الى مجتمع واجتماع بشري صانِع للحياة الكونية)، أو عَلْمَنَةْ الدين (جون لوك). لكل من هؤلاء الفلاسفة إشكال يتراوح بين المركزية الأوروبية (ماركس وكانط) والعنصرية (كانط وجون لوك). وهذه أسئلة خارج مجال هذا المقال، ولكن سنجد أن هذا الإِشْكال له جذور في كيف تم التعامل مع "غائية الطبيعة" التي تناتجت من محاولات دَنْيَوَةْ "الغائية الإلهية." وأحيانا كما يقول البعض عن كانط، مثل البروفيسورة Lea Ypi من كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، حدث الالتباس بسبب خَوْضَهُ في نقاشات التناظر بين الطبيعة والإله، من منظور تعليمي وتوضيحي، وليس ديني.

حتى يكون النقاش موضوعي في سياق مفاهيم الثورة، يجب طرح تقييم الفلاسفة من منظور ثوري سياسي وإنساني. بمعني أن الثورة لا تنفصل عن السياسي والعكس، بذا يكون، حسب ما نعتقد به، أن إنجاز مشروع الثورة هو إنجاز مشروع التحرر السياسي، لذلك، فإن المشروع الفلسفي الذي يدعو الى بناء جماعات سياسية (مثل الطبقة الثورية عند ماركس، التي هي بنية في التاريخ السياسي التحرري يجمعها ممارسات سياسية تشكل نُواةْ تماسكها) هو الذي يقارب الثورة من منظور إنساني كوني. وتبقى مسؤولية النخب المُتَوَزِّعَة في الجغرافيا السياسية أن تبحث عن آليات بناء مشروع التحرر السياسي الخاص بها، وكيفية تكامله مع إستراتيجيات التحرر الإنساني. وعندما تتعرض جماعة أو مجموعة الى استلاب سياسي، أي منعها من أي يكون لها بُنية سياسية أو وجود سياسي يعبر عن حالتها الثورية التي تُجَسّدْ تَطَلُّعاتِها في التحرر السياسي والإنساني وتقرير مصيرها، ستتحول الى حالة انعزالية فاقدة لحقوقها وتتوسل منافع مدنية مثل الأجور والإقامة والرَّيْع.

سؤال الوجود ليس مُعادياً للدين أو المُقدس، بل هو نقيض محاولات إقحام المُقدّس في تفسير التاريخ السياسي، والعَطْف على تحركات سياسية كونها "عناية إلهية أو قَدر"، بل من الضروري من أجل تحرر الإنسان أن يكون هناك فهمٌ ثوري، أي إنساني، ماذا فعل الإنسان بماذا ولماذا وكيف؟ ولتلك الغاية يَتَكَشّفْ سؤال الوجود سياسي لكي يكون إنساني والعكس. إن مهمة الثورة أو المثقف الثوري هو أن يُطَوّرْ أسئلة وجود سياسية، تَطالْ حياة المجموع العام أو العام الاجتماعي، حياة الناس، والعالم.

نكوص الثورات:

يمكن إرجاع نُكوصْ الثورات إلى الانزياح عن السياسي، من التحرر السياسي الى الأنثروبولوجي بذاته أو الممتد عبر الديني. فتنشأ حاجة لاستعادة أو تَعْميد قصة وقضية أسباب أصل وجود الإنسان. التي سيتم ربطها مع قِصة أو سيرة أو أسطورة تعتبر نقطة البداية للحياة، كونها فرضية مُسْبَقَة، تتدخل في السياسي المعاصر، مثل "شعب الله المختار" التي تفرض على حل السؤال السياسي و-أو الإنساني، بما هو مقرر مُسبقا على السؤال، بأن هناك شعبٌ اختاره الله واصطفاه على العالمين.

هناك سبب جوهري آخر حول نكوص الثورات، يعود الى مواجهة السياسي بالمدني. بمعنى أن يكون مشروع التغيير السياسي بقيادة جماعة مدنية وليست سياسية بمفهوم التحرر السياسي (في شكل حقوق سياسية ومدنية أو حقوق وطنية وقومية مثل حق تقرير المصير). هذا من شأنه أن يضع السؤال السياسي في سياق مدني محض، بمعنى الاكتفاء بإحداث تبديل في بُنْيَةْ القوانين المدنية وتحقيق نظام منافع مدني، وإخضاع العملية السياسية اليها.

اللافت، عندما يحدث تحالف الأنثروبولوجي بذاته، أو الممتد عبر الديني، مع الجماعة المدنية، الأمر الذي يدفع الثورة نحو أسئلة لا سياسية حديثة أو عَصْرية، تتركز حول التوفيق بين متناقضات سياسية، بمبادئ الأول والثاني. يحدث هذا في الوقت الذي تغيب فيه طبقة اشتراكية (عربية أو كونية) بقيادة أحزاب وحركات سياسية يمكن أن تُشكل مركز جاذبية للمشروع السياسي التحرري. ودور هذه الطبقة أن تحمل مشروع تحرير الأسئلة الإنسانية، وتحويلها الى سياسية، تتكشف في حياة الإنسان من حيث عدم المساواة وغياب الحريات والاستغلال والاستلاب للفرد والعام الاجتماعي. وللطبقة مهمة تاريخية في تمييز التحرر الإنساني الكلي عن السياسي المرحلي-الجزئي (القسم الثاني سيتوسع في هذا الأمر)، ويعيد مفهوم الدولة العربية الحديثة على أساس العام الاجتماعي، سياسياً.

لكن هناك نكوص عن الثورات أيضا، في العالم الغربي الأوروبي والأمريكي. فهذا العالم، تَعْتَقِدْ نُخَبَهُ الليبرالية والقومية وبعض اليسارية، أنه يمثل العالم المتقدم المتطور، حَوَّلَ الأسئلة التاريخية السياسية الى قضايا مدنية بالدرجة الأولى، لأنها طريقة ناجعة لتأبيد الدولة التي توصل لها بعد آخر ثورة سياسية قام بها. ومن أجل ذلك، يتبنى نظريات نهاية التاريخ من حيث أنه عالم متقدم، والعالم الآخر: العربي والإفريقي واللاتيني، عالم "يتطور" وليس "مُتطوراً". في هذا الطرح ترى النخب الغربية أن سؤال التقدم بواسطة الثورة ليس غَربياً، بل شرقيا عربيا، أو أفريقيا أو لاتينياً.

يَتَنَكّرْ هذا العالم الى أن "تطوره-تقدمه" ليس مستقلاً عن استغلال الثروات العالمية، التي أصبح لها طبقة كَوْنِيّة عابرة للدول الوطنية والقومية، ضاربة جذورها في الاقتصاد السياسي منذ عقود طويلة. تعمل هذه الطبقة على تمكين ذاتها كقوة ومركز جاذبية للسيطرة على الأسواق والأسعار والأجور والثروات الوطنية. بذا، يمكن القول: أن نكوص الثورة يعود في جزء أساس منه الى هيمنة هذه الطبقة العابرة للدولة، على مقدرات العالم. تمارس هذه الطبقة من خلال تحالفها مع الدولة سياساتها، وفق نموذج إداري وقطاع خاص يلعب دوراً كبيرا في ديناميكيات الحياة، وبرلمانيا، يحمي الحريات العامة وحرية التعبير الفردية التي تخضع الى حُكم القانون. وهذا الأخير ليس بلا خطيئة، ولكنه يعتبر الأكثر بلوغاً ووعياً في العصر الحديث والواقع الماثل أمامنا.

يغيب في المقابل، في مواجهة الطبقة الرأسمالية العابرة للدولة، طبقة اشتراكية عابرة للدولة، تطرح مشروع تحرر سياسي عالمي يحافظ على الأقل على حقوق الشعوب من أجل السيطرة على ثرواتها الوطنية وعدم استغلالها من جانب الطبقة الرأسمالية الغربية. لكن اليسار الأوروبي لا يتحدث في هكذا مشروع، ولا يريد التطرق الى جذوره، لأن سؤال التحرر السياسي تنامى عند اليسار الأوروبي في أسئلة مدنية حقوقية الطابع، في نطاق الدولة الوطنية-القومية، وتحت سقفها. تخلى عن الحَيّزْ الكوني للطبقة الرأسمالية العابرة للدولة، فأصبح يساراً حقوقياً مَنْفَعِيًّا دولتياًّ، بامتياز، أي تخلى حتى عن فكرة التحرر السياسي الوطني والكوني.

يتعمق النكوص الثوري في أوروبا الغربية وأميركا في ظاهرة اليمين القومي أو الليبرالية القومية. حيث أن الحيز الذي تخلت عنه الطبقة الاشتراكية الغربية والأمريكية لصالح الطبقة الرأسمالية العالمية العابرة للدولة، وجد اليمين الليبرالي في شكله القومي، مجالاً له لكي يزاحم من داخل الطبقة الرأسمالية العالمية بعد أن أصبحت حيزاً رأسماليا محضاَ وحِكراً لا ينازعها طبقة اشتراكية نقيضة، بلغة أخرى فَرَغَ الميدان الطبقي لها، وحان وقتها لكي تُجَيّر هذا الواقع الطبقي الكوني لمشروعها الليبرالي القومي.

القاسم المشترك بين اليمين الليبرالي القومي الغربي يكمن في ادعائهم 1) أن عدم المساواة بين البشر ظاهرة طبيعية للمجتمع الحديث، وهذا يعني من غير المسموح قيام ثورة بسبب عدم المساواة، 2) يُنْكِرْ هذا التيار أن هناك شيء اسمه صراعات طبقية، فقط صراعات تقوم على أساس الهُوية القومية وهذا يعني أيضاً أن الثورات هي صراعات هُوية قومية وليست من أجل الإنسان، أي أن للهُوية والقومية غائِية (إعادة إنتاج مفهوم غائية الطبيعة قبل الحداثة، في هُوية جماعة قومية) ويجب الاعتراف بغائية الهُوية (نتذكر أن دونالد ترامب عندما أراد المشروع اليهودي القومي بِغائِيَّتِهِ-على أنه غائي، يُعَبّر عن حقوق أبدية وأزلية غير قابلة للنقاش، وأن هناك سردية أنثروبولوجية دينية "يهودية مسيحية" سابقة على تقدم الإنسان أو مفهوم الثورة والحرية، ومنها يَنْبُعْ مفهوم لأي نظام سياسي)، 3) تَبَني مبدأ العَسْكَرَة والحِصار على الآخر وفرض أنظمة سياسية، 4) تعريف للعدو الخارجي المتمثل بالمهاجرين وبعض الديانات بذاتها والثورات التحررية والمقاومة. سَنَدْ اليمين الليبرالي، الطبقة الرأسمالية العالمية، التي يريد هذا التيار استقطابها لتُصْبح قاعدة اقتصادية له، يمارس اقتصاده السياسي، ومركز للكُتْلة الصلبة على مستوى العالم، لمواجهة ثورات التقدم التي تغير في السردية الانثروبولوجية الدينية والمُساواة، وإطلاق ثورة سياسية نقيضة لهذا المشروع.

عندما تتوقف الثورات، تتوقف ديمومة عصر الحداثة، وتصبح الحداثة قضية مركزية لثقافة وهُوية. وتفقد الثورات تأثيراتها الكونية، فتتحول مفاهيم الكونية الإنسانية الى عولمة أرباح وسِلع، تُرافقها وتُوازيها سرديات أنثروبولوجية ما بين هُوِية ودين في شكل قومية دولتية (اليمين الأوروبي والأمريكي مثال).

يُتْبَعْ....