Menu

طوفان الأقصى مفاعيل استراتيجية

ناجي صفا

"كتب د. ناجي صفا"

يصعب على المتابع تعداد المفاعيل التفصيلية والإستراتيجية التي انتجتها معركة طوفان الاقصى .

 لقد خلخلت هذه المعركة الأسس المادية والسياسية والعسكرية لهذا الكيان ، وخلخلت البنى السياسية والإقتصادية ، والأهم أنها خلخلت البنى العسكرية  للكيان الصهيوني . وأصبح المعيار ما قبل وما بعد طوفان الأقصى ، والسابع من شهر تشرين الاول أكتوبر .

صحيح أن العام ٢٠٢٣ كان عاما ثقيلا على الشعب الفلسطيني بسبب المذابح والدمار الذي لحق به ، إلا أنه يمكننا القول إنه كان عاما مبشرا بالأمل نتيجة صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته .

ثمة عنوان جديد ينبغي التركيز عليه واعتماده في مقارباتنا وقراءاتنا نحن الكتاب والمفكرين وهو أن العدو بات مهزوما منذ السابع من أكتوبر ، مهزوم ماديا على الأرض ، ومهزوم معنويا ونفسيا ، وستحفر هذه الهزيمة ومعركة طوفان الأقصى عميقا في الوعي الجمعي الصهيوني ، كما في عقل ووجدان المواطن، وأيضا في عقل ووجدان النخب الثقافية والسياسية والعسكرية ،  وأن البقرة المقدسة هشمت وباتت آيلة للسقوط .

لقد بات قسما كبيرا من الصهاينة مقتنعا بأن المشروع الصهيوني في فلسطين قد فشل ، وأنه معرض للسقوط  ، وبات مقتنعا ايضا  بأن لا حل إلا بالمغادرة من أرض فلسطين ، وثبت بحسب وجهة نظر هؤلاء أن الشعب الفلسطيني لن يتنازل عن أرضه ووطنه بالغا ما بلغت التضحيات ومهما غلا الثمن ، وأن نظرية الكبار يموتون والصغار ينسون قد سقطت إلى غير رجعة  ، وثبت أيضا أن الصغار الذين راهنوا على ضعف ذاكرتهم لم ينسوا ، وأنهم أكثر راديكالية من الكبار الذين اكتووا بنار النكبة .

ثمة تحولات كبرى داخل فلسطين والمنطقة والعالم أيضا أرستها معركة طوفان الأقصى،  وسيكون لها تداعيات وارتدادات على مستقبل القضية الفلسطينية ، بعد أن أحدثت صدمة عميقة جدا ستغير وجه التاريخ ، كما ستغير وجه المنطقة ، فلن يكون التأثير  على مستوى الكيان فحسب ، وإنما على مستوى العالم أجمع الذي يشكل وعيا وإدراكا جديدين لقضية الشعب الفلسطيني ، وسيحدث ذلك تحولا استراتيجيا لم يكن متوقعا على مستوى الرأي العام العالمي،  فالسردية الإسرائيلية التي كرست على مدى ٧٥ عاما سقطت   ، وباتت أصوات الشعوب التي ملأت الشوارع تتحدث عن فلسطين من البحر إلى النهر. وهذا بحد ذاته انجازا كبيرا ،  في حين ما زال بعض الفلسطينيين للأسف ينادون بشعار الدولتين ، وهو شعار مفرغ من مضمونه وتشي الأحداث باستحالة تحقيقه .

 ليس الوقت المناسب للدخول ومناقشة فكرة الدولتين التي عفت عليها تطورات السابع من اوكتوبر ،  الفكرة الأهم في هذه العجالة هي فكرة تحرير فلسطين من النهر إلى البحر ، هي الموضوع الاستراتيجي الذي ينبغي بحثه والتركيز عليه ،  وفكرة الدولتين التي يحاول الأميركي تسويقها هي لحماية الكيان أولا ، و للخروج من المأزق الذي تبدى فيه استحالة شطب القضية الفلسطينية ، لن نتنازل عن أرضنا للعدو ، ولن نقبل بقسم من فلسطين ونعطي العدو  ٧٨% من وطننا ، المضحك المبكي في مشروع الدولتين هو أنه يبدو وكأنهم يتبرعون لنا بقسم من أرضنا ، ويحتفظون بالقسم الأكبر منها لصالح دولتهم اللقيطة التي صنعها الغرب لتكون أداة في مشروع تفرقنا وعدم وحدتنا وتكريس تخلفنا والاستيلاء على ثرواتنا وعلى موقعنا الاستراتيجي .

إن معركة طوفان الأقصى ستشكل بلا شك حالة تأسيسية لمرحلة التحرير التي انتظرناها خمس وسبعين عاما ،  وستكون الحاكمة  لحركة الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي في المستقبل ، الخطورة في تقدير هذه المعركة على أنها مجرد  معركة بين الحروب ، والخطورة أيضا  في إغفال الأهداف الاستراتيجية لهذه المعركة،  وفي عدم تظهير تلك الأهداف الاستراتيجية باعتبارها صراعا استراتيجيا لتحرير وطن ، وأنه جهد من حركة التحرر الوطني الفلسطيني باتجاه الهدف الاستراتيجي ، لذلك كنت اؤكد دائما في جميع مقارباتي بضرورة توضيح تلك الأهداف الاستراتيجية ، واعتبارها معركة على طريق تحرير فلسطين ، وليس مجرد معركة بين الحروب .

من المهم جدا أن لا يغيب عن بالنا الاهداف الاستراتيجية لنضالنا،  وهي تحرير فلسطين لا إنتاج تسويات مؤقتة ، فالقتال في هذه اللحظات اعطى مضمونا تحرريا للوطن ، وقد لا تكون الظروف في ما يلي على ضوء ما يسرب من تسويات ،  فربما تتغير المعادلات لغير صالحنا .

أمام المقاومة الفرصة التاريخية التي لم تتوفر في ظروف سابقة  عبر تاريخها  خمسا وسبعون عاما ونحن ننتظر توفر الظروف التي أرساها محور المقاومة ، الأهمية في هذا المحور أنه يمتد من ايران إلى لبنان ،  وأن عملية الإسناد الرائعة التي يحققها المحور انطلاقا من لبنان والعراق وسوريا و اليمن عملية لا ينبغي التفريط بها  في سوق المساومات الدولية ، وينبغي البناء عليه كحالة تأسيسية لما سيلي مستقبلا  .

اليوم ليس كالأمس ، فربما لا نستطيع القضاء على العدو بالضربة القاضية ، نظرا لاعتبارات موضوعية من بينها الدعم والاحتضان الدولي للكيان ، لكن لا بد من الإستفادة من الواقع الجديد الناشئ وظهور محور المقاومة كعامل داعم ومساعد ، أنها عملية تراكم انجازات وانتصارات ستشكل بلا ادنى شك حالة تأسيسية لتحول استراتيجي سنشهده ويؤدي الى تحرير فلسطين ، فالتراكم الكمي يؤدي إلى تحول نوعي ، وتحقيق انتصارات ولو بالنقاط شرط لإنجاز الانتصار الكامل ، ينبغي التركيز على الهدف الاستراتيجي . ندق المسمار في الحائط ونربطه بخيط ونبقى ممسكين بهذا الخيط المربوط بالهدف ، هكذا يقول علم النفس السياسي .

فنحن في حالة صراع مع فكرة العدو الصهيوني قبل أن تكون مع وجوده ،  ومهمتنا اسقاط نظرية هرتزل " فلسطين أرض بلا شعب ، لشعب بلا أرض" ، لذلك ينبغي التمسك بالأرض مهما غلت التضحيات ، هذا ما شهدته وتشهده غزة الآن ، وإلى حد ما الضفة الغربية أيضا ، رغم أن العدو قد نجح في تهجير ٤٥٠ عائلة فلسطينية في الضفة الغربية تهجيرا موضعيا داخل الضفة ، لكن ذلك ربما يشكل حالة تأسيسية لمرحلة تهجير أخرى قادمة باتجاه الأردن .

معركة طوفان الأقصى شكلت النموذج الفذ والأول من نوعه في حركة الصراع مع العدو ،  بمدى اتساعها لتبلغ البحر الاحمر من جهة ، ، ومدى مفاعليها التي خلخلت الكيان ، وأثبتت انه كيان يمكن إسقاطه .

على الشعب الفلسطيني ألا يتوقف ،  حتى لو انتجت تسوية محددة تعطي العدو فرصة التقاط الأنفاس ، ينبغي أن نستمر في مراكمة عناصر معركتنا ، سياسيا وثقافيا وعسكريا ،  بحيث نؤسس لنضوج ظروف التحرير الكامل ، وهو الهدف الاستراتيجي الذي ينبغي ان لا يفارق تفكيرنا للحظة واحدة .