كتب جمال كنج*
الأطفال، إن كانوا أحياء، لا يزالون جائعين ويشعرون بالبرد في منازلهم، يشاهدون من خلال نافذة مكسورة طرود المساعدات التي تهبط من السماء إلى جانب هدير طائرة أميركية الصنع تلقي قنابل تزن 2000 رطل فوق رؤوسهم.
تخيل أنك في المنزل، مع زوجتك وأطفالك. إنه وقت العشاء قبل أن تضع أطفالك الثلاثة للنوم. الغرفة باردة، وأسطوانة الغاز فارغة، ولا يوجد طعام ولا كهرباء ولا ماء للشرب.
تصرخ طفلتك الصغرى منار قائلة: "أنا جائعة. لم نتناول الطعام منذ أربعة أيام." تفرك يديها الجافتين الزرقاوينمعًا، "آه... أشعر بالبرد". تهرب الكلمات من أسنانها المصطكة.
أنت، لنفترض أن اسمك نادر، انظر إلى جسد منار الضعيف، بشرتها الشاحبة فقدت لونها. أصبح شعرها الأسود المجعد الذي كان في يوم من الأيام متشابكاً ومعقوداً مثل عش النسر المبعثر، ولم تغسله منذ أكثر من شهر.
يسأل أحمد زوجته، "نورا، هل بحثت في الخزائن عن طعام؟
تأخذ نورة نفساً عميقاً، "أكثر من عشر مرات، مطبخنا فارغ مثل بطوننا". نظرت إلى الأرض الباردة في يأس، ووجهها ملتوٍ في قناع حزين.
قال بصوت منخفض: "اضغطي بهذا على معدة منار"، ثم ناول نورا كيساً مليئاً بالرمل. "سيساعدها ذلك على النوم، مرة أخرى."
لم تكن هذه الليلة الأولى التي جعلوا أطفالهم ينامون مع كيس من الرمل على معداتهم. أصبحت هذه طريقة شائعة لدى أهالي غزة لقمع الجوع. كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل عندما توقفت منار عن البكاء، وعندها أغمض نادر ونورة عينيهما، ولم يكونا يعرفان كم سيكون اليوم التالي بائساً.
لم يكن نادر متأكداً من الوقت، قفز من فرشته الممدودة على الأرض، على وقع طرقات قوية على الباب. هرج ومرج في الخارج، نظر إلى ساعته، الساعة 3:45 صباحاً. كان أول ما خطر بباله أن الجيش الإسرائيلي يأمر السكان بإخلاء المبنى قبل تفجيره، كما فعلوا بتفجير كتل من المباني في الحي الذي يسكنه قبل أسبوع. استيقظت نورا والأطفال. تزحف منار إلى الزاوية مع إخوتها وتلتف حول أمها.
يقفز نادر إلى الباب ليجد شقيقه علي، وهو جاره أيضاً على الجانب الآخر يلهث من أجل الهواء.
"تعال يا نادر... تعال، هيا بنا." توقف ليلتقط أنفاسه بعد أن ركض على الدرج. "شاحنات الدقيق". انتفخ صدره وانكمش عدة مرات، إلى أن قال في النهاية: "شاحنات تصل إلى دوار النابلسي". تحرك علي جانباً لإفساح المجال للجيران المتجمهرين على الدرج.
أضاءت وجوه الأطفال. كانت عيونهم مثل ضوء الليزر، مفتوحة على مصراعيها، تنتظر رد نادر. الذي قال: "كانت هناك دبابات إسرائيلية عند الدوار. أمروني بالبقاء في المنزل أمس ولم يسمحوا لي بإحضار الماء".
"تقوم الأمم المتحدة بتوزيع الدقيق. سمح الإسرائيليون للشاحنات بالدخول". نظر علي إلى أسفل الدرج، "لنذهب قبل فوات الأوان". حثّ نادر على الذهاب.
أدار نادر رأسه نحو أطفاله. تحوّلت عينا منار اللتان تركزان على الليزر إلى نظرات فارغة وفم مفتوح.
أطبق على أسنانه، وسحب معطفه الشتوي المعلق على الجدار، وأغلق الباب خلفه، وتبع شقيقه الأكبر علي إلى الشارع.
ما ورد أعلاه ليس من نسج الخيال، بل هو واقع الحياة التي يعيشها آلاف الأشخاص في غزة منذ أكثر من 150 يوماً. إنه بالضبط ما حدث في مجزرة الطحين في 29 شباط لآلاف الآباء والأمهات والإخوة والأخوات الجائعين في شمال غزة. استخدمت "إسرائيل" شاحنات المساعدات لاستدراج وقتل وجرح ما يقرب من 900 مدني جائع. بللت دماء الجائعين، صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، أكياس الدقيق المخصصة لإطعام الأطفال الجائعين.
وفي إطار جهودها الرامية إلى جعل الحياة في غزة غير صالحة للسكن، لم تكتفِ "إسرائيل" باستهداف البنى التحتية الأساسية كالمستشفيات والجامعات ومحطات معالجة المياه والطرقات فحسب، بل وجهت هجماتها أيضاً نحو الشرطة المدنية. ويهدف هذا الاستهداف المتعمد للشرطة إلى مفاقمة المعاناة وإثارة انهيار القانون والنظام. وعلى الرغم من تحذيرات الولايات المتحدة من استهداف الشرطة المدنية التي تحافظ على السلامة العامة وتدير التوزيع المنظم للغذاء، إلا أن "إسرائيل" تجاهلت هذه المخاوف، وسعت إلى خلق حالة من الفوضى وانعدام القانون لتفاقم المجاعة وتبرير أفعالها كما في حالة مجزرة الطحين.
وفي تغطيتها للقصة، أصبحت وسائل الإعلام الغربية على استعداد لتسويق التضليل الإسرائيلي المغطى بعبارات ملطفة لإخفاء الحقيقة المروعة على الأرض. فعلى سبيل المثال، أشارت وسائل إعلام مثل (CNN) وغيرها من وسائل الإعلام المطبوعة و(BBC) إلى مقتل 115 شخصاً على الأقل وإصابة 760 جائعاً على أنها "مجزرة المساعدات الغذائية في غزة" أو "مواجهة فوضوية مع القوات الإسرائيلية"، وألقت باللوم في ذلك على التدافع وسائقي الشاحنات. ثم بثت بعد ذلك مقاطع فيديو تم التلاعب بها من قبل إسرائيل دون أدنى شك، تظهر نتاج الفوضى التي صممتها إسرائيل وتدعي أن الحشد الجائع كان يشكل تهديداً لجنودها.
لم يختلف ذلك عن المعلومات المضللة السابقة التي روجها وولف بليتزر من شبكة (CNN) عندما استضاف مارك ريجيف، النسخة الإسرائيلية من الألماني جوزيف جوبلز في برنامجه "غرفة العمليات" في 15 تشرين ثاني 2023، حيث بدأ البرنامج بقوله: "يحدث الآن، الجيش الإسرائيلي يقول إنه اكتشف أسلحة حماس ومركز قيادة داخل أكبر مستشفى في غزة. وغني عن القول أن كل ذلك كان كاذباً. وعلى الرغم من تجاهل ريغيف المدقع للحقيقة الأساسية، إلا أن غوبلز الإسرائيلي عاد مرة أخرى إلى شبكة (CNN) هذا الأسبوع لتسويق مجزرة شاحنة الدقيق، ونسج الأكاذيب، دون أي اعتراض، وادعى عدم تورط إسرائيل في إطلاق النار وإلقاء اللوم في إطلاق النار على "الجماعات الفلسطينية المسلحة".
ولا جدال في أن شبكة (CNN)، مثلها مثل معظم وسائل الإعلام الأميركية والأوروبية، أصبحت منبراً للتضليل الإعلامي مع مقدمي البرامج المتورطين في "إسرائيل"، مثل بليتزر الذي صقل براعته الصحفية كمؤيد لـ"إسرائيل" من خلال عمله كمحرر لتقرير الشرق الأدنى في منتصف السبعينيات.
لم تتمكن بعض وسائل الإعلام العالمية من الاستمرار في تجاهل الأكاذيب الإسرائيلية الفاضحة إلا بعد أن عرضت بعض وسائل الإعلام العالمية المشهد "الفوضوي" وسط إطلاق نار كثيف حول شاحنة الطعام، إلى جانب لقطات تكشف إصابات بالرصاص في الجزء العلوي من أجساد الضحايا، حتى لم تستطع بعض وسائل الإعلام الأميركية، مثل صحيفة نيويورك تايمز التي تتبنى المهنية الزائفة، الاستمرار في تجاهل الأكاذيب الإسرائيلية الفاضحة. وقد أعادت هذه الوسائل الإعلامية النظر في فيديو الطائرة الإسرائيلية بدون طيار الذي تم توفيره لوسائل الإعلام الأميركية المتوافقة. وبعد مراجعة دقيقة للفيديو، خلصوا إلى أن اللقطات قد تم تعديلها بـ "مقاطع متعددة تم دمجها معًا". وقد مسحت التعديلات بشكل ملائم الأحداث التي سبقت تفرق الحشود في جميع الاتجاهات مباشرة، حيث تفادوا الرصاص وتدافعوا فوق الشاحنات وبحثوا عن ساتر خلف المركبات والمنشآت، وسقطوا على الأرض جراء إصابات مباشرة بالرصاص.
ومن المهم أن نشير إلى أن استهداف شاحنات المساعدات في دوار النابلسي ليس أول ولا آخر المحاولات الإسرائيلية لعرقلة إيصال المساعدات الغذائية في غزة. فقبل ثلاثة أسابيع تقريباً، وتحديداً في 6 شباط الماضي، فتحت "إسرائيل" النار على حشد من الناس في دوار النابلسي، بينما استهدفت الزوارق الحربية البحرية شاحنات المساعدات الغذائية الإنسانية التابعة للأونروا. وفي الآونة الأخيرة، أي بعد ثلاثة أيام من مجزرة الطحين، في 3 آذار/مارس، فتحت "إسرائيل" النار مرة أخرى على حشد جائع كان ينتظر شاحنات الأغذية عند دوار الكويت ، مما أدى إلى مقتل وإصابة العديد من المدنيين.
إن السجود الخانع لوسائل الإعلام الغربية، التي توفر منابر إعلامية بلا منازع للمتحدثين باسم العلاقات العامة الإسرائيلية، هو أمر غير مسبوق في ما يسمى "العالم الحر". فمن خلال الموافقة على التوجيهات "الإسرائيلية" التي تقيد دخول وسائل الإعلام إلى غزة، لم يعد لوسائل الإعلام الغربية الرئيسية أي وجود لنقل الأخبار من مسرح الأحداث. لقد تحوّلت وسائل الإعلام إلى مشارك فاعل في تبييض الإبادة الجماعية الإسرائيلية حيث تم تنظيم تغطية غزة، بشكل مباشر وغير مباشر، من قبل الحسبة الإسرائيلية التي تتجلى في الأدلة والرواية المدارة لمجزرة الطحين. أو على حد تعبير غوبلز الأصلي، أصبحت وسائل الإعلام الغربية السائدة "لوحة مفاتيح تعزف عليها إسرائيل".
في الواقع، إن التملق الغربي، والأميركي تحديداً، لـ"إسرائيل" يمتد إلى ما هو أبعد من وسائل الإعلام. وكمثال على ذلك، قبل أسبوعين تقريباً، استخف مستشار البيت الأبيض لشؤون الأمن القومي الأميركي، جون كيربي، بجيشه الأميركي نفسه، حيث أشاد بالقوات الإسرائيلية لاتخاذها إجراءات لحماية المدنيين، مشيراً إلى أنه "ليس متأكداً من أن جيشنا (الأميركي) سيتخذ إجراءات مماثلة."
وعندما سُئل رئيس كيربي عن قتل المدنيين الجائعين في غزة، تظاهر رئيسه جو بايدن بالجهل قائلاً: "هناك روايتان متنافستان لما حدث. ليس لدي إجابة بعد."
بتجنبه الإجابة على السؤال، منح الرئيس الأميركي مصداقية مماثلة لماكينة التضليل الإسرائيلية. وفي مواكبته لموقفه، كان بايدن ثابتاً في انحيازه المعادي للفلسطينيين الذي يبالغ في تصوير إسرائيل على أنها ضحية، بينما يقلل من شأن الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين بحجة عدم وجود معلومات كافية.
هذا الأسبوع، وبعد خمسة أشهر من المناشدات لـ"إسرائيل" للسماح بدخول المزيد من شاحنات المساعدات إلى غزة، انضم بايدن إلى غيره من الطغاة العرب غير الأكفاء في بادرة غير منطقية بإسقاط 38 ألف وجبة طعام إلى 2,4 مليون شخص في غزة، وهي حيلة من القادة غير الأكفاء تهدف إلى تهدئة الغضب الدولي ضد "إسرائيل" أكثر من كونها رغبة حقيقية في تخفيف مستويات المجاعة المتصاعدة في غزة.
كانت عملية الإنزال – المسرحي - لـ 38,000 وجبة طعام فقط بمثابة حبة رمل على شاطئ غزة. فقد كانت الوجبات التي تم إنزالها بالمظلات تعادل تقديم 0.005 من الوجبة اليومية الضئيلة لكل مواطن في غزة، أو ما يعادل تقديم 5 أرغفة خبز فقط لكل 1000 فرد. هذه مهزلة وتبدو جوفاء من إدارة تخطط لإرسال ما يقرب من 15 مليار دولار لـ"إسرائيل"، بالإضافة إلى الأسلحة والغطاء السياسي الذي يمكّن "إسرائيل" من تنفيذ الحصار ذاته الذي يُزعم أن الإنزال الجوي يهدف إلى تخفيفه. إن المجاعة في غزة ليست بسبب الجفاف أو كارثة طبيعية، بل هي كارثة من صنع "إسرائيل" مكّنها بايدن والحكومات الغربية وباركها الطغاة العرب.
بينما تقرأون هذا، تذكروا نادر الذي انضم إلى أخيه علي لإطعام طفلته الجائعة، منار. كان على الأرجح أحد الذين قتلوا أو أصيبوا في مجزرة الطحين في 29 شباط. أما أطفاله، إن كانوا على قيد الحياة، فلا يزالون جائعين ويشعرون بالبرد في المنزل، يشاهدون من خلال نافذة مكسورة طرود المساعدات التي تهبط من السماء إلى جانب هدير طائرة أميركية الصنع تلقي قنابل تزن 2000 رطل فوق رؤوسهم.
منار، وإن لم تكن من بين أكثر من 15 طفلاً هلكوا بشكل مأساوي هذا الأسبوع بسبب سوء التغذية والجفاف، فإن منار ستتذكر دائماً كيف أن المجاعة التي صنعتها إسرائيل، هي من جعلت والدها يموت.
*كاتب فلسطيني مقيم في أميركا