Menu

زمن الإبادة.. الحقيقة كل الحقيقة للبشرية جمعاء

مروان عبد العال

"كتب مروان عبد العال"

زمن الحرب " كان ذلك زمن الحرب. الحرب؟ كلا، الاشتباك ذاته .. الالتحام المتواصل بالعدو ... زمن الاشتباك المستمر." وهذا  زمن  الإبادة يا رفيق غسان، زمن الملحمة،  زمن تنصهر  فيه اللغة مع النار وكل شيء  يسقط، ينمو، يتورق ، ويزهر، يرتفع، ثم  يتجذر في  الأرض،  في وجه عدو حاقد إلى حد الممحاة.. تمارسها "الدولة القلعة" اللقيطة والمفروضة بالقوة، وتزداد سعاراً، لتمسح بغطرستها الضرع والزرع  معاً ، إنّما الحقيقة  فوحدها  تظل على قيد  البقاء.

في زمن الإبادة ، مهما بلغت الفظاعة، كما وصفها  "جان جينيه"  في يومياته عن المجزرة الجماعية أنها  "النظرة اللامرئية "، ليس هروباً من الحقيقة ، إنّما خوفاً من هذا القاع المُقزز  والثقيل من  القُبح الإنساني، لأنها صورة الحقيقة العارية في وجه الحقيقة المقّنعة.

حينما تسمع  بلاغة أطفال غزة الناجين من المحرقة يتلون ببراءة وبساطة وبإيجاز سردية التغريبة الفلسطينية أمام الكاميرات، أو ترى سوريالية المشهد في بقايا اللحم البنفسجي يختلط بالتراب، والقتل المتسلسل وعلى السجل العائلي وبالجملة ولكامل أفراد الأسرة، وإتقان هندسة الذبح على دفعات، وقهر الناس في طوابير الإنتظار فوق الأرصفة، وتعثر على بقايا بشرية مبعثرة وأخرى تنتظر أو مكدسة فوق بعضها في دوائر الجوع وملفوفة بالأقمشة البيضاء.

إنّه زمن "غارنيكا " الجديدة من ملحمة تحمل أسرارها بلا مصباح يشع بنور الحقيقة إلى ضمير البشرية، كم "بيكاسو" سيصارع فينا  وحشية هذا اللون  المخيف، الذي يتدرج مع الرماد، لتصبح  الحياة  كلها رمادية، ويشتبك فيه المعنى مع الموت، لينتصر بسردية الأطفال على الألم، انتصار العنقاء على ربيع النّازية، نسخة متطوّرة من أفران الغاز العصرية، تخوض معركة الانتقام بأنياب كاسرة تطحن  الأخضر واليابس، ومعها الأجساد الطريّة، والنّاشفة، أين تحمل طفلك وتجري ؟ قيل لا سقف آمن هناك حيث النار تبحث عن النخاع لا العظم، النار تلاحق الحقيقة.

إنّه زمن أبناء العنقاء الذين لا يمكن تحويلهم إلى "هنود حمر"،  لن يتمكن الرجل الأبيض طي أحلامهم ووجودهم في التاريخ والجغرافيا والسياسة ، لأنهم الحقيقة الأبدية التي ترتفع رايتها فوق جغرافيا العالم بأسره  لتنطق مع جموع الأحرار باسم فلسطين، كلمة ولوحة وفكرة  وقضية تعلو على كل اللغات المهشمة، في زمن التيه تجد الأسئلة أجوبتها في أنفاق فلذات الروح تقاتل لتصون الروح، لتتركنا نستدل على الأثر، أثر الحلم والأمل والمقاومة في ثقافة الهزيمة واليأس والهوان.

زمن يترجل فيه الشهداء نلتقط  كلماتهم  وأحلامهم النديّة ونجمع تفاصيلهم اليومية ونكمل الطريق ونسير على درب  الهدف، مع الذين آمنوا أن الوجود الإنساني لايمكن له أن يظل صامتاً كما لا يمكن له أن يحيا على الكلمات الفارغة، فالكلمات التي تحييه وتعمل على تغيير العالم هي الكلمات المفعمة بالرؤيا الصادقة، بالحقيقة كل الحقيقة للجماهير و للبشرية وللإنسانية جمعاء، الحقيقة هي السردية التي كتبت بدم المقهورين وكما كتب "باولو فريري" أن تحرير المقهورين هو تحرير للإنسان وليس تحريرا للأشياء، وينبني على ذلك أن الذي لا يستطيع أن يحرر نفسه بنفسه فلن يستطيع أحد غيره أن يحرره، فالتحرير مظاهرة إنسانية لا يمكن أن يتحقق بأشباه الرجال.

في  زمن الإبادة  من يؤمن بالحقيقة هو من  يستحق الحق، في زمن الإبادة والملحمة والإشتباك، لن نصمت وسننتصر في حرب السرديات العاتية. وستبقى الحقيقة وراء العدو في كل مكان.