"كتب عليان عليان"
فجأة وبعد دخول الحرب العدوانية الصهيونية على قطاع غزة شهرها الرابع دون أن تحقق أي من أهدافها، بعد انتصار المقاومة التاريخي في السابع من أكتوبر 2023 وفي ضوء الثورة الشعبية العالمية المنددة بالعدوان التي بات تؤكد على الرواية العربية في فلسطين هذا ( أولاً) و(ثانياً) وفي ضوء ضغط الشارع في الولايات المتحدة على الإدارة الأمريكية من أجل وقف دعمها للعدوان ومشاركتها الرئيسة فيه و( ثالثاً) وفي ضوء وضع الكيان الصهيوني في قفص الاتهام ،بعد قرار محكمة العدل الدولية في 26 كانون الثاني ( يناير ) الماضي ، بمطالبة ( إسرائيل) باتخاذ تدابير استثنائية لمنع ارتكاب أعمال إبادة جماعية.
في ضوء كل ما تقدم ، لبست الولايات المتحدة ثوب السلام ،وباتت تروج لحل الدولتين بما فيه إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح ، وباتت هذه الفزاعة الشغل الشاغل لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في جولاته المتكررة في المنطقة ، بعد أن أدركت الإدارة الأمريكية أن تبنيها للعدوان الصهيوني على قطاع غزة، وتبنيها لحرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، سيؤدي إلى خسارة الحزب الديمقراطي الانتخابات الرئاسية ، ويجعلها ضمناً شريكة في جريمة حرب الإبادة في قطاع غزة.
وما أن أطلق بلينكن فخ حل الدولتين حتى كرت المسبحة وباتت دول الغرب الرأسمالي وأدواتها في النظام العربي الرسمي ، تعزف على لحن هذا الحل السياسي المزعوم وهي تعرف معرفة يقينية أن هذا الحل غير ممكن، على الإطلاق في ضوء التجربة التاريخية المأساوية لاتفاقيات أوسلو منذ توقيعها في باحات البيت الأبيض عام 1993، وفي ضوء مراوغة الإدارة الأمريكية جمهورية كانت أم ديمقراطية في تبني هذا الحل على مدى 31 عاما ، وتعاملها مع موضوع الدولة الفلسطينية في سياق إدارة الأزمات وليس أكثر .
أهداف التبني الأمريكي الزائف لموضوع الدولة الفلسطينية
والإدارة الأمريكية في ادعائها الكاذب والمكشوف بتبني حل الدولتين أرادت تحقيق عدة أهداف أبرزها :
1-أن تحقق للكيان الصهيوني، عبر هذا الطرح الزائف وعبر المبادرات المطروحة ما عجز عن تحقيقه في ميدان المعارك في قطاع غزة ، خاصةً وأنها تركز باستمرار على الوضع السياسي في القطاع في اليوم التالي لوقف الحرب ، حيث لم تتوقف الإدارة الأمريكية عن الحديث عن حوكمة جديدة في القطاع ،عبر سلطة فلسطينية متجددة مدعومة من دول عربية موالية لواشنطن، يتمتع فيها رئيس الوزراء في حكومة السلطة بكافة السلطات ، لا يكون ل حركة حماس وفصائل المقاومة دوراً فيها ، كمقدمة لقيام كيان فلسطيني شكلي ، لا يتمتع بمواصفات الدولة المستقلة ذات السيادة ، يحمل مسمى دولة منزوعة السلاح.
2- أن تعيد إدارة بايدن الديمقراطية السعودية ، إلى حظيرة الولايات المتحدة بعد تمرد بن سلمان على هذه الإدارة ، إثر الاحتكاكات السياسية والاقتصادية بعد مصرع خاشقجي ورفض السعودية زيادة إنتاج النفط وتوافقها مع روسيا بهذا الشأن في إطار " أوبك بلس" وصولاً إلى إعادة العلاقات بين السعودية وإيران في 10 مارس ( آذار) 2023 بعد سبع سنوات من القطيعة .
وإعادة الحكم السعودي إلى الحظيرة الأمريكية ، يتطلب تحقيق التطبيع بين السعودية والكيان الصهيوني ، مقابل موافقة ( إسرائيل) على فتح مسار يؤدي إلى دولة فلسطينية وليس موافقتها على الدولة فوراً ، حتى يتذرع الحكم السعوي بهذا المسار في مواجهة أية انتقادات لدخوله مستنقع التطبيع الإبراهيمي، وهذا المسار يذكرنا بمسار الدولة وفق اتفاقيات أوسلو عام 1993 ، الذي انتهى إلى تحويل السلطة الفلسطينية مجرد وكيل أمني للاحتلال .
وهذان الهدفان يندرجان في سياق تكتيكي أمريكي لتجاوز المرحلة الحالية بعيداً عن إقامة الدولة ، وبهدف إنقاذ الكيان الصهيوني من أزماته القاتلة وبخاصة أزمته الوجودية الناجمة عن فشل الكيان الصهيوني في تحقيق أي من أهدافه في الحرب ،على القطاع على مدى خمسة شهور وعلى رأسها : القضاء على حركة حماس وفصائل المقاومة/ الإفراج عن الأسرى الصهاينة بقوة السلاح/ ترميم قوة ردع الجيش الصهيوني / دفع أبناء القطاع للهجرة خارج القطاع .
أضواء كاشفة على فزاعة الدولة الفلسطينية
ما نود أن نثبته في هذه العجالة ،أن الإدارة الأمريكية - القائد الفعلي للحرب النازية على قطاع غزة - ومعها الكيان الصهيوني ، ليسا معنيان في السياق الاستراتيجي بإقامة دولة فلسطينية ذات السيادة في الضفة والقطاع وعاصمتها القدس الشرقية ، وبهذا الصدد نشير إلى ما يلي :
أولاً: أن اتفاقات أوسلو 1993التي تم توقيعها برعاية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون نصت على بدء مفاوضات الحل النهائي ، بشأن القضايا الجوهرية المؤجلة ( القدس ، الاستيطان ، اللاجئين ) لتنتهي المرحلة بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة في الرابع من مايو ( أيار) 1999، وعندما حل الموعد أعلنت حكومة العدو " أن لا مواعيد مقدسة" ، حيث لم تتدخل الإدارة الأمريكية لإلزام الكيان الصهيوني للوفاء بوعد الدولة ، مع ضرورة التذكير هنا أن رئيس وزراء العدو آنذاك " اسحق رابين " أطلق تصريحه الشهير بعد توقيع اتفاقيات أوسلو بفترة وجيزة ، "بأن لا مواعيد مقدسة"، ليضع علامة سؤال كبيرة على مستقبل الاتفاق وهو لا يزال في المهد.
ثانياً: أن اتفاق خارطة الطريق الذي تم برعاية الرئيس الأمريكي جورج بوش عام 2003 نص على إقامة الدولة الفلسطينية عام 2005 ، وفق التزام السلطة الفلسطينية بنبذ العنف ( المقاومة) والتزام (إسرائيل) بوقف الاستيطان ، وما حصل أن السلطة التزمت بما هو مطلوب منها بتجريد الشعب والفصائل من السلاح ، في حين كثف العدو الصهيوني من مشاريع الاستيطان في الضفة ومحيط القدس ، وفي المحصلة كافأت واشنطن السلطة الفلسطينية على التزامها بمنع عمليات المقاومة ، بتجاهلها موضوع الدولة الذي وعدت قيادة السلطة به ، في حين كافأت حكومة رئيس وزراء العدو آنذاك "إريك شارون" بتقديم وعد له تضمن ما يلي :
"رفض حق العودة للاجئين الفلسطينيين / عدم عودة ( إسرائيل) إلى حدود 1967 / ورفض تقسيم القدس " ما يجعل حل الدولتين الذي تشدقت بها الإدارات الأمريكية منذ توقيع اتفاقيات أوسلو 1993 من سابع المستحيلات) 1967 .
ثالثاً : وللتذكير هنا فإن اتفاقيات أوسلو تم تمريرها بصعوبة في برلمان الكيان الصهيوني ( الكنيست) جراء رفض أطراف اليمين الصهيوني للاتفاقيات ، ما دفع زعيم ( حزب العمل) "شمعون بيريز" آنذاك لإلقاء خطاب توبيخي لأطراف اليمين ، مبيناً أن السلطة الناجمة عن اتفاقيات أوسلو ما هي إلا ممر لاختراق المنطقة، وفك العزلة الاقليمية والدولية عن ( إسرائيل) ،مذكراً إياهم بمقولة مؤسس الكيان الصهيوني " ديفيد بن غوريون " : "إذا لم نستطع اجتياز الحدود بالدبابات علينا اجتيازها بالمحاريث " ، ومن ثم فإن السلطة الفلسطينية من منظور حزب العمل لن تؤدي إلى دولة ، وأن أراضي الضفة مجرد مجال حيوي تابع للكيان الصهيوني ، وفق تقسيمات ( أ ، ب ، ج ) الواردة في اتفاقيات أوسلو (2) ( 1995) ، في حين أن الضفة الغربية من منظور اليمين الصهيوني بمختلف مسمياته " كاديما - ليكود وغيرهما" هي جزء لا يتجزأ من أرض ( إسرائيل) الكاملة .
رابعاً : أن اليمين الصهيوني ، منذ تولي بنيامين نتنياهو للسلطة على مدى حوالي عقدين من الزمن ، يرفض موضوع الدولة الفلسطينية ، ويؤكد على الحل الاقتصادي فقط للشعب الفلسطيني تحت الاحتلال ، وقد تم تثبيت هذا الحل في اتفاق صفقة القرن في مايو ( أيار) 2021 الذي طرحه الرئيس الأمريكي السابق " دونالد ترامب" بمباركة من قبل كياني التطبيع الإبراهيمي " الإمارات و البحرين ".
واشنطن تكذب أكثر مما تتنفس
إدارة الرئيس بايدن التي باتت تتباكى على حل الدولة الفلسطينية في هذه المرحلة ، تتجاهل أنها أقدمت على خطوات نقيضة لتبنيها المزعوم لحل الدولة ، وبهذا الصدد نشير إلى ما يلي :
1-أن الإدارة الأمريكية سبق وأن أفشلت أكثر من مرة ،مشاريع لوقف إطلاق النار في مجلس الأمن ، مفسحةً المجال للعدو الصهيوني للاستمرار في حملات الإبادة الجماعية ضد أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ، بالأسلحة الأمريكية المتطورة.
2-أن الإدارة الأمريكية ، لا زالت تعتبر منظمة التحرير الفلسطينية منظمة إرهابية ، رغم التنازلات المذلة التي قدمتها قيادتها المتنفذة، في اتفاقيات أوسلو وغيرها.
3- إقدام الإدارة الأمريكية ، على إغلاق مكتب منظمة التحرير في 17 سبتمبر( أيلول) 2018 ، وإلغاء إقامة ممثل المنظمة "حسام زملط" وإقامة عائلته ، وإلغاء الحسابات المصرفية للمنظمة ، وتوجيه أمر لممثل المنظمة بمغادرة الولايات المتحدة جراء رفض منظمة التحرير للطروحات الأولية لصفقة القرن آنذاك .
4- مصادقة مجلس النواب الأمريكي في 1 شباط (فبراير) 2024 ، على مشروع قانون يحظر دخول أعضاء من حركتي حماس والجهاد الإسلامي ،وكذلك مسؤولي منظمة التحرير من دخول الولايات المتحدة ، حيث صوت لصالح القرار ( 422) عضواً مقابل صوتين معارضين وتصويت نائب واحد بالحضور فقط .
استحالة قيام الدولة الفلسطينية في ظل الاستيطان
ما يجب الإشارة إليه أنه لو افترضنا جدلاً – وهو افتراض لا يستند إلى أي أساس مادي- بأن دول الغرب الإمبريالية تريد إنهاء الصراع بإقامة " دولة فلسطينية " تقوم إلى جانب دولة " الكيان الصهيوني" ، فهذه الدولة لا يمكن أن تقوم في ظل وجود دولة للمستوطنين في الضفة الغربية ، حيث يبلغ عدد المستعمرين في الضفة الغربية والقدس قرابة (800) ألف مستعمر ، نصفهم في القدس ، وفي ضوء أن الكيان الصهيوني يسيطر على أكثر من (60) في المائة من مساحة الضفة الغربية ، التي تحتوي على أحواض المياه الرئيسية وعلى معظم الأراضي الزراعية" وذلك وفق اتفاق أوسلو (2) ، الذي وقعت عليه القيادة المتنفذة لمنظمة مع الكيان الصهيوني عام 1995 .
وقد أكد تقرير رؤساء بعثة المفوضية الأوروبية ، إثر زياراتهم للضفة الغربية عام 2012 ، في ضوء متابعتهم لخارطة الاستيطان ، وسيطرة ( إسرائيل ) على ما يزيد عن 60 في المائة من مساحة الضفة في الضفة ، وكذلك إجراءات الاحتلال التهويدية في القدس ، باستحالة قيام دولة فلسطينية في الضفة .
كما أن الاستبيان الذي نشرته صحيفة " واشنطن بوست" الأميركية في 16-2- 2021 استناداً إلى أجوبة (521) خبيراً في منطقتنا ، والذي أظهر أن 52 في المائة منهم لا يرون قيام الدولة الفلسطينية ممكناً، في السنوات العشر المقبلة على الأقل ، وأن (6) منهم فقط يرونه محتملاً في عقود العقد المقبل ( انظر ابراهيم علوش، إحياء عظام "حل الدولتين" وهي رميم ، الجزيرة نت ، 27 كانون ثاني 2024)
كما يجب التذكير هنا بما جاء في كتاب استقالة مدير مكتب مفوضي حقوق الانسان في الأمم المتحدة " كريغ مخيبر " في 31 -10 – 2023 ، احتجاجا على تعاطي الهيئات الأممية مع الوضع في قطاع غزة ، والتي شدد فيها "على ضرورة تحمل المنظمة لمسؤولياتها حيال الإبادة الجماعية التي تنفذها ( إسرائيل) في قطاع غزة" ، وفي هذا الكتاب حذر مخيبر من حل الدولتين الوهمي ، ومن الرباعية الدولية العاجزة والمتواطئة ومن إخضاع القانون الدولي لإملاءات النفعية السياسية المفتر ، وأن المواقف يجب أن تستند بشكل غير اعتذاري إلى حقوق الإنسان الدولية والقانون الدولي" .
وأخيراً وباختصار شديد يتوجب على الشعب الفلسطيني وفصائله الوطنية، الحذر من " فخ الدولة " الذي يستهدف المصادرة على الانتصار التاريخي الذي حققته المقاومة في ( 7) أكتوبر 2023 ، وراكمت عليه على مدى أكثر من أربعة شهور بانتصارات متتالية أذلت خلالها العسكرية الصهيونية ، ومرغت أنفها ، وضربت في الصميم نظرية الأمن الصهيونية ، وطرحت سؤال الوجود للكيان الصهيوني بعد ضرب دوره الوظيفي في الصميم .
و في التقدير الموضوعي يتوجب على فصائل المقاومة، أن تبادر إلى إفشال خطط الإدارة الأمريكية وأطراف من النظام العربي الرسمي لمرحلة ما بعد وقف الحرب ، وأن تراكم على ما أنجز في معركة السابع من أكتوبر ، وفي مواجهة الحرب العدوانية الصهيونية البرية ، باتجاه استمرار الكفاح لتحقيق الهدف الاستراتيجي ممثلاً بتحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني ، بحيث تقام الدولة الفلسطينية على الوطن التاريخي للشعب الفلسطيني وعاصمتها القدس.