دعونا في البداية نتعمق في جذور الصراع الذي خاضه الشعب الفلسطيني ضد الصهاينة، متى وكيف كانت البدايات ؟ وما هو المطلب الأساسي للشعب الفلسطيني في ذلك الوقت؟
إن جذور الصراع يمكن العودة بها إلى احتلال بريطانيا لفلسطين، واحتلالها هي وفرنسا، أغلب الدول العربية، ما بعد الحرب العالمية الأولى 1917. وهي بداية تنفيذ المشروع الصهيوني، بقيادة الاستعمار البريطاني. وهو المشروع الاستعماري الاقتلاعي الإحلالي. وهدفه النهائي اعتبار فلسطين كلها "أرض إسرائيل" وتهجير كل الفلسطينيين منها، وتحويلها إلى دولة قومية حصرية ليهود العالم.
وهو ما واجه منذ البدايات، مقاومة فلسطينية متعددّة الأشكال، وفقاً لكل مرحلة وظرف. ولم يُجْدِ كل ما قدّم من حلول، أو اتخذ من قرارات دولية لحل الصراع. لأنه صراع وجود يُراد منه أن يحتلّ الكيان الصهيوني ومستوطنوه كل فلسطين، فيما كل فلسطين هي للفلسطينيين، من النهر إلى البحر، ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش.
ولهذا فشل كل ما قدّم من حلول بين 1920- 1947، بإقامة دولة واحدة. ثم فشل حلّ الدولتين منذ 1947 إلى اليوم.
فالحلّ الوحيد للقضية الفلسطينية، تحرير كل فلسطين، وترحيل المستوطنين إلى العواصم الغربية، أو أيّة عواصم يحبونها وتحبهم. وبالمناسبة حتى حلّ دولة واحدة يرفضها المستوطنون، لأنهم لن يقبلوا التساوي مع الفلسطينيين. ولهذا سيفضلون الرحيل على إذلالهم بمثل هذه "المساواة" مع "الأغيار".
- المنطقة العربية والإقليم بشكل عام يعيش حالة مخاض وهناك توقعات، ارسم لنا المشهد السياسي في المنطقة وما هي توقعاتك للقادم؟
العامل الأساسي الذي سيقرّر المشهد السياسي في المنطقة هو انتصار المقاومة في قطاع غزة، ومواصلة المقاومة فوراً لتحرير المسجد الأقصى من احتلال الجيش الصهيوني، ومنع الاقتحامات، أو تقسيم الصلاة فيه (ثمة قرارات دولية غير قابلة للنقاش "الستاتيكو" لهذا التحرير. هو نظام المحافظة على الأمر الواقع للأماكن المقدسة).
فالعام 2024 هو وريث العام 2023، واستمراراً له. وإن كل ما يطرح الآن من حلّ لدولتين، لن يختلف مصيراً عن السابق.
- تحدثت أوساط سياسية وإعلامية مؤخرا حول ما سمي مقترح (اتفاق الإطار) وإمكانية الوصول الى تهدئة بين المقاومة الفلسطينية والعدو الصهيوني على مراحل وذلك بضمانات عربية واقليمية.. كيف تقرأ هذه الاتفاقيات في ظل موازين القوى الحالي؟
إن أي اتفاق يتم التفاهم حوله، لا بدّ من أن يحظى على موافقة قيادة المقاومة في قطاع غزة. وأنا لي ثقة عالية بهذه القيادة بعد طوفان الأقصى، وما بعده حتى اليوم.
بكلمة، ما توافق عليه أوافق عليه. وأتوقع أن يكون هذا موقف فصائل المقاومة.
إن موازين القوى هي في مصلحة المقاومة. ولكن ليس إلى حدّ، بلا قيد أو شرط. ولكن إلى حدّ بعيد، لم يسبق له مثيل من قبل. إن نقطة الضعف الأساسية في موازين القوى، ليس الموقف الأمريكي- الغربي- الصهيوني، وإنما الموقف العربي عموماً، وما حدث فيه من اهتراء واختراقات. ولكنه ضعيف يسمح للمقاومة بأن تقرّر مستقلة في هذه المرحلة، أفضل من أيّة مرحلة سابقة.
- كيف تقيمون عملية طوفان الأقصى التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية وتحديدا كتائب عزالدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس ضد الاحتلال في السابع من اكتوبر/تشرين الأول 2023، ما هي انعكاسات هذه العملية وتداعياتها على مستقبل المقاومة والقضية والمنطقة؟
طبعاً ثمة اجماع، حتى باعتراف خبراء العدو، بأن عملية طوفان الأقصى كانت مدهشة وباهرة واستثنائية، أو في غاية الاتقان. ناهيك عما حققته من انتصار عسكري ميداني على "فرقة غزة" (1300 ضابط وجندي) فضلاً عن السيطرة على كل "غلاف غزة" (من أرض فلسطين 1948)، وما وقع من قتلى وجرحى وأسرى.
وهذا إضافة إلى ما حدث من فزع في الكيان الصهيوني، وفي العالم الغربي على الكيان الصهيوني ومستقبله. مما استدعى إرسال ثلاث بوارج أمريكية إلى البحر المتوسط، ورفع مستوى الخطر والنفير العالميين. ثم خطة الهجوم الفوري على قطاع غزة بعد انسحاب قوات عز الدين القسّام من غلاف غزة، إلى مواقع الدفاع في القطاع.
جاءت ضربة طوفان الأقصى أقوى، وأشدّ من أيّة ضربة تلقاها العدو الصهيوني، وذلك حتى ضربة 6 أكتوبر 1972، في تدمير خط بارليف من قِبَل الجيش المصري، والجيش السوري الذي توغل في شمال فلسطين.
هذا وأثبتت المقاومة (كتائب عز الدين القسّام) في مواجهة الحرب البريّة، أنها كانت أعدّت قدرات عالية للدفاع والهجوم. وكان عمادها حفر مئات الكيلو-مترات من الأنفاق. وهذا ما أثبتت عبقريته تجربة الحرب البريّة من خلال مقاومة حماس والجهاد، وبقية الفصائل الفلسطينية في القطاع.
الأمر الذي يفرض أن "يُرتب البيت الفلسطيني" في مرحلة ما بعد طوفان الأقصى، ووقف إطلاق النار. أو بعد هدنة طويلة، على أساس جبهة مقاومة، وجبهة فلسطينية واسعة، بقيادة حماس والجهاد والجبهة الشعبية. وذلك بمشاركة الفصائل، وعدد من النخب.
- كيف تنظرون إلى الزيارات المتكررة التي قام بها وزير خارجية أمريكا للمنطقة في الأشهر الماضية ، وما رافقها من تصريحات تعيد تسويق التطبيع مع الكيان الصهيوني كحل للقضية الفلسطينية، وأحاديث عن "اليوم التالي" بعد الحرب؟
ترجع زيارات وزير الخارجية الأمريكي بلينكن المتكررة إثر عملية طوفان الأقصى، وانشغال إدارة بايدن بالردّ عليها إلى اولوية في السياسة الأمريكية، تقدمت على حرب اوكرانياـ وعلى الصين وتايوان. أما السبب الثاني فانشغال أمريكا في إقناع الكيان الصهيوني للتخفيف من قتل المدنيين، تمهيداً للتوصل إلى هدنة لاحقاً. فأصبحت نقطة خلاف مع نتنياهو الذي يريد مواصلة الحرب ضد المدنيين وضد المقاومة. لأن أي توقف لإطلاق النار يعني انتصار المقاومة. فإدارة بايدن تريد مواصلة دعم الكيان وتغطيته، وفي الوقت نفسه، تريد التوصل إلى اتفاق هدنة طويلة نسبياً. لأن استمرار الحرب أخذ يعزل أمريكا عالمياً، ويشوّه صورتها. بل حتى صورة الحضارة الغربية. فضلاً عن عبثية الانتصار العسكري على المقاومة.
وبكلمة، كل ما يحمله بلينكن، كان محاولة لتغطية حرب العدوان، ومحاولة للتخفيف من حملة الرأي العام الأمريكي- الأوروبي، على أمريكا والغرب، وعلى الكيان الصهيوني.
- بعد نحو خمسة أشهر من العدوان وحرب الإبادة في غزة والضفة الفلسطينية، ما هي أبرز الحقائق والدلالات التي كشفت عنها المعركة ؟ وما هي توقعاتكم؟
إن مرور الأربعة أشهر على الحرب في قطاع غزة، والمواجهات الدامية في الضفة الغربية، تدلان على أن الوضع الفلسطيني في حالة التهاب ضد الاحتلال، ومشاريع التصفية. ولكن بانتقال المقاومة في قطاع غزة، خصوصاً، إلى موقع الهجوم، وانتقال المواجهات في الضفة الغربية إلى التصعيد، أدخلا المقاومة في مرحلة أعلى في المواجهة.
وإذا ما توصل الوضع في غزة إلى مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، فيجب أن تُعطى الأولوية لدعم المقاومة، وصولاً إلى الانتفاضة المسلحة في الضفة، خصوصاً مع فلتان المستوطنين الذي لا يوقفه، إلاّ الردّ الجماعي عليه بالمثل.
- هل سيتمكن العدو الصهيوني من الإجهاز على المقاومة الفلسطينية كما يزعم؟ وهل حقق أي شيء يمكن أن يستند عليه في هذه المزاعم؟
لقد أثبتت الأشهر الأربعة الماضية أن من غير الممكن للكيان الصهيوني التغلب على المقاومة التي بقيت يدها هي العليا في قطاع غزة. أما في الضفة و القدس ، فقد ثبت أيضاً أن من غير الممكن للكيان الصهيوني أن يخضع الوضع أو يعيد سيطرة الاحتلال. وقد ثبت أن نتنياهو الذي وقع في حفرة راح يحفر ليزيد من أزمته وفشله.
- ما تأثير التضحيات وعدد الشهداء الكبير والدمار الهائل الذي قدمه أهالي قطاع غزة على مستقبل الرؤية السياسية الفلسطينية؟
طبعاً سوف يتوقف على نتيجة الوضع الذي سينشأ بعد اليوم التالي من انتصار المقاومة. لكن لا بدّ من توقع تعالي أصوات تبالغ في الأثر السلبي للمجازر والدمار. وما سينشأ من صعوبات في المرحلة التي يسمونها مرحلة إعادة البناء، وتضميد الجراح، ومعالجة الكثير من المشاكل التي نجمت عن هول ما حصل في قطاع غزة، بالنسبة إلى عشرات آلاف الشهداء والجرحى والدمار الشامل.
المهم أن تبقى المقاومة مستمرة ومتصاعدة. وهو الطريق لمواجهة الآثار السلبية الناجمة، أو في الأقل، التخفيف منها. لكن الجرح سيبقى عميقاً، ولم يعد من الممكن للذين يبحثون عن حلول للقضية الفلسطينية، غير حلّ القطيعة، والمقاومة، أن يطالبوا بالتعايش بعد جرائم الإبادة. فكيف يمكن أن تنسى تلك الجرائم، أو تمحى من قلب كل فلسطيني، أو عربي أو مسلم، أو من ذي ضمير رأى أطفال غزة أشلاء.
- ما تقييمكم لأداء جبهات محور المقاومة الممتدة من جنوب لبنان إلى اليمن والعراق وسورية ؟ وما هو المطلوب منها؟ وكيف تقرأ دخول اليمن الحرب ضد الكيان الصهيوني، وحاليا ضد الولايات المتحدة، بهذه الشجاعة والقوة، ما التغيير أو التأثير الذي ممكن أن تحدثه على مجريات وسير المعركة في غزة؟
انطلاقاً من صمود المقاومة المذهل، ومراعاة لعدم الدخول في حرب إقليمية كبرى للتحرير في هذه المرحلة، يعتبر ما قدمته تلك الجبهات إيجابياً ومشاركاً في الحرب، ومساهماً في إضعاف العدو عسكرياً وسياسياً. فحزب الله قدّم الكثير من الشهداء، وأنزل بالعدو خسائر فادحة. وما أقدمت عليه اليمن أدخلها في الحرب، وأنزل الخسائر الفادحة بالعدو. ودخل حرباً مع أمريكا وبريطانيا. وكذلك فعلت المقاومة في العراق، والاشتباك الدائر في سورية.
- ماذا عن مستقبل الإسلام السياسي والقوى السياسية الإسلامية الفاعلة في الساحة العربية بعد الطوفان وهي بدون شك ذات حجم كبير ومؤثر؟
بالنسبة إلى الحركات الإسلامية قدمت لهم عملية طوفان الأقصى، ونتائج الحرب كل أسباب النهوض من جديد، ولا سيما إذا ما تشكلت بعد هذه العملية والحرب قناعة، بأن أمريكا عدوة للعالمين العربي والإسلامي، ولا نهضة إلاّ بمحاربتها، والابتعاد عن الأفكار الخاطئة التي سعت وتسعى، لإيجاد تفاهم عادل معها.
- لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية تعمل على كافة المستويات للحفاظ على هيمنتها على النظام الدولي واستمرار أحاديتها القطبية هل ترون أن هناك تحولات حقيقية على بنية النظام الدولي من خلال الدورين الصيني والروسي و هل ستنعكس هذه التحولات ايجابا على القضايا العربية العديدة ومنها القضية الفلسطينية؟
يعلمنا التاريخ أن الأمبراطوريات والقوى الكبرى حين تدخل مرحلة الهبوط والتراجع، أو الأفول والشيخوخة، لا تستطيع أن تمنع حكم التاريخ. وقد كانت إعاقته قليلة الحدوث، إذا ما ساعدتها ظروف معينة.
أمريكا فقدت، الآن، هيمنتها شبه المطلقة على الوضع الدولي. بل كانت هيمنتها دائماً مهيئة للتراجع والهزائم، كما حدث مع فييتنام وكوبا، ومؤخراً مع أفغانستان.
أما في بضع السنوات الأخيرة، فقد أصبح لأمريكا منافسين كبار، لا سيما الصين، ولا قِبَل لها على إخضاعها، أو وقف تطوّرها. وكذلك روسيا الندّ النووي لها. وقد ثبت بعد صموده وتفوقه في حرب أوكرانيا، أنه منافس عنيد، لا قِبَل لها على إخضاعه.
وهنالك تطورات أخرى هامّة على المستويين الدولي والإقليمي، مثل الهند والبرازيل، و تركيا وإيران، وجنوب أفريقيا. مما أخذ يُضعف من الهيمنة الأحادية القطبية الأمريكية. وأضف تطوّر المقاومات، عبر محور المقاومة.
الأمر الذي يقطع بأن العالم سيشهد انهياراً لنظام أحادية القطبية، وبناء نظام عالمي جديد لدول العالم كافة، للمشاركة في تقرير مصيره. أي في الأغلب لن يكون متعدّد القطبية تسيطر عليه دول كبرى ثلاث، أو أربع دول، ناهيك عن دولتين.
المطلوب أن يكون نظاماً عالمياً تشارك فيه كل الدول والشعوب، كما يقتضي القانون الدولي، ومبادئ ميثاق هيئة الأمم المتحدة. وأن يكون نظاماً أكثر عدالة للمستضعفين.
- كيف تقرأون أزمة الكيان الصهيوني السياسية والاجتماعية والاقتصادية على خلفية فشله في تحقيق أهدافه في غزة ؟ وهل تبدو هي أزمة عارضة يستطيع النظام "الديمقراطي الصهيوني" أن يتجاوزها؟ أم هي أحد أطوار التحولات البنيوية التي يشهدها المجتمع الصهيوني ؟ وهل من مستقبل لما يسمى بدولة إسرائيل؟
يعتبر عدد من قادة الكيان الصهيوني أن فشله في تحقيق أهدافه في غزة، وهو المؤكد، إن شاء الله، سوف يتهدّد الكيان الصهيوني، بالمضيّ نحو الانهيار. ولكن من وجهة نظري، أن موازين القوى العالمية والإقليمية والعربية والفلسطينية، ما زالت تسمح له بالبقاء، أو استعادة جزء هام من قوّته العسكرية.
أما كيف التعامل المستقبلي في ما يتعلق ببقائه (ولكن بالتأكيد ليس كما السابق). وفي ما يتعلق بسرعة انهياره، واقتراب مرحلة تحرير فلسطين، فإن ذلك يتوقف على التطورات المستقبلية في المدى القريب والمتوسط للمقاومة- المقاومات، ولمحور المقاومة، كما لعمق الصراعات الدولية بين الدول الكبرى.
بكلمة: الاتجاه العام يمكن تحديده في المدى البعيد أو المتوسط بأن الحرب معه ما زالت مستمرة، ونهايته مؤكدة إن شاء الله. وهو ما يجب أن نسعى له على هدى طوفان الأقصى، وما تبعها.
- يتجه ائتلاف نتنياهو الصهيوني في عدوانه القائم على الأرض في غزة والضفة و القدس لتحقيق هدف "حسم الصراع" كما صرح به أعضاء متطرفين ابرزهم "سموتريتش" و" بن غفير" هل تعتقد أن هذا الائتلاف الحاكم وصل إلى مستوى متقدم في محاولات تصفية القضية الفلسطينية؟
هذا الائتلاف لم يصل بعد إلى حد يقرر أكثر من استمرار الحرب، وبالخسائر الفادحة التي يُمنى بها الجيش الصهيوني. فكيف يمكن القول إنه يتهدّد بتصفية القضية الفلسطينية في الوقت الحاضر. هذا ما تقوله موازين القوى.
الحسم في الصراع الداخلي الصهيوني أجلته عملية طوفان الأقصى، واستبعدته حرب العدوان على غزة. ولكن عمقتاه أيضاً، كما سيظهر مستقبلاً، بعد وقف إطلاق النار. لأن الطوفان وما بعده، كشفا كل نقاط الضعف في الكيان الصهيوني بُنية، ودولة عميقة، ومستوطنين، مثلاً التناقضات الحادّة، ولا سيما، بين الحداثة الصهيونية، والصهيونية الدينية.