Menu

غزة تُحَرِرُ العالم

سبعة أشهر هزت العالم

د. عصام الخواجا


 كتب د. عصام الخواجا*

ساعات الصباح الأولى يوم السابع من أكتوبر المجيد، هزت الكيان الصهيوني وأفقدته توازنه، لولا أن هَبت الإدارة الأميركية ورأس هرمها السياسي والعسكري لنجدته، خشية عليه من خطر وجودي، لم يعش كابوساً مثله منذ 76 عاماً. 

أما السبعة أشهر ونيف التالية، من العدوان والإبادة الجماعية الصهيو-أميركية المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، فقد هزت العالم، وأيقظت فيه صحوة عارمة بحقيقة المشروع الصهيوني ودولته “إسرائيل”، وحفرت وعياً عميقاً، بحقيقة الصراع وجذوره، وكَنَست رُكام التضليل، وزيف الرواية الصهيونية-الاستعمارية، التي مهدت وروجت منذ قرنٍ من الزمن لآخر استعمار احتلالي استيطاني في التاريخ. 

بالمقابل، نحن شهودٌ على أداءٍ أسطوري لمقاومة فلسطينية، قادرة، راسخة، متجذرة، مبدعة، وشجاعة، فوق وتحت بقعة ميكروسكوبية، بمقياس المساحة والجغرافية، وعملاقة، بمقياس الفعل والتأثير والقيمة، اسمها غزة، عاشت وتعيش تحت حصارٍ صهيوني حديدي منذ أكثر من 17 عاماً، لكن، بفارق توفرها على حاضنة شعبية استثنائية، شكلت الحبل السُرِي لضمان نمو ونضوج وحماية هذه المقاومة، ولم تبخل بتقديم خيرة الخيرة من أبنائها، مقاتلين، وكوادر، وخبراء، وقادة أثبتوا عظمة الشعب الذي أنجبهم وعطاء الأرض التي احتضنتهم.

طوفان الجامعات

نعيش حراكاً شعبياً أممياً ممتداً في القارات الخمس، سار بخطٍ تصاعدي، وتراكم كمي، على مدى الشهور السبع الأولى من طوفان الأقصى، ما أنتج طفرةً وتحولاً نوعياً، بانطلاق شرارة انتفاضة طلاب الجامعات، من جامعة كولومبيا، إحدى أهم الجامعات الأميركية، ما يعكس تحولاً في وعي شريحة مهمة من النخب المؤثرة، التي اختارت تقدمها الصفوف في الدفاع عن قيمٍ، تغنت بها سلطة رأس المال المهيمنة في بلدانها زوراً، واستخدمتها كأدوات شعاراتية لاختراق مجتمعات “ما بعد الاستعمار”، ومن بينها نحن، لتكريس تبعيتنا لها، وقطع الطريق على انبعاثنا و”شعوب الجنوب” فكرياً وحضارياً. ورأينا مراراً، تكرار انتهاك هذه “القيم” من قبل القوى الامبريالية-الاستعمارية-الليبرالية-الجديدة، عبر عدوانها، واحتلالها، وتحريكها وتغذيتها للحروب المدمرة، كما فعلت في العراق وسوريا و ليبيا واليمن وأفغانستان.

إن ما حدث داخل حرم الجامعات، الأميركية والأوروبية تحديداً، أظهر وبشكل فج، ازدواجية المعايير والكيل بمكيال النفوذ الصهيوني، والمغالاة في قمع اعتصامات الطلبة في حرم جامعاتهم، في اعتداء صارخ وفاضح على “حق التعبير” و”الاختلاف” و”حصانة الحرم الجامعي”، معيدة إنتاج صورة القمع لذات الأسباب، من قبل الأنظمة الديكتاتورية والمتسلطة في دول الأطراف والجنوب التي تسير في الفلك الأميركي.

إن شريحة من جيل قادة المستقبل في المجتمع الأميركي، أظهرت تحولاً جذرياً في فهمها واصطفافها إلى جانب فلسطين وعدالة قضيتها، دون مبالغة، ودون تجاوز للموضوعية، ودون الوقوع في فرط التفاؤل، لكنه بحق يشكل محطة انطلاق لتغيير قادم في قلب “الوحش الإمبريالي”، وهو ما يفسر ارتباك منطق وصفوف النخب التي حكمت وما زالت تحكم في مختلف دول الغرب الاستعماري، وبشكل رئيسي، الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا ومن في خندقهم، والخاضعة لنفوذ اللوبي الصهيوني المالي – الاقتصادي والأيديولوجي. لقد نزع سلوك هذه الأنظمة، السياسي والقمعي داخلياً، والمتواطئ والمتعاون والشريك مع الاحتلال خارجياً، كل ما كانت تتدثر به من رواية صبغ مصطلح معاداة السامية الملفقة على كل من كان ينطق بالحق الفلسطيني ويدين الاستعمار الاحتلالي الاستيطاني العنصري الصهيوني، فمن بين أهم المشاركين في دعم الحق الفلسطيني في الجامعات الأميركية والأوروبية قطاعات واسعة من اليهود والمنظمات اليهودية المعادين للصهيونية، والرافضين لوجود دولة “إسرائيل” على أرض فلسطين التاريخية.

التبعية والتواطؤ بين قمتين

بين أكتوبر 2023 و ومايو 2024، عقدت قمة عربية إسلامية استثنائية وقمة عربية عادية، وخرجت بما يزيد على خمسين قراراً، تمثل 25% من سكان الكوكب، وناتجها المحلي الإجمالي يصل إلى 28 تريليون دولار، لم تقم، بكل ما تمثله من البشر، وبكل ما تمتلكه من الامكانيات والنفوذ والمال، بما يجبر الكيان الصهيوني على وقف جرائم الإبادة الجماعية، ولم تُقدم على الذهاب بمسار قانوني لمحاكمة دولة الكيان الغاصب “إسرائيل” ومن يدعمها، كما فعلت دولة جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، وجمهورية نيكاراغوا أمام محكمة الجنايات الدولية، وإشارتنا للمسار القانوني مقصودة، لأنه مسارٌ يضع القضية في يد طرف، يفترض فيه النزاهة والحكم بالبراهين والوثائق المفحمة على ما يرتكب من تطهير عرقي وإبادة جماعية، هذا إذا افترضنا إيمان بعض دول هذه القمم الراسخ بالحق الفلسطيني. لا بل الكل يعلم بحجم الدعم الذي وفرته بعض الدول العربية والإسلامية لهذا الكيان لتعويض ما يحتاجه من سلعٍ وغذاءٍ، لم يعد قادراً على تأمينها بسبب ما حل بمنشآت إنتاجه الزراعي والصناعي من شلل في شمال فلسطين المحتلة ومناطق غلاف غزة، وما أصاب طرق النقل عبر البحر الأحمر من تعطلٍ أدى لإخراج ميناء إيلات من الخدمة تقريباً، بفعل المقاومة ومحورها.    

بحكم التجربة، لم نعول أبداً على موقف رسمي تجاه دعم الحق الفلسطيني، وأقل ما يمكن وصفه به هو بالمخجل والمعيب، وها نحن نشهد خيانة بعض الأنظمة الرسمية العربية في عام 1948، وعام 1967 تتكرر في ملحمة طوفان الأقصى.

“محور المقاومة” في معادلات جديدة

نقف اليوم أمام حالة جيوسياسية جديدة في منطقتنا، ومعادلات ردع للكيان الصهيوني، وتوازنات دولية تتبدل لصالح الحق، وتَكَسُر الهيمنة المطلقة للإمبريالية الأميركية، ليس فقط في وطننا العربي والإقليم المحيط، بل في العالم. وكل ذلك بفعل المقاومة الأسطورية في غزة، وعموم فلسطين، ودخول “محور المقاومة” بالفعل وفي الميدان لمساندة غزة وفلسطين، وتماهي أداء “المحور” مع مقاومة غزة، ووضع امكاناته تحت تصرفها لم يعُد تعبيراً كلامياً، بل واقعاً، وحقائق يدعمها توثيق ومشاهدات وإحصائيات وأرقام، غيرت المعادلات.

إن أبرز آثار “محور المقاومة” وأداءه، أن هذا الكيان تحول بالمعنى الاستراتيجي إلى حالة الدفاع داخل حدود الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1948، وما يقوم به من إبادة وعدوان وحشي مستمر ضد غزة والضفة والشعب الفلسطيني، لا يندرج تحت مفهوم العمل الهجومي، بل هو فعل دفاعي، داخل حدود الأرض التي يدعي يهوديتها. وهو ما ينطبق على استهدافه وعدوانه المتكرر ضد لبنان وشعبه ومقاومته. 

إن الارتباك والقلق الصهيوني من المآلات الاستراتيجية للمواجهة في غزة تنبع من القلق الوجودي الذي يعيشه الكيان، ومركز التفكير والتخطيط والقرار فيه، بما يمنعه من القدرة على اتخاذ قرار بوقف إطلاق النار، وهو أبعد وأعمق مما يثار، عن أن السبب يكمن في مصالح نتنياهو الشخصية ومستقبله السياسي. إن ما هو في دائرة الخطر مصالح ومستقبل ووجود الكيان الصهيوني برمته، فوقف إطلاق النار الآن هو انتصار مدوي للمقاومة، وهزيمة تاريخية للاحتلال، ونُضيف، لقد ارتقت مقاومة غزة وفلسطين إلى مستوى التأثير الجيوسياسي الدولي، إلى جانب التحولات التي تحدثها الحرب في جبهة أوكرانيا، فغزة تساهم بدم أبنائها في بناء عالم جديد متعدد الأقطاب.

واقعية “فلسطين من النهر إلى البحر”

نحن أمام انهيار “واقعية حل الدولتين” بفعل حقائق التاريخ المنبعثة من تحت الرماد، والوعي المتجدد بجذور الصراع في فلسطين، ليكتسب شعار “الحرية لفلسطين” و”فلسطين حرة من النهر إلى البحر” سمة الحالة الطاغية لدى الرأي العام الشعبي العالمي، وخاصة في الدول الاستعمارية التي دعمت الكيان الصهيوني تاريخياً منذ نشأته، وما زالت، ما ينقلنا إلى مراحل جديدة من معركة الوعي، يمكن أن نبني عليها باستمرار فعلنا ونضالنا للتشبث بهذا المستوى الذي وصلت له القضية، وترجمة ذلك على شكل تحالفات شعبية وجماهيرية تكتسب سمة التنظيم والديمومة، لأن العدوان والإبادة ستتوقف في لحظة ما، وسيكون علينا واجب توظيف هذه التحولات بما يساهم في إحقاق الحق الفلسطيني، ويحرر ليس فلسطين وحدها، بل يحررنا كأمة من هيمنة الإمبريالية والصهيونية كقوة ما زالت متنفذة في مراكز صناعة القرارات السياسية والاقتصادية والمالية والتجارية الدولية. 

*نائب الأمين العام لحزب الوحدة الشعبية الديمقراطي الأردني