Menu

في عالمٍ شديد التعقيد، سريع التغيّر: مجموعة "بريكس" واحتدام الصراع على الهيمنة والنفوذ (2-2)

م. تيسير محيسن

نشر هذا المقال في العدد 53 من مجلة الهدف الإلكترونية

في ضوء ما ذكرنا في المقال السابق، يثور سؤالان: ما علاقة بريكس بالعولمة؟ وكيف تنظر دولها إلى منظومة "الحوكمة العالميّة" بجوانبها وأبعادها المختلفة؛ السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة والاستراتيجيّة؟ هل بريكس من بين إفرازات أزمة العولمة وتصويب لمساراتها المتوحشة؟ أم ارتداد عنها وتمرّد عليها وتجاوز لها؟

في الحوكمة العالميّة:

ثمّةَ إجماعٌ أن النظام العالمي يمرّ في مرحلة "تحوّل"، من أحادي القطبيّة إلى نظامٍ متعدّد، غير مركزي، ثنائي القطبيّة أو متعدّد القطبيّة أو حتى لا قطبي! الجدير، أن القوة لم تكن موزعة يومًا بالتساوي بين الدول؛ ولكن بقدر ما يتعلّق الأمر بالتحوّلات في ديناميات القوة العالمية، فإنّ العالم لا يزال يعيش أكثر وسط عمليّة "التحوّل" في عالم سريع التطوّر، دينامي وشديد التعقيد.

يفسّر الخبراء صعود بريكس في اتجاهين مختلفين: الأول يرى أن بريكس، صعودها وأهدافها، وعمليّاتها، إن هي إلا جزء من العولمة وانسجام مع قوانينها ومبادئها، بل ويضيف هؤلاء أن بريكس جاءت لتصويب مسار العولمة ويضربون مثلًا بموقف دولها من أزمة 2008/2009. ترى دول بريكس في "تحرير" التجارة أداةً لتعزيز النمو الاقتصادي وتسهيل التنمية، وهي تتبع استراتيجيّة موجّهة نحو النمو منذ التسعينات، اقتصاداتها باتت وجهة الاستثمار الأجنبي المباشر، وتؤدّي دورًا متزايد الأهمية في تلبية المطالب العالميّة لرأس المال.

هذا بينما يرى آخرون أن بريكس هي القوة المعارضة وربما البديلة على الجهة الأخرى من المتراس. حيث إن استمرار الاتجاه الحالي في نمو الناتج المحلي الإجمالي، وتدفّقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الخارج، والأهمية المتزايدة لهذه البلدان في إعادة تشكيل العلاقات التجارية الدولية، قد يتطلب إنشاء نظامٍ اقتصاديّ وسياسيّ عالميّ جديد. 

بينما كان العالم يشهد صعودًا ملحوظًا لليمين الشعبوي في ديموقراطيّات غربيّة عريقة، كما في ديموقراطيات ناشئة كالهند والبرازيل، بدا وكأن العولمة تصاب في مقتل، مع شعار "أمريكا أوّلًا"، وعودة الحمائيّة، وتصاعد أعمال الشغب العنصريّة. كانت المفاجأة أن بريكس أكدت التزامها بالمحافظة على الأمم المتحدة والحوكمة العالمية والعولمة الاقتصادية. فقد انصبت قرارات قمتهم السنوية 2017 على تطوير استراتيجيات للدفاع عن الحوكمة العالمية والعولمة الاقتصادية والتجارة الحرة والعمل الجماعي المناخي.

عام 2017، التقى الرئيسان الأمريكي والصيني، وكانت لكل منهما نظريّته في التغيير: أراد ترامب زيادة الوظائف الأمريكيّة وتقوية الاقتصاد الأمريكي بالحدّ من التجارة الحرّة، بينما أراد شي جين بينغ تقوية الاقتصاد الصيني من خلال حماية التجارة الحرّة والعولمة والحوكمة العالميّة.

يستمرُّ الجدل حول ما إذا كان العالم قد تحول من عالم أحادي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب. لكن ما هو واضح هو أن الاقتصادات الناشئة بدأت تؤدي دورًا أكثر أهمية في الاقتصاد العالمي وفي السياسة العالمية، أصبح العالم النامي محركًا للاقتصاد العالمي، ظهور أقطاب متعددة للنمو مدفوعة بنمو الطبقة الوسطى وبامتلاك قدرات وموارد سياسية وعسكرية مؤثرة عالميًّا. جميع دول البريكس أعضاء في مؤسسات دولية ومتعددة الأطراف، مثل منظمة التجارة العالمية، والأمم المتّحدة، ومجموعة العشرين، واتفاقية الأمم المتّحدة الإطاريّة بشأن تغيّر المناخ، وتشارك بنشاط فيها.

يبدو أن بريكس تمكّنت حتّى الآن من تحويل قوتها الاقتصادية إلى تأثيرٍ سياسيٍّ دوليٍّ ملحوظ: دور عملي وفكري في إصلاح المؤسّسات الماليّة الدوليّة، وفي عمليّات وضع القواعد والمعايير في السياسة العالميّة (التدخّل العسكري والحماية) وإصلاح مجلس الأمن. ربما افتقار دول المجموعة إلى قوّةٍ توجيهيّةٍ (شغف أيديولوجي وبصيرة نافذة واختيارات سياسية حكيمة وثقة راسخة) جعلها متباينة في موقفها من "الحوكمة العالمية".

يرى كثيرون أن بريكس باتت تشكل تحدّيًا للنظام الرأسمالي؛ بسبب قوتها الاقتصاديّة، واستقلاليتها الماليّة، دورها السياسي المتنامي من خلال تعاونها وتمثيلها في المنظّمات الدوليّة ذات الشأن ودبلوماسيّتها النشطة. أعلنت بريكس رؤيتها منذ البداية لنظامٍ عالميٍّ بديل: "إننا نؤكّد دعمنا لنظام عالمي متعدد الأقطاب أكثر ديمقراطية وعدلًا يقوم على سيادة القانون الدولي والمساواة والاحترام المتبادل والتعاون والعمل المنسق واتخاذ القرارات الجماعية لجميع الدول". يرد المؤيدون نموذج بريكس للحوكمة العالمية إلى مبدأ منع الهيمنة! وإن تحقيق ذلك يتم من خلال خلق عالم متعدد الأقطاب تكون فيه الهيمنة مقيدة في البداية وتصبح في النهاية مستحيلة.

في السياسة والأمن:

بينما أضحت بريكس كيانًا سياسيًّا يسعى وراء استكشاف الفرص الاقتصاديّة وإصلاح نظام الحوكمة العالمي ويروم إعادة هيكلته، تمثّل دوله، كل على حدا، لاعبًا إقليميًّا بارزًا في الحفاظ على الأمن والتعامل مع التحديات الاقتصادية، من خلال العمل في المؤسسات الإقليمية (التعاون الإقليمي) أو بالتنسيق مع اللاعبين الدوليين الرئيسيين. باستثناء روسيا الاتحاديّة، تمارس بقية دول بريكس نفوذها عالميًّا لأوّل مرّة. دول المجموعة، فرادى ومجتمعين، أسهموا في مفاوضات تغير المناخ، طالبوا بإصلاح الأمم المتحدة، تعاملوا مع الأزمات والقضايا السياسية باهتمام واستجابة ملائمة.

تعدّ قضيّة "إصلاح مجلس الأمن" بندًا أساسيًّا على أجندة إصلاح الأمم المتحدة؛ ولكن لماذا تبدو القضية مستعصية على الحل؟ روسيا والصين (عضوان دائمان في مجلس الأمن) لا تدعمان تطلّعات دول البريكس الأخرى ليكونوا أعضاء دائمين. كما لن تدعما أي مبادرة تحد من حق النقض أو تفويض هذا الحق لأي دولة أخرى. عمومًا، جميع دول البريكس أعضاء أساسيون في الأمم المتحدة، التي تعدّها دول بريكس أكثر المؤسسات شرعيّة لتبني إجراءاتٍ جماعيّةٍ لحفظ السلام واستعادته، يريدون أن تؤدي دورًا مركزيًّا في شؤون السلم والأمن الدوليين. يسهمون في نشاط الأمم المتحدة لحفظ السلام من خلال توفير القوات وتكريس المزيد من الاهتمام لتدريب الأفراد وتقديم التمويل.

يتفق جميع أعضاء بريكس على أن الأمم المتحدة في حاجة إلى إصلاحٍ شاملٍ بما في ذلك مجلس الأمن لجعله أكثر فعاليّة وكفاءة وتمثيلًا.

نظرًا للطموح الدولي المتزايد لبريكس وتوسع مصالح دولها في العالم، راحت تعيد التفكير في موقفها من "مبدأ مسؤولية الحماية" RtoP لتصبح قراراتها أكثر برغماتية وقائمة على المصالح وليست أيديولوجية، علمًا أنّها حتى الآن لا تدعم قرارات مجلس الأمن حول العمل العسكري بحجة حماية حقوق الإنسان احترامًا لسيادة الدول، ونظرًا لمعاناتها ذاتها من التدخّلات سابقًا.

يرى البعض أن تلعثم بريكس في الدعوة إلى إصلاح مجلس الأمن، وإصلاح المؤسسات العالمية الأخرى، يعود إلى خشيتها من التسبب في زعزعة استقرار النظام العالمي الحالي.

بينما أخذت دول البريكس تؤدي دورًا مهمًّا للغاية في نظام الأمن الدولي استنادًا إلى ثقلها الاقتصادي والسياسي والقيمي، جاء الغزو الروسي لأوكرانيا واستمرار الحرب هناك ليخلق تحدّيًا وحرجًا لكل دولةٍ من المجموعة (أثارت الحرب تساؤلات حول التزام دول البريكس بمبادئ احترام وحدة الأراضي والسيادة ورفض ازدواجية المعايير)، وليحد من درجة توافقها السياسي على المسرح العالمي تجاه بقية القضايا على الأجندة. 

في الاقتصاد والتجارة:

حينما بدأت دول بريكس تدريجيًّا مسارها الصاعد من خلال استراتيجيّةٍ عالميّةٍ مصمّمةٍ للاستفادة من الاقتصاد العالمي والاندماج فيه، وباتت شريكة اقتصادية وتجارية مع دول ومؤسسات دولية؛ أصبح إصلاح هذه المؤسسات محط اهتمامها، حيث يمكن استخدامها لحماية مصالح بريكس المتزايدة ولتعكس قيمها ورؤاها لمستقبل النظام العالمي وحوكمته. 

عندما انعقدت قمة مجموعة بريك الأولى خلال الأزمة المالية عام 2008، ركزت على كيفية فهم الأزمة وكيفية العمل معها داخل مجموعة العشرين لإصلاح المؤسسات المالية الدولية، إجراء عمليات تكييف متبادلة وتدريجية، إصلاح نظام العملة العالمي، من خلال الترويج لبديل للدولار الأمريكي أو من خلال تعزيز حالة حقوق السحب الخاصة، تنويع العملات الاحتياطية الدولية، ضمان التوزان في ميزان المدفوعات، محاربة هيمنة الدول الغربية على آلية صنع القرار في صندوق النقد الدولي، السعي إلى نظامٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ دوليٍّ جديدٍ مبنيٍّ على مبادئ التعدّديّة القطبيّة والعدالة والإنصاف والديمقراطيّة.

ملاحظات ختاميّة:

  1. قد يؤدّي إصلاح النظام العالمي بوتيرةٍ سريعةٍ جدًّا إلى زعزعة استقرار النظام الاقتصادي والسياسي العالمي. وهذا يعني أنّه من المرجّح أن تكون دول البريكس حذرةً عند الضغط من أجل إصلاح مؤسّسات مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، للتأكد من أن مثل هذه الإصلاحات لا تضر بمصالحها الخاصة.
  2. النقد الموجّه ضد المجموعة ليس جديدًا، إلا أن النغمة العامة هي التي تغيرت في طرح الشكوك حول أهمية المجموعة وإمكاناتها لتشكيل الأحداث الكبرى، مع الاعتراف بأن الطريق إلى القيادة العالمية والإقليمية أكثر صعوبة مما كان متوقّعًا في السابق.
  3. لقد تغيّر السياق السياسي العالمي الحالي الذي تعمل فيه البريكس بشكل ملحوظ. إن أزمة التعددية التي يتم إدانتها غالبًا، التي تتميز بتحديات نسبية (قطاعية) ولكن ليست جوهرية (انهيار النظام) للنظام القائم على القواعد، وعودة التنافس بين القوى العظمى قد توفر فرصًا وتحديات لبريكس. إنّه يوفّر تحدّيات لأنّ صعود معظم أعضائه قد سهلته الهياكل الاقتصادية الليبرالية للحوكمة العالمية التي تظهر الآن تحت الضغط والفرص مع استمرار الهيمنة الغربية في النظام العالمي في التآكل.
  4. من المرجح أن تكون قمة البريكس في أغسطس حدثًا معاديًا جدًّا للغرب، ثمة خشية أن تتحول قمة البريكس إلى كتلةٍ كبيرةٍ مناهضة للغرب، على الرغم من أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة شريكان تجاريان رئيسيان. تحلم جنوب إفريقيا بمجموعة بريكس قوية، من شأنها موازنة الهيمنة الأمريكية، وعلى وجه الخصوص عملتها، الدولار. كما ينبغي مناقشة إنشاء عملة مشتركة لدول البريكس في أغسطس.
  5. تعد بريكس في نسق الحوكمة العالمية بمثابة قوة تقدمية، ستصبح إدارة تأثير هذه القوى الناشئة وإصلاح المؤسسات العالمية قضية حاسمة لنظام حوكمة عالمي فعال.
  6. قد يكون الحل أمام بريكس في نهاية المطاف إنشاء كتلة اقتصادية عالمية (مع مؤسساتها البديلة وكذلك عملتها البديلة) لكسر هيمنة الغرب وإنهاء النظام أحادي القطب.
  7. توسيع البريكس يمكن أن يسهم في تحقيق توازن أكبر في القوى العالمية وتقليل الهيمنة الواحدة. ومن خلال زيادة التعاون والتضامن بين الدول الأعضاء الحاليين والمحتملين، يمكن أن يتم تعزيز التنمية المستدامة والازدهار الاقتصادي على المستوى العالمي، ومع ذلك فلا يزال معيار القبول محل نظر وخلاف؛ فعالية اقتصادية أم نفوذ سياسي أم كلاهما؟