Menu

غزة وقراءة الألم

تغريد عبد العال

تغريد عبد العال

موقع تقدم

إذا كنا اليوم نحيا على آمال صغيرة، فإن غزة قد احتلت القلب والروح، صارت مساحتها هي آلامنا كلها. صغرت آلامنا الصغيرة منذ أن بدأ هذا الطوفان الذي ابتلع الفرح العادي والحزن العادي. كل شيء في غزة يقرأ سورة ألمه وينتظرنا، ونحن نكتب سيرة دموع تعبر وتجف. ما يلفتنا أحياناً هي تلك الكلمات التي تخرج من الوجع لناجين ينتظرون موت قادم، قد يجيء وقد لا يجيء. يكتب كتَّاب من غزة شعراء وأمهات وفنانون ما يشعرون به، وكأننا نقرأ ألمهم الذي وصل إلى السماء وحلّق بعيداً عنا جميعاً.

ما يكتبه صبايا وشباب غزة هو شعرنا المؤجل في وجع ما نزال لا نفهمه. لكننا نتأمل ضوءه الذي يملأ قلوبنا بالحكمة. نقرأ الألم الذي ارتفع إلى مستوى الحكمة ولأن التجربة أعمق من مجرد يوميات، إنها تجربة مرتبطة بكل شيء، بالجذور، بالتاريخ، بالبيت، بالشجرة وبالوجود ذاته. يكتب الغزي ويقرأ مثلنا ويجوع وكأنه صائم للأبد وبانتظار يوم تحلّق روحه وتعانق الأزل.

نرى فيما يصلنا من صور الطفل الذي يصنع مكتبة متنقلة، فنقرأ ما يقول ألمه، هو فلسطيني ورغم جوعه يقدر الكتب، بينما يحرق الاحتلال مراكزه الثقافية ومكتباته. نرى هوية يريد الألم أن يحكيها لنا، هوية تنكشف أمام العالم. وفي صورة أخرى يحضر بائع كتب غزي يقول لنا: أنظر إلى وجهك وأعرف الكتاب الذي يلزمك. 

طبعاً لو كان ما يقول هذا الكلام شاعر كبير لكانت تلك الكلمات أيقونة، لكن العالم الآن يتلمس تلك الكلمات الخارجة من عمق الحياة، يتتبعها ويحفظها وأحياناً ينسى من قائلها، لكن ذلك سيغير نظرتنا لمعنى الكلام. ثمة كلمات لا يمكن أن تموت، ولسنا نحن من نقرر، بل الزمن، فهو الذي ينتقي اللغة الحقيقية، لكن في حالة غزة، صرنا نرى اللغة شيئاً آخر. إنها ليست كلمات وليست نصوصاً، إنها ليست ما يسمونه الشعر وهي ليست ذلك الكتاب المطبوع على غلافه اسم كاتبه، بل في غزة، إنه الاحساس ذاته، وهو تجربة الاقتراب القسري من الموت وخاصة الموت القادم من الوحشية، الموت الجماعي الذي تغيرت بفعله معنى الحياة أيضاً.

يقول ناج من الحرب على غزة، لقد تغير معنى كل شيء بالنسبة لنا، حتى الحزن لم يعد هو ذاته. هكذا أصبح لغزة زمناً آخر وتقويماً آخر. وهنا نقرأ شاعر غزي (حسام معروف) يقول: أمضي سانداً عيني بيدي/ أخاف أن تسقط من ثقل الصورة. ليست هذه القصيدة أدباً، إن الألم من يكتب، أنها الروح، وهي الحقيقة ولهذا نعرف أننا نقرأ الشعر ونقرأ غزة..

الحقيقة ذاتها، هي من جعلت شعراء في العالم يغادرون منصاتهم وجرائدهم، لأن الشعر هو الحقيقة. كما نشرت الشاعرة الأميركية آن بوير، محررة قصائد الشعر في مجلة نيويورك، نص استقالاتها من منصبها وقالت إن قرارها أتى في ظل استمرار العدوان على قطاع غزة. وأكدت أن أقوى اجراء يمكنها اتخاذه لإدانة الحرب هو الاستقالة، خصوصاً أنها غير قادرة على كتابة الشعر في هذه الأوضاع. وتضيف في مسألة الاستقالة: لا مزيد من العبارات الملطفة، لا مزيد من كلمات الجحيم المطهرة، لا مزيد من الأكاذيب المثيرة للحرب. 

تقول آن بوير عن الألم: يبدو أن الفكرة الشائعة عن الألم “تدمر اللغة”، لكن الألم لا يدمر اللغة بل يغيرها. كما أن الأمر الصعب ليس مستحيلاً. وتضيف: “إن مشكلة فهم الألم في هذه الأيام، تتمثل في تأثير التعميم، وتشبع السوق بمسألة المشاهدة فقط”.

أما الروائية الهندية المناضلة أرونداتي روي، فقد صدر لها بيان في بداية العدوان تحت عنوان: “غزة لن يتكرر مرة أخرى”. وجاءت كلمة يتكرر مشطوبة، في إشارة إلى أن الإبادة تتكرر دائماً، وأشارت أرونداتي وشددت أن جرائم الصهيونية تشبه ما قام به النازيون، وأن أميركا متورطة بدعم وتمويل الإبادة الجماعية في غزة.

تقول روي في كلمة لها في ولاية كيرالا الهندية: “يبدو أن الشيء الأخلاقي الوحيد الذي يمكن للمدنيين الفلسطينيين أن يفعلوه هو الموت”، هل سنشاهد مرة أخرى شعباً بأكمله يتم تجريده من إنسانيته إلى درجة لا يهم فيها إبادته؟

وفي حوار مع الكاتب والمترجم اسكندر حبش تقول روي عبارة تفسر اهتمامها بقضايا العالم والظلم في كل مكان فتقول: على مر السنين، أدركت أنه كلما كان عملك أو خيالك أو تحليلك متجذراً في مكان ما، كلما تحدث عن البشر بشكل عام. 

أما الشاعر اليوناني دينو سيوتيس، عضو اللجنة التنسيقية في حركة الشعر العالمي، فقد كتب قصيدة لغزة يقول فيها: في هذه اللحظة التي لا يستمع أحد إلينا/ حيث لا يرانا أحد فلنمل رؤوسنا إلى الشرق/ دعونا نأخذ علنا موقفا مما يحدث/ الفظائع/ وعنف دولة فظة بالدبابات/ بالنار التي تدوس على أي حل/ ونزيف مدنيين محاصرين في غيتو غزة.

وقد أصدرت حركة الشعر العالمي بياناً قالت فيه: نحن في حركة الشعر، نفهم أن الشعر لا يمكن أن يعالج جراح الفلسطينيين وآلامهم، الذين يعانون من جرائم الاحتلال، لكن الشعر يستطيع أن يحضن الضحايا ويحرر الأرض من اللاعدالة. وإن عالم الشعر يحارب الإمبريالية، بكل أشكالها وندين هذا العدوان الوحشي على غزة من قبل إسرائيل ونطالب إسرائيل بالانسحاب وفتح الحدود.

طبعاً لا نستطيع تأمل الألم فقط من هذه النصوص، ولا يمكن للغة الألم أن تنضج الآن، فأحياناً لا يجد الألم لغة، وتكبر لغته، فيما يحدث لحواسه فيما بعد. فيرى أشياء أخرى، ويسمع صدى بعيد، ويشم أزهاراً لا تنمو في حقول، بل على عتبات نازفة، لمنازل غادرت منذ زمن. لكنها اللحظة التي نحاول الاقتراب دائماً ممَّا يحدث عبر الكلمات. إننا هنا لا نقيم ولا نبحث في الأسلوب، بل هي تلك الرعشة التي نتفاجأ بها حين يدمع القلب ونحن نحتضن الأطفال اللاجئين في لغتنا الحميمة. فقد كتب الشعراء الغربيون والعرب نصوصاً واتخذ الكثيرون منهم مواقف في موازاة كلماتهم، ولكن يبقى السؤال: كيف نرفع هذه اللغة ليصبح لها ضوء قوي يغمض الغزاة أعينهم؟ ربما لا جواب حتى في اللغة نفسها، لكننا نحاول أن نترك ذلك الألم يمشي إلى صفحات العالم البيضاء التي تدعي النقاء ويلوثها بالحقيقة.

تماماً كما يقول الشاعر مصعب أبو توهة من غزة: لا تندهش أبداً/ حين ترى وردة مشرئبة بكبرياء/ بين أطلال البيت/ هذه طريقتنا للبقاء على قيد الحياة. 

نعم، سندرك يوماً أن حتى سقاية ورودنا، كانت طريقة للاعتناء بالألم وتحويله إلى رحيق للروح وللوطن.