Menu

غزة: زمن التطبيع السائل والحرب السائلة

ثائر أبو عياش

في تعريفه لمصطلح السيولة، يقول عالم الاجتماع "باومان": "هي مرحلة تفكك المفاهيم الصلبة والتحرر من كل الحقائق والمفاهيم والمقدسات"، ويقصد انفصال القدرة على ما نستطيع فعله في السياسة تحديدًا، على ما يتوجب علينا القيام به، إذ كانت المرحلة الصلبة للحداثة، هي مرحلة الإنتاج والتطور التي تتحكم فيها الدولة، وتكبح جماع الافراد لصالح المجتمع، أما مرحلة السيولة، هي مرحلة تخلي الدولة عن هذا الدور، وفتح الأسواق أمام الرأسمال الحر والحديث، والذي غايته المزيد من الاستهلاك، وبحسب "باومان" تجاوز مفهوم الاستهلاك الفكرة الاقتصادية، ووصل إلى استهلاك العواطف والعلاقات الإنسانية، والتكنولوجيا، وغيرها.

انطلاقًا مما سبق أصبحت الحياة بحسب نظرية "باومان" تخضع لشرط السيولة، إذ أثرت هذه السيولة على الحب، وأكثر، أو الأهم على الأخلاق، وبالطريقة التي جعلت الحياة تعيش تحت وطأة الاستهلاك حتى في السياسة، كأن "باومان" يقصد في هذه الزاوية بالتحديد، أن "الغاية تُبرر الوسيلة" كما تحدث من قبل "ميكافللي"، وبذلك أصبحت الحياة تُتنج الخوف والقلق من المستقبل، بل وأصبح الشر مبرر حتى من جانب الدولة.

يقول الفيلسوف "افلاطون": " الظلم أفدح الشرور"، وعليه أصبح "التطبيع" هو المقدّس، بعد أنّ كان في زمن المدنّس، وأكثر أصبح التطبيع والذي هو أفدح الشرور يخضع للسيولة، والاستهلاك السياسي لدى الدول، وبوثبة سريعة إلى غزة التي تقبع تحت وطأة الحرب السائلة، يمكننا القول أنّ العالم يحاول تحويل الحرب في زمن التطبيع السائل إلى شيء مبرر، وذلك يعني تحويل القتل، والدمار، والتجويع، والابادة، والتشريد إلى أشياء استهلاكيه في سبيل تحقيق التطبيع، وهذا بدوره يحتاج إلى تحويل القيم، والأخلاق، والمبادئ إلى أشياء قابلة للمرونة أمام مشهد الموت، وأكثر يعني قلب الأشياء رأس على عقب، والتخلص منها، والتخلي عنها، واهم تلك الأشياء هي الروابط الإنسانية.

في زمن التطبيع السائل، لا وجود دور للإنسان، إذ كل شيء يسير بحسب ما يشتهي الرأسمال، حتى الحرب تخضع لهذا الشرط، فقد أصبح الجميع يعيش في سباق وراء كل ما هو جديد بحسب تعبير "باومان"، وهنا تحديدًا يقول "باومان": " في ظل السيولة كل شيء ممكن أن يحدث، لكن لا شيء يمكن أن نفعله في ثقة واطمئنان"، ومن زاوية ليست بعيدة عما سبق، إذ بات واضحًا أمام مشهد الحرب في قطاع غزة أنّ كل شيء بات مدفوعًا نحو التحليل، وصناعة المبررات في المصانع السياسية من أجل الاستهلاك لدفع الحياة نحو التطبيع والمرونة، حيثُ أصبحت مؤسسات الأمم المتحدة تقبع تحت وطأة الصمت، وأكثر أصبحت أي محاولة للوقوف ضد الإبادة في غزة يعني "معادة السامية"، وهنا تتجلى نظرية "باومان"، إذ يحاول العالم أمام مشهد الحرب في غزة جعل الحياة صاخبة ولكنها تخلو من أي علاقات إنسانية، بل فقط وجود علاقات سطحية استهلاكية دون الاهتمام بتكوين روابط حقيقة حتى في زمن الحرب.

إذن، في زمن الحرب السائلة، الأجساد تحرر من السجن، ولكن الروح ما زالت تقبع في سجن الذكريات، وبات واضحًا أنها ستبقى هناك للأبد، ومن جديد في زمن الحرب السائلة، يسأل الجسد أمام مشهد الحمل الثقيل: " ما فائدة الجسد إذا لم يتحرر الإنسان داخل الذاكرة؟"، إذ في هذا الزمن كل شيء خاضعًا للخوف، والقلق، والإرهاب السائل،  وفي ذات المنوال يُفتش الشعب الفلسطيني اليوم، والذي يعيش في زمن استهلاكية الخوف عن جدوى الإنسانية، والقيم الأخلاقية، والديمقراطية، حيثُ أصبحت كل هذه الأشياء هي الأخرى في زمن الحرب تعيش السيولة الاستهلاكية، كأنها شعارات فقط للتسويق لا لشيء آخر!
من جديد في زمن التطبيع السائل، يُفتش الشعب الفلسطيني عن الماء، والطعام، والدواء، والمأوى، حيثُ كل شيء أصبح في زمن الحرب السائلة هدفًا مشروعًا للطائرات، وأكثر يُفتش الشعب الفلسطيني عن الحياة في زمن الوصول إلى القمر، بل في زمن التكنولوجيا، والتطور الصناعي، ورفاهية الوجود، وأمام هذا المشهد تموت الأجنة، والأخيرة هي الأخرى هدفًا للحرب السائلة، وهذا يعني كلما قتلت ارتفعت قيمتك، بل وفي زمن التطبيع السائل، كلما استسلمت ارتفعت قيمتك، وكلما تنازلت أيضًا ارتفعت قيمتك.

أخيرًا وليس آخرًا في زمن التطبيع السائل، يُصبح عدم الاستسلام هو الفعل الصلب، وفي زمن التطبيع السائل أيضًا يُصبح الثبات على الموقف، والرفض، وقول كلمة لا يعني التمسك بالحقائق، وعدم تدنيس الإنسانية، وفي ذات السياق في زمن الحرب السائلة، تُصبح المقاومة هي الفعل المقدّس الخاضع للشروط الإنسانية، إذ تُمارس المقاومة هذا الفعل على ذاتها ومع شعبها اولًا، ومع عدوها ثانيًا، وفي ذات المضمار تسعى المقاومة في غزة إلى التحرر من السيولة الاستهلاكية في الحياة، والأخلاق، والأزمنة، والخوف، والمراقبة، والشر، وأكثر العودة إلى القيم والمفاهيم الإنسانية التي كانت ما قبل الحداثة السائلة، ورفض المزيد من الاستهلاك في الدم لإشباع الرغبات المؤقتة التي صنعها النظام الرأسمالي، بل وأكثر رفض استهلاك الشر، وتحويلة إلى عادة، وتفكيك كذبة أنّ الحرب هي السلام، وأنّ الإكراه هو الرعاية الحنون كما قال "جورج أورويل" في رواية الشهيرة "1984"، حيثُ تدرك المقاومة أنّ الحرب السائلة هدفها التطبيع السائل اولًا، وثانيًا على الصعيد الاستراتيجي ما الحرب إلا التعبير المكثف عن فتح الأسواق الاقتصادية السائلة، ويحتاج هذا الأمر إلى وجود القيم السائلة، والأخلاق السائلة، والفرد السائل، وهذا ما ترفضه المقاومة عبر قتالها وصمودها.