Menu

المسألة الوطنية في الصدارة. لماذا؟

محمد صالح التومي ـ المعروفي.

كتب محمد صالح التومي ـ المعروفي*

هناك موضوع لا بد من الوقوف عنده بجدية، ألا وهو موضوع علاقة المسألة الوطنية /القومية بموضوع المسألة الاجتماعية والديمقراطية.

إن المتتبع لسيرورات التاريخ البشري بإمكانه أن يقف على ظاهرتين مرتبطتين ببعضهما البعض ولكنهما متفرقتين كذلك، لأنه لكل ظاهرة قوانينها.

وتتمثل الظاهرة الأولى في أن الاجتماع البشري في عصر الهيمنة الطبقية وداخل كل مجموعة بشرية اختار افرادها التعايش مع بعضهم أو أجبروا على ذلك، قد تأسس على استغلال الطبقة المهيمنة للطبقة أو للطبقات التي يقع اضطهادها، فذلك ما رأيناه بصورة جنينية قبل اجتماع الأفراد المسيطرين في صورة طبقة مهيمنة أثناء نزعات التوحش البشري البدائية في مجتمعات الصيد والقطاف حيث يستأثر الأفراد الأقوياء بالنصيب الأوفر من الخيرات ومن فرص التزاوج والجماع الذي يتم غالبا بالاغتصاب، ثم رأيناه بصورة ناصعة وجلية :

أولاً: مع تبلور الطبقية في شكليها العبودي والإقطاعي، وهي الطبقية التي نشأت ضمن معطيات التمدن الريفي و الزراعي حيث تعمد طبقات ملاك العبيد وطبقات الإقطاعيين إلى استنزاف جهد المستعبَدين أو المسخَّرين لفائدتها في خدمة الأرض، وذلك بأبشع الصور التي خلدتها وقائع التاريخ،

وثانياً: مع انتصار التمدن الحضري الذي اتجهت إليه جهود سكان المدن من تجار وحرفيين ( أي صناعيين) ومرابين (أي أصحاب مصارف، وبنوك بعد تطورهم) رافعين شعارات حرية الصناعة والتجارة والمضاربة وممجدين للفردانية وللربح ورابطين ذلك بشعارات حرية الفكر والمعتقدات وحقوق الإنسان ، مؤسسين بتلك الصورة لنمط الإنتاج الرأسمالي ومستغلين لجهود ما سمي في الأدب الاشتراكي بالبروليتاريا إذ يدرجون الكادحين المنتدبين من قبلهم تحت نظام الإجارة ويسرقون منهم فائض القيمة ثم يُبقون أجزاء من مساكنيهم بعد تسريحهم من الأرياف يعيشون في الحرمان باعتبارهم بالنسبة إليهم جيشا احتياطيا من البطالين يعتمدون عليه حينما تجبرهم وقائع الصراع الطبقي والاجتماعي في شكليه النقابي والسياسي على انتدابهم مكان المتمردين والمتنطعين من الكادحين حيث يعمدون حينئذ إلى طرد هؤلاء المتمردين تعسفيا وإحالتهم إلى مراتب الخصاصة والحرمان.

أما الظاهرة الثانية فتتمثل في هيمنة المجموعات البشرية على بعضها البعض حيث يجتمع أفراد المجموعة التي أصابتها الخصاصة بفعل عوامل الطبيعة من جدب ونقص في الموارد وكوارث للهجوم على من يجاورونهم وافتكاك ونهب فائض خيراتهم وسبي نسائهم باعتبار الوضع الخصوصي للمرأة صلب المعطيات " الثقافية" للمجتمعات الذكورية؛

وقد أخذت هذه الظاهرة الهيمنية مختلف أشكالها البدائية في مجتمعات الصيد والقطاف ثم تهيكلت مع اكتشاف الزراعة فهكذا رأينا الغزوات الكبرى - وعلى سبيل المثال فقط- لليونانيين ( الإسكندر المقدوني) وللرومانيين وللبيزنطيين وللعرب /المسلمين ( امطري حيث شئتِ فخراجك لي- هارون الرشيد)، ثم إن هذه الظاهرة أخذت مع تطور النظام التجاري والصناعي الرأسمالي شكل ما أسماه المفكرون بالامبريالية واعتبروها أعلى مراحل الرأسمالية، وهم على حق في ذلك، ولكن هذه التسمية لا يجب أن تخفي قدم الظاهرة.. فالامبريالية هي الشكل الخصوصي فقط للرأسمالية وهي الوريث لكل نوازع الهيمنة القديمة.

وإذ كانت الهيمنة تتم في السابق بناء على الرغبة في النهب واستزادة الخيرات لفائدة مجموعة بشرية ما على حساب أخرى فإن الرأسمالية التي زادت في بلورة الظاهرة القومية واكتشفت ظاهرة الدولة - الأمة قد أعطت للهيمنة أبعادا جديدة بما يتناسب مع حاجيات " اليد الخفية للسوق" (آدم سميث) ومع جشع قوانين هذه السوق و اتجاهها نحو نهب خيرات الشعوب والأمم الأخرى لتغذية احتياجات معاملها، وإلى توسيع مجالات نشاطها وإشعاعها توسيعا لدائرة المستهلكين لبضائعها وسلعها إدراكا للعولمة وتوسّلا بتطوير وسائل التوصيل والتواصل والاتصال ما تجسم بعد الثورة الصناعية ومعطياتها في الثورة التكنولوجية والتِّقانية ومعطياتها التي تجاوزت معطيات الثورة الصناعية واعتبرتها من معطيات الماضي بمثل ما تجاوزت الثورة الصناعية معطيات الثورة الزراعية واعتبرتها أيضا من مخلفات الماضي.

إن ما يهمنا في سياق الموضوع الذي تصدينا إليه هو ان نقول وكما قال من قبلنا مثلا المفكر ميسراهي أنه بمثل ماهناك قوانين خاصة بالاستغلال الطبقي للكادحين المضطهَدين فإنه هناك قوانين خاصة بهيمنة بعض المجموعات البشرية على غيرها من الشعوب والأمم المضطهَدة ،

وهذه القوانين. الأخيرة تأخذ أشكالها الخاصة طبعا بحسب أنماط الإنتاج من عبودية وإقطاعية ورأسمالية، لأنها تلتقي جميعها في نزعة التوحش البشري البدائية التي تتجسد في تسلط المجموعة البشرية المهيمنة على المجموعة البشرية المضطهَدة ما يصل إلى الرغبة في إبادتها كليا أو جزئيا للحلول محلها فذلك ما شهدنا أشكاله القصوى سابقا وعلى سبيل المثال فقط في تصرفات المغول والتتار (وهم صنف من الأتراك) على أراضي الحضارة العربية الإسلامية، وما شهدناه في فترة المراكمة البدائية للمال مع الجحافل الإبادية للأنڨلو-سكسون بالخصوص عند هجومهم على الآنديين من سكان القارة الحمراء التي أطلقوا عليها باطلا اسم أمريكا، وما نحن شهود عليه على أيامنا هذه مع جحافل الصهاينة الذين يحتلون اليوم فلسطين باسم وعد خرافي / تلمودي يحاولون بواسطته إخفاء رغبة مصانع رأس المال ومؤسساته في نهب مصادر الطاقة من نفط وغاز وسرقة المعادن الثمينة والسيطرة على ممرات التجارة الموجودة فوق أراضي الشعوب العربية.

وما يجب أن نفهمه بوضوح تام هنا هو أن المهيمنين في عصر الرأسمالية الذين يجتمعون في ناد خاص بهم تتغير أسماء المنتمين إليه و تتوسع وتضيق قائمتهم حسب ملابسات التغالب صلبهم ( فلنتذكر الحروب الرأسمالية العالمية)، أو حسب ملابسات الصراع مع غيرهم من الموجودين خارج النادي والذين يطمحون إلى مزاحمتهم... إنما يتقيدون في تصرفاتهم بقوانين الغاب القديمة أي إن البقاء للأقوى ولا إمكانية للتفاهم الكاذب أوللتعايش المغشوش إلا عند تعادل موازين القوى. أما الضعيف فيقع سحقه والسيطرة عليه بدون رحمة.

وقد يطول الحديث لو أردنا ضرب الأمثلة على هذا حتى نفهم :

- كيف وقعت مغالبة القومية الألمانية حين اتخذت لها النازية سبيلاً ناشدة السيطرة لفائدة صناعاتها، فلما سُحقت فقد رضيت بوضع الهوان الذي وضعتها فيه "أميركا"، ثم رضيت بموقع الضعف في حلف الأطالسة.

- أو كيف تم القبول بالقومية اليابانية في نادي السبعة الكبار بعد سحقها بقنابل هيروشيما وناڨازاكي النووية، وهو القبول الذي تم فقط بعد اكتسابها لدرجة من القدرة في عالم التكنولوجيا رغم ضعفها في الميادين الأخرى.

- وكيف وقع تخليص القومية التركية (العثمانية) بواسطة الحرب من مستعمراتها بالوطن العربي وإلحاقها من موقع المنبوذ بالحلف الأطلسي مع تركها تتسول إلحاقها بالاتحاد الأوروبي دون جدوى.

- وكيف تمكنت القومية الصينية من احتلال موقعها بمجلس الأمن الدولي بعد رفض ذلك، ثم هاهي اليوم تسعى إلى افتكاك موقع الصدارة بأسلوبها التاريخي المخصوص من المسماة الولايات المتحدة الأميركية التي كانت فرضت نفسها " زعيمة العالم الحر"  على حساب عجوزتي الاحتلال المباشر أي بريطانيا وفرنسا.

- أو كيف تمكنت القومية الروسية الأورثوذكسية من المحافظة على ملحقات القياصرة بواسطة الفكرة الاشتراكية وبناء اتحاد سوفياتي جعلها تحتل موقعها بين الدول الكبيرة، فلما سقطت التجربة وقع القبول بها مع بوريس يلتسين عضواً ثامناً بما يسمى نادي " الكبار" ثم طردها منه عند مجيء فلاديمير بوتين بل وشن العدوان عليها في الدونباس سنة 2014 والتحالف ضدها في أوكرانيا عندما أرادت أن تدافع عن حياضها القومية لما وقف الحلف الأطلسي المتوسع على حسابها بعتبات دارها.

ودعنا من أمثلة أخرى كثيرة أخرى قد تتعلق بسياسة القومية الهندية و تعرجاتها منذ المهاتما غاندي ونهرو إلى اليوم، أو بسياسة قومية الزولو التي تستوطن ما يسمى "جنوب إفريقيا" منذ تشكلها مع زعيمها التاريخي تشاكا وهو يحارب الهولنديين إلى بروز زعيمها نلسن مانديلا وهو يتصدى لنظام الأبرتهايد البغيض.

ودعنا كذلك من الأسباب التي دفعت القوميات القديمة روسيا والصين والهند والزول ومعها البرازيل إلى تكوين مجموعة البريكس أمام ضغط " العولمة" الرأسمالية لحضارة الرجل الأبيض منعا لها من اكتساب أسباب القوة، فكان لا بد لها من محاولة الاجتماع والتحدي.

ودعنا كذلك من مثال القومية الكردية المظلومة والتي ألغتها اتفاقية سايكس بيكو من الوجود إلغاءً تاماً والتي تتخبط اليوم في تحالفاتها الدولية وعوضاً عن إيجاد مساحة تفاهم مع جوارها بمنطقة وجودها الجغرافي فهي ترتمي بين أحضان هولاء الذين ألغوا وجودها. والحديث هنا يطول، فتكفينا هذه الإشارة.

ولنقف ولو قليلا عند القوميتين القديمتين والمتجاورتين ألا وهما القومية الإيرانية أو الفارسية والقومية العربية.

فقد حاول الغرب الأبيض الرأسمالي والامبريالي إقامة إيران إلى جانب الكيان الصهيوني حارسا ثانيا له بالخليج زمن الحكم البهلوي، فلما ثارت المكونات التاريخية الثقافية بالخصوص والجامعة لهذه القومية في وجه ذلك غارسة نفسها في معطياتها الثقافية (المذهب الإسلامي الشيعي) فقد شهدنا ما شهدنا من ملابسات الصراع بين الطرفين.

أما القومية العربية فقد عمد الغرب المتصهين ومنذ سايكس بيكو تحديدا إلى إخضاعها لمؤامرة من نوع خصوصي بوصفها كانت صاحبة آخر حضارة قبل بزوغ الحضارة الأوروبية، وقد تجسمت هذه المؤامرة في غرس كيان داخل مناطق وجودها ألا وهو الكيان الصهيوني الذي أسكنوا مكوناته من الآشكناز ثم من السيفارديم والفلاشا في فلسطين الكنعانية، وجعلوا ذلك الكيان هناك بمثابة الخنجر المانع لهذه القومية من النهوض مجددا ومن إمكانية التوحد القومي بين مشارقها ومغاربها.

ثم أججوا الصراع الذي افتعلوه باسم الاختلاف بين المذهب السني والمذهب الشيعي وصولا إلى إشعال نيران الحرب بين أحد أجزائها ألا وهو العراق المسنود سنيا وخليجيا وبين جاره الإيراني .

فالسؤال هنا فقط هو لماذا نجح الإيرانيون عبر تعرجات الصراع في ان يصبحوا قوة لها شأنها بين الأمم؟

ولماذا رسبت القومية العربية. رغم محاولاتها مع محمد علي باشا وجمال عبد الناصر وصدام حسين، وسقطت في براثن ما سمي باطلا بالربيع العربي وتشكلت من صلب مذهبها السني جحافل الوهابية والدوعشة واتجه حكامها الرجعيون كما هو عهدهم منذ احتلال فلسطين إلى التواطؤ مع الغرب الامبريالي المتصهين وإلى التطبيع المشين بداية من كامب دافيد (مصر) إلى أوسلو ( الضفة الغربية لفلسطين) إلى وادي عربة (الأردن) إلى الاتفاقيات الابراهيمية التي شملت الإمارات والبحرين ومسقط عمان و السودان والمغرب الأقصى.

هذا هو السؤال الذي نطرحه بحدة في هذه المحاولة الفكرية على الوعي التقدمي والوطني / القومي العربي وهو يعيش تمزقاته الأليمة في لحظة " طوفان الأقصى" دون أن يفهم على حقيقتها أرضية الصراع التاريخي في راهن أحواله ، فهناك من ينعزل عن الصراع الوجودي للأمة العربية باسم الصراع الطبقي او باسم الصراع من أجل حقوق الإنسان في حين أن هذا الصراع الوجودي - كوننا أمة مهددة بالإفناء أصلا - يستوجب في ظل العولمة المتصهينة مثلما رأيناها مجسدة أمام أعيننا :

أولاً: وضع المسألة الوطنية في الصدارة دون أن يعني ذلك إهمالا كليا للمسألتين الاجتماعية والديمقراطية بل إدراجهما فقط صلب هذه الأولوية.

وثانياً: إتقان التحالفات والتقاطعات تحديدا للعدو الرئيسي الذي يبقى الامبريالية المتصهينة مع محاولة تحييد بقية درجات العداوة قدر الإمكان،

ثم التعامل في نطاق ذلك مع من يمدون يد الصداقة بدرجات صداقتهم والتفريق هنا بين الصديق ونصف الصديق.

مع وضع هدف واضح نصب الأعين وذلك بالتخطيط لاكتساب أسباب القوة الذاتية التي تفتقر إليها اليوم أمة العرب لأسباب داخلية وخارجية متشابكة،

وتتمثل الأسباب الخارحية في ضراوة المؤامرة الامبريابية والصهيونية ،

أما الأسباب الداخلية ففي الهزيمة المتواصلة لتيارات العقلانية والتنوير منذ انتصار الفكر الجبري على تيار العقل ومنذ سقوط بغداد ثم قرطبة او بعبارة أكثر تبسيطا ووضوحا منذ انهزام ابراهيم النظام وابن طفيل والرازي وابن رشد أمام ابن حنبل وابن تيمية والغزالي، وهذا الأخير في مرحلته الجبرية لأنه عرف ثلاثة مراحل أولاها معتزلية وآخرتها صوفية وكانت الوسطى منها هي الجبرية القائلة بانتفاء حرية الإنسان ولو نسبياً وعدم لزوم تغيير هذا الإنسان لما بنفسه لأنه لا حرية له أمام السطوة المطلقة للأقدار. فهذا ما قع العمل على ترسيخه، فلم تنجح مساعينا.

*كاتب تونسي