Menu

غسّان كنفاني.. حكايةٌ وملحمةٌ وهُويّةُ كلّ فلسطيني

بسام عليان

نشر هذا المقال في العدد 54 من مجلة الهدف الإلكترونية

تبدو الكتابةُ عن غسّان كنفاني شبيهةً بإعادة صياغة حكاية أسطوريّة، في كلّ مرّةٍ تتّخذ صبغةً مغايرة، بدلالاتٍ لم تخطر على البال، ولا تخلو من اكتشاف مناضلٍ كبيرٍ مميّز، وخيال أديبٍ وفنانٍ مليءٍ بالقيم الذهنيّة النضاليّة المضافة.

هناك حقيقةٌ داخل غسّان المثقّف والمناضل والقائد والفنان التشكيلي تبدأ من ثقافة الاشتباك وصفحات الرواية إلى أزقة المخيّمات الفلسطينيّة تجعلكُ دائمًا في حوارٍ مع مضمون أعماله النظريّة، وكتاباته السياسيّة، وأفقه الأخلاقي وعمله الإبداعي وشكله الوسيم، وعمله المقاوم المليء بالوقائع والأحداث وانحيازه المبدئي للوطن الفلسطيني والأرض الفلسطينية والتراب الفلسطيني والتراث الفلسطيني.

فغسّان كان النموذج الأوّل للمثقّف المشتبك، الذي تحوّل إلى منارةٍ في الفداء لأجل الوطن، حاملًا قلمه وكلماته وقناعاته بأنّ هذا الوطن يحتاجُ إلى البنادق التي لم تكن كلّ الكلمات سوى تعبيرٍ صفيقٍ عن غيابها، وهو ما كان في جيلٍ كاملٍ رفع عن كاهله مرارات الهزائم.

هناك حقيقةٌ لا نستطيع إغفالها بخصوص هذا المثقّف الكبير الواسع الاطلاع وانجازه المعرفي الكبير وغزارة مساره الإبداعي، إضافةً إلى شخصيّته المناضلة الصلبة وسيرته المقاومة الجميلة وهُويّته الوطنيّة الفلسطينيّة الراقية؛ ف غسان كنفاني جعل من الأدب الفلسطيني أيقونةً موسيقيّةً عالميّةً يتحدّث عنها العالم، تحظى بالإعجاب والتقدير؛ ما جعل العدو الإسرائيلي الصهيوني يضع غسان على أعلى قمة المطلوبين للتخلّص منهم وإبعادهم عن دائرة الصراع. فغسان كنفاني كان من أهم المنظرين للعمل الفدائي ضدّ العدو الصهيوني، وكان كلمة السر في أدب المقاومة الفلسطينيّة، طالما كانت الثقافة المقاومة والأدب المقاوم سلاحًا بيد الشعب الفلسطيني المقهور، الذي تعرّضت بلاده الخضراء للغزو وتاريخه العريق للطمس. وكانت روايات غسان تُعد القلعة الحصينة لحماية تراث فلسطين وتاريخها وثقافتها من الطمس والتحريف دفاعًا عن وجودها وحقّها في الحياة بحريّةٍ وكرامة، واستنفار الجماهير وحضّها على المقاومة.

وكان غسان كنفاني أحد القامات الشامخة التي آمنت بأهمية الكلمة وتحويلها إلى سلاحٍ مقاوم، وغسان ابن جيل النكبة (1948)، الذي شهد على ضياع الوطن وتحوّل شعبه إلى لاجئٍ منكوبٍ وحفرت هذه المرحلة عميقًا في وجدانه، ولم يجد هذا المُبدع غير قلمه ليُقاتل به مُبكّرًا؛ إذ وُلدَ أدب غسان من رحم النكبة والهزائم فكان قدره أن يكون أديبًا مُقاتلًا ومُشتبكًا على الدوام، وكأنّ المرحلة قد اختارت غسان وأنجبته ليرفع لواء الأدب المقاوم الذي عاصر النكبة وواكب رحلة الضياع وشهد ولادة الثورة.

لقد استلّ غسان قلمه منذ بدايات خمسينات القرن العشرين، وقرر أن يجذف به عكس المرحلة؛ لأنّه كان يؤمن بأهميّة الأدب المقاوم، وأنّ الكلمة ستمضي وتشقّ طريقها إلى أن تجد في يومٍ ما من يلتقطها ويحولها إلى سلاح، فكانت كتابات غسان منذ بدايات الخمسينات وحتى انطلاق الثورة أشبه برسائل البحر يكتبها ويُلقي بها على هوامش الصحف والمجلات في ظلّ هزيمةٍ عربيّةٍ مُدويّة، فكانت هذه القصص والمقالات الصحافية تستنهض الهمم وتقاوم الهزيمة وتسبح عكس التيار وتأخذها الأمواج من مكانٍ لآخر، وتقاوم أمواج الهزائم وثقافة الانكسار في تلك المرحلة. فكان أدبه يُبشّر بالثورة ويحرّض عليها، كان أشبه بغزال يُبشّر بزلزالٍ كما وصفه الشاعر محمود درويش، فكتب سلسلة من القصص القصيرة والمقالات وكتب روايات "ما تبقّى لكم" و"رجال في الشمس" التي ما فتئت تُحرّض بالقول "دقّوا جدران الخزان". ثم جاءت هزيمة حزيران عام 1967 ولم يلبث شعبنا أن دق جدران العالم مُعلنًا ثورةً عظيمةً دفاعًا عن حقّه في الوجود، فكتب غسان عن "الرجال والبنادق" و"أمُ سعد" و"عائد إلى حيفا"، و"برقوق نيسان" و"العاشق والأعمى والأطرش" وسلسلة من القصص القصيرة والمقالات والدراسات، حيث استطاع غسان أن يشق طريقًا وعرة عبّدها قبل 51 عامًا بدمائه، وطوال نصف القرن الماضي كُتب الكثير عن أدب غسان ولا نزال نكتب وفي كل مرة نكتشف ما هو جديد، نكتب لأنّ أدبه استثنائي ويضج بالألوان ولا يحصرك في مربعٍ واحد؛ ولأنّه ببساطة كان مبدعًا عزّ نظيره في تلك المرحلة؛ ولأنّه مبدع سنظل نكتشف المزيد من هذا الإبداع.

هذا هو غسان الذي اعتنق قضيته؛ اختار أبطاله من البُسطاء، الذين حوّلهم في رواياته وقصصه إلى عباقرة يجترحون المعجزات ويُغذّون الخطى نحو فتح كوّة في جدار الصمت مهما كان سميكًا، كان يكتب ولم يطلب ولم يستجدِ أن نقرأه ولم يتوسّل عبارات التمجيد ولم يؤرّقه هاجس الشُهرة أو الاندثار.

كان يكتب وحسب، ويؤمن أنّ الكلمة من شأنها أن تشق الدروب وتهدم القلاع والحصون، أدبٌ له لغته الخاصة من الألف إلى الياء، وكان يعرف طريقه جيّدًا وسط الأدخنة والضباب. كان أدب غسان يدعو المواطن الفلسطيني العادي لعدم الانحناء وأن يجابه الموت واقفًا تحت زخات الرصاص. أدبٌ ينطوي على الأُلفة والكبرياء؛ ومُعلنًا أنّ الثورات لا يُمكن لها الانتصار بغير الصدق، أدب يُعلّمنا التواضع وكيفيّة استنبات الأمل والتمرد والانتماء عميقًا للوطن والقيم الإنسانيّة.

لم يكن أدب غسان مبتذلًا يتوسّل التكييف مع كل مرحلةٍ أو باحثًا عن أمجادٍ ذاتيّةٍ ومُسوّغاتٍ وتبريراتٍ سخيفةٍ للواقع، كان منحازًا للوطن وللمواطن الفلسطيني والعربي وللبندقية وللثورة، وانحيازه كان واضحًا كوضوح الشمس وقاطعًا كحد السيف، وهو أدب يصنع الرجال كما وصفه الكاتب العربي يوسف إدريس، وكان في قصصه لا يهاب الموت؛ فأبطال قصصه كان مصيرهم الموت، ولماذا نخشى الموت وقد أصبحنا فقراء؛ والفقراء عرضة للموت في كل حين، والأعداء يسفكون الدم الفلسطيني "دمنا" في كل حين؛ إذًا لا داعي للخوف من الموت "الشهادة".

ففي كلّ مخيّمات الفلسطينيّين، وفي شتى المدن والقرى ما تزال جدران البيوت مطرّزةً بعباراتٍ من أدب غسان تعلّمها الأطفال والنساء والرجال وحفظوها عن ظهر قلب وترجموها في ميدان المواجهة، مثل عبارات "لا تمتْ قبل أن تكون ندًّا" و"خُلقت أكتاف الرجال لتعليق البنادق" و"دقّوا جدران الخزان" و"الإنسان قضية" وغيرها الكثير، من أدب غسان المقاوم.

إنّ ميزة أدب غسان وسرّه أنه أدب مقاوم، وحين نقول: إنه مقاوم فهو يعلن انحيازه للفقراء والجماهير الثائرة، ومن ثَمَّ فهو مُوجّهٌ لها، يستكشف أعماقها وطريقة حياتها ويُعبّر عنها، ولهذا كان أبطال قصصه ورواياته كلّهم من الفقراء؛ ولأنّه يعكس موقفًا طبقيًّا فهو أدبٌ ثوريٌّ راقٍ وخالٍ من الابتذال والسطحيّة، وينشد البحث عن المعنى في النضال؛ لأن رحلة النضال تعبّر عن المعنى الحقيقي في الحياة، فكان يرتقي ويحتفي باللاجئ والفقير ويرفعهم إلى مرتبة الشرف بعد أن يُسلّحه بالمفردات والمواقف المُعبّرة، ويحضّه على العمل بالقول "لك شيء في هذا العالم فقم".

غسان عاش وقتًا قصيرًا (36 عاما)؛ ولكنّه كان يدرك بحسه المقاوم والمشتبك أنّه لن يعيش طويلًا؛ استفاد من كل دقيقةٍ في حياته، كان يستبق الزمن، لم يكن يضيع الوقت سدى، كان يشتبك في مواجهاتٍ فكريّةٍ مدركًا بأنّ أخطارًا تحدق به؛ ليس فقط مرضه بالسكري؛ بل من عدوّه الصهيوني الذي يتربّص به.

كان غسان ملتصقًا بقضيّته ومنهمكًا بالكتابة دفاعًا عنها؛ لأنّه يعي أهميّة أدب المقاومة في معركة التحرّر الوطني، وكان غسان يستدرج القارئ ليقرأ أكثر، وليعرف أكثر، وليتثقّف أكثر باعتباره مشروعًا وطنيًّا تحرّريًّا عميقًا؛ لأنّ ثمّة كلامًا يجب أن يقوله قبل أن يمضي، حيث سقط شهيدًا وعمّد رحلته الأدبيّة بالدم؛ لأنّه كان صادقًا بانتمائه وبحسمه لخيار المقاومة والنضال من أجل تحرير فلسطين كلّ فلسطين.

 

فلذلك، عندما أطلق غسان كنفاني في كتاباته مصطلح المقاومة على شعراء فلسطين، كان يدرك أهميّة الأدب في مقاومة المحتل، وأنّ فعل المقاومة بالقلم والكلمة والكتابة له أثره أمام الرصاص والعنف والاستيطان. لقد ناقش كنفاني مبكّرًا أدبيّات المقاومة، وأثرها على القضيّة الفلسطينيّة وانعكاسها على الأدب العربي. وإلى رحيله ترك لنا دراسات عميقة متعلقة بهذا المضمون أهمها: "أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، 1966"، و"في الأدب الصهيوني، 1976"، و"الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال، 1968"، و"المقاومة ومعضلاتها، 1970"، و"ثورة 36-39 في فلسطين 1972"، وشدّد غسان كثيرًا على مصطلح المقاومة الأدبيّة في مواجهة الاحتلال، إيمانًا بأهميّة الكلمة، وقوّتها في مواجهة الغاصب المحتل، وارتباط الكلمة بالأرض.

إضافةً إلى أنّ أدب المقاومة يعمل على تقديم صورة مجابهة للقمع الذي تقوم به السياسات اليهوديّة، ومقاومة مستمرّة مع المحتل، وارتباط الشعر نفسه بالأرض، والهُويّة، والثقافة. كما أنّ غسّان يرى أنّ «أدب المقاومة العربي في فلسطين المحتلّة علامة بارزة وطليعيّة ومتقدّمة في تراث آداب المقاومة العالميّة».

ولم يتراجع غسان البتة عن مفهومه للمقاومة ففي روايته (رجال في الشمس: 1963) كتب يقول: «في رجال في الشمس دعوتُ بصوتٍ شديدِ العلوِّ إلى المقاومة والعنف». إنّها رواية تقوم على المقاومة التي تهدف إلى الصراع الطويل مع الآخر المحتلّ، ومن خلالها يحاول غسان في كتابته الروائيّة أن يصنع من المقاومة بُعدًا مختلّفًا عن المقاومة المباشرة مع المحتل، إنّه يصنع من القضيّة الرئيسة قضيّة أخرى قائمة على التهجير والنزوح بحثًا عن الرزق، لذا تطرح الرواية قضيّة أربع شخصيات مختلفة في طبائعها وسماتها الداخلية، تجري خلف هدف واحد وهو الوصول إلى بلاد أخرى للحصول على فرصة للحياة، ومعها يقوم الراوي بعرض نفسيات كل شخصية، ومأزقها الحي، وصراعها الداخلي، وقضيتها الأولى التي تسبب بها الكيان الغاصب لأرضها. وينتقل الصراع، وتمضي الأحداث من أرض فلسطين عبر الأردن والعراق إلى الكويت شاهدة على الصحراء القاحلة، والشمس الحارقة التي يلفظ تحتها شباب واعدون أنفاسهم. إنّ الجحيم الذي يتخيّله غسّان في هذه الصحراء، ليس أقلّ من الجحيم الذي يعيشه الإنسان في أرضه حين يعيش مقاومًا لمحتلٍّ اغتصب أرضه، ومن هنا تنطلق رؤيته في الرواية. وعليه، فإنّ تهريب ثلاثة أشخاص داخل خزان ماء لشاحنة في صحراء قاحلة وتحت شمس ملتهبة، هو مجازفةٌ تجعل القارئ يعود إلى الرواية في بدايتها، لماذا يرحل هؤلاء وهم يعلمون أنّ الطريق محفوفة بالمخاطر؟

ما أراده غسان هنا أن لفظ المقاومة ليس محصورًا في مواجهة الآخر والصراع معه وجهًا لوجه، فعمل على نقل الصورة إبداعيًّا، وهو نوعٌ من المقاومة، والصراع مع الآخر أيضًا، لذا فإنّه بعد وفاة الثلاثة اختناقًا داخل الخزان، وقرار دفنهم من قبل الشخص الرابع، يُلحّ في نهاية الرواية على إبراز نقطة مهمة: «لماذا لم تدقّوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا؟ لماذا لم ترفعوا صوتكم عاليًا؟ لماذا فجأةً بدأت الصحراء كلّها تردّد الصدى: لماذا لم تدقّوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟

ويظلّ غسان كنفاني الأكثر جرأةً في كتاباته؛ فهو يملك الفطنة والمواهب المتعددة؛ وقدرته غير العادية على الصمود والتحدي والعناد؛ وتظل أجمل جملة لتعريف الوطن في أدب غسان: "أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كلّه".

هذا هو غسان كنفاني في كل مكان، وتظل رصاصات الفدائي والمقاوم الفلسطيني في مخيمات الضفة و غزة ومخيمات الشتات تحيي غسان السياسي وصانع القيم وسيف فلسطين وحكايتها وأديبها الخالد، وهُويّتها الأدبيّة؛ في ذكرى استشهاده وتردد أفعال المناضلين جيلًا بعد جيلٍ على جريمة الاغتيال، وسائر جرائم العدوان اليوميّة، حيث يقف غسان مقاتلًا اليوم على تخوم جنين ومخيّمها، ولا معنى لرثاء الشهيد العظيم دون الاصطفاف في خندقه.