Menu

الصهيونيّة واللاساميّة في أدبيّات حركة القوميّين العرب

نفج الرشيد   

غلاف ملحق فلسطين العدد 4 ويبدو في الزاوية غلاف رواية «أكسودس» مع تحليل ونقد لها صفحة 10-11

 

[إلى أهل غزّة ومناصريهم في العالم]

«(عام 1952) بدأ نشاط النواة المؤسِّسة لهذا العمل من قبل مجموعة صغيرة من الشباب العرب، الذين تصادف وجودهم طلاباً في الجامعة الأميركية في بيروت أيام نكبة فلسطين عام 1948... في تلك الأيام، رفضَت مجموعة صغيرة من الطلاب العرب أن تقف على الرصيف وتتفرّج، غير عابئة بما كان يجري أمام ناظريها في ذلك الشارع العربي الكبير من إجرام وخطايا وخيانات بحقّ شعبنا ووطننا، فقد شكّل ضياع فلسطين نقطة تحوّل كبرى في حياة الأمّة العربية ومسيرتها على صعيد الجماهير وعلى صعيد الأنظمة العربية عامّة».

هاني الهندي وعبد الإله النصراوي - «حركة القوميين العرب: نشأتها وتطوّرها عبر وثائقها 1951-1968»

بهذه الكلمات، افتتح مؤلّفا أحد أهم الكتب الصادرة عن حركة القوميين العرب كتابهما. ونحن هنا إذ نقوم باستعراض محدّد لكتابين كانا من أهم إصدارات الحركة عن الخطر الصهيوني في فلسطين، فإنّ من المهمّ تسليط الضوء على كيف فهمت نُخبة عربية وفلسطينية قضية الصراع مع الصهيونية ومشروعها المُتشكّل على أرض فلسطين.
على ضوء تخرّج المجموعة المؤسِسة ( جورج حبش ووديع حداد من فلسطين، هاني الهندي من سوريا، وأحمد الخطيب من الكويت، مع صالح شبل وغيرهم) في الجامعة الأميركية، صيف 1952، اتُّفق على تأسيس الحركة تحت اسم «حركة القوميين العرب». وعلى ضوء العدوان الثلاثي على مصر الناصرية عام 1956، حصل اللقاء، ومن ثم التحالف، بين الحركة والحركة القومية العربية ممثّلة بالرئيس جمال عبد الناصر والنظام الوحدوي في مصر وسوريا. ولهذا، وعلى ضوء دور الكيان الصهيوني في التآمر على مصر ومحاولة السيطرة على قناة السويس مع قوى الاستعمار القديم في ما عُرف بالعدوان الثلاثي حينها - وذلك لأهمية الممرات البحرية والتجارة العالمية - فقد طلب الرئيس عبد الناصر من هاني الهندي تقريراً عن الكيان الصهيوني، وهكذا صدر عام 1958 عن الحركة كتاب «إسرائيل: فكرة.. حركة.. دولة..» (هاني الهندي، محسن إبراهيم - الفجر الجديد للطباعة والنشر).

«إسرائيل: فكرة.. حركة.. دولة..»
صدر الكتاب لاحقاً ضمن إصدارات «مركز الأبحاث الفلسطيني» الذي أنشأته منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1966 بعد تأسيسها بقيادة أحمد الشقيري، وتسلّم مهمّة إدارته د. أنيس صايغ (يُلاحظ، في مقدّمة الكتاب، وفي المقطع الأخير منه، الدعوة إلى أن يقوم قادة الجمهورية العربية المتحدة بإنشاء «معهد علمي لتوفير المعرفة كركن لردّ غدر العدوّ».
حوى الكتاب أقساماً أربعة: الأوّل، عنى بتقديم لمحة تاريخية عن تاريخ اليهود منذ النبيّ إبراهيم إلى الخروج من مصر بقيادة موسى. الثاني، الإعداد الحديث لاحتلال فلسطين. وتضمّن القسم الثالث نظرة على المجتمع الغاصب. أمّا القسم الرابع، فمصير الاغتصاب بعنوان «نحن والمستقبل».
صدر الكتاب بعد عشر سنوات على النكبة. وسنتناول هنا القسم الثاني، وهو حول الدعوة الصهيونية التي عرّفها المؤلفان كما عرّفها هرتزل، أي: «حركة الشعب اليهودي في طريقه إلى فلسطين». مضى الكتاب في تتبّع تلك الحركة، حيث سجّل أنه حصل تغيير كبير في الحياة اليهودية في نهاية القرن التاسع عشر، مع التأثّر بالفكر القومي في الدول الأوروبية، فشهد بدايات العمل لوضع أسس العمل المنظّم لبناء الدولة اليهودية في مؤتمر بال في سويسرا. كان عند اليهود حينها خياران: إمّا الاندماج في المجتمعات التي وجِدوا بها، وذلك بتأثير من الثورة الفرنسية وشعاراتها، فكان موسى مندلسون، اليهودي الألماني، ممثّلاً لتيّار الاندماج في المجتمعات التي عاش بينها اليهود، حيث كان أبرز الداعين إلى الذوبان في البيئات التي أقام بها اليهود. أمّا في أوروبا الشرقية، فقد كانت دعوة الهجرة أكثر قبولاً وذلك لاشتداد حملات الاضطهاد ضدّ اليهود وخاصّة في روسيا الشرقية (أوكرانيا الحالية).
رأى بن غوريون أنّ الصهيونية «لم تكن مجرد نظرية شاملة أو مفهومٍ فلسفيّ أو دينيّ، مستقلة عن الزمان والمكان والظروف، لكن كانت في الواقع فلسفة يهودية هي في جوهرها نضال ضدّ الاندماج... كان هناك اتجاهان: الاندماج أو الصهيونية». كذلك اعترف هرتزل بأنّه «إن لم يكن هناك ضغط أو اضطهاد ضدّ اليهود فيجب أن نخلقهما لكي نقوّي الصهيونية ونجعل اليهود يتحركون لتحقيق أهداف الصهيونية».
كان لمؤلفات وأفكار عصر التنوير آثار مهمة في العقل اليهودي، إذ أحدثت حركة إصلاح وتطوير للمفاهيم، وحصل إقبال على تعلّم اللغة العبرية، بالإضافة إلى يقظة دينية في شرق أوروبا تحوّلت لاحقاً إلى يقظة قومية بتأثير من الحركات القومية في إيطاليا وألمانيا وغيرهما، حيث تحوّل الشعور الديني إلى حركات سياسية عبر عقود طويلة، فكان من أبرز مفكّريهم: موشي هيس، وليون بينسكر، بالإضافة إلى آحاد هاعام، ناحوم سوكولوف، وبن يهودا، وآخرون. كما برز في بريطانيا بنيامين دزرائيلي (أول رئيس وزراء صهيوني ومن أصول يهودية في بريطانيا). إنّ كل هذه النتاجات الأدبية، وغيرها، كانت تهدف إلى إيجاد حلّ لليهود. كما قامت في فرنسا منظمة «الإليانس» لنشر المدارس لتعليم اللغة العبرية. وقام عدة أثرياء متنفّذين، منهم السير مونتفيوري في بريطانيا، لتحقيق مشاريع عملية. بالإضافة إلى البارون دي هيرش من أثرياء النمسا، والبارون دي روتشيلد، الذي أسّس مستعمرة ريشون لزيون أقدم المستعمرات عام 1882 قرب يافا والتي تطوّرت إلى حي تل أبيب المستقبلية. كما برزت جمعية «كاديما» (إلى الأمام) لتدريب الشباب اليهودي وتنظيمه.
إنّ كل هذه المحاولات كانت مبادرات فردية إلى أن ظهر كتاب هرتزل [دولة اليهود]، ونجاح المؤتمر الصهيوني العالمي في مدينة بال في آب 1897، الذي قام بوضع «برنامج بال» وإعلان قيام المنظمة الصهيونية العالمية، بالإضافة إلى تشجيع الاستعمار اليهودي في فلسطين. بعد ذلك المؤتمر بعشرين عاماً، قامت بريطانيا بإعطاء اليهود وعد بلفور، وبعدها بخمسين عاماً أعلنت الأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين ومن ثمّ قيام «إسرائيل».
كان لمتابعة كنفاني للإصدارات الأدبية الصهيونية عاملٌ مهمٌّ في لفت نظر المثقّفين الفلسطينيّين للدور العالمي المهمّ للأدب الصهيوني، وخاصّةً بعد إعطاء جائزة نوبل للأدب عام 1966 لأديبٍ صهيوني

أمّا المؤتمر الثاني للمنظمة بعد سنة، فقد كان أبرز مقرراته تأسيس شركة للاستعمار اليهودي في فلسطين، وهكذا تشكّلت الأدوات السياسية والثقافية والمالية لاستعمار فلسطين. ولعبت المنظمة الصهيونية العالمية الدور الرئيسي في كل ذلك، وبالأخص العمل على هجرة اليهود إلى فلسطين. وفي المؤتمر الخامس، تمّ تأسيس الصندوق القومي اليهودي (الكيرن كايمت)، بالاضافة إلى إنشاء بنك «إنكلو بالستين» وتأسيس جامعة عبرية في فلسطين.
وهكذا رأى الكتاب أنّه «كان المؤتمر الصهيوني العالمي الأداة التي أخذت على عاتقها مسؤولية الهجرة بشكلها الجديد». ومن أوائل موجات الهجرة إلى فلسطين، أي من عام 1882- 1903، بينما حصلت الموجه الثانية من عام 1904 إلى 1917 وكانت الأكثر تعصباً ليهوديتها ومن أواسط عمالية ومنها برزت قيادات «الهاغانا» ومنظمة «هاشومير»، أمثال: بن غوريون وموشي شاريت وغيرهما.
سنة 1917، حصل الانتداب البريطاني، كما صدر وعد بلفور موجّهاً إلى البارون روتشيلد، فتم تأسيس الوكالة اليهودية عام 1920 في فلسطين لإدارة شؤون اليشوف، بالإضافة إلى فتح باب الهجرة إلى فلسطين. كما تم في نيسان 1925 تأسيس الجامعة العبرية في القدس .
وقفت الحركة الصهيونية إلى جانب قوات الحلفاء، في الحرب العالمية الثانية، وبالأخص بريطانيا ضمن ما عُرف بـ«الفيلق اليهودي». ومع دخول الولايات المتحدة الأميركية الحرب، نُقل نشاط الحركة الصهيونية إليها بدءاً من سنة 1942، حيث ازداد نفوذهم فيها، إلى إعلان قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني عام 1947، ولاحقاً للاعتراف بالدولة اليهودية عند تأسيسها في 15 أيار من عام 1948 من قبل الرئيس ترومان.

«في الأدب الصهيوني»
كان من الانعكاسات الداخلية لسقوط دولة الوحدة بين مصر وسوريا في أيلول عام 1961، أن بدأ التفكير داخل الأطر القيادية لحركة القوميين العرب لتأسيس جهة متخصصة بالعمل الفلسطيني. هكذا نشأ «إقليم فلسطين» داخل الحركة، وتسلّم زمامه الدكتور وديع حداد - الذي سعى إلى تأطير أعضاء الحركة الفلسطينين في اتجاه العمل نحو فلسطين. لاحقاً، اعتمدَ «إقليم فلسطين» على ملحق «فلسطين» التابع لجريدة «المحرّر» في بيروت، ليكون ناطقاً باسمه، وكُلِّف غسان كنفاني برئاسة تحرير الملحق، ما جعله من أفضل الإصدارات الناطقة باسم القضية الفلسطينية. كما كان لمتابعة كنفاني للإصدارات الأدبية الصهيونية عامل مهم في لفت نظر المثقفين الفلسطينيين للدور العالمي المهم للأدب الصهيوني، وخاصّة بعد إعطاء جائزة نوبل للأدب عام 1966 لأديبٍ صهيوني.
وعلى ضوء كشف كنفاني عن الأدب في الأرض المحتلة، قام د. أنيس صايغ، مدير مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير، بتكليفه بالكتابة عن الأدب الصهيوني (راجع: أنيس صايغ، مقدمة كتاب «في الأدب الصهيوني» - غسان كنفاني) وذلك إثر نشر كنفاني مقالتين في الملحق: إحداهما حول رواية «أكسودس»، والثانية حول منح جائزة نوبل لرواية صهيونية. عمِل كنفاني لمدة عام كامل على الكتاب ليصدر نهاية خريف سنة 1967.
افتتح كنفاني كتاب «في الأدب الصهيوني» بالجملة الآتية: «قاتلت الحركة الصهيونية بسلاح الأدب قتالاً لا يوازيه إلا قتالها بالسلاح السياسي». يكمل: «لن يكون من المبالغة أن نسجل هنا أن الصهيونية الأدبية سبقت الصهيونية السياسية... إذا كانت الصهيونية السياسية هي نتاج للتعصب وللعرقية، فقد كانت الصهيونية الأدبية هي أولى إرهاصات ذلك». هذا الأدب «قام، تحت ضغط نموّ العنصرية في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، بلعب دور دليل العمل لذلك التيار اليهودي المتعصب الذي ما لبث أن بلور نفسه في حركة صهيونية سياسية».
قام كنفاني، عبر مراجعته لأكثر من خمسين مرجعاً وعبر ثمانية فصول لاحقة، بإيضاح وجهة نظره حول دور الصهيونية الأدبيّة في تأطير المشروع الذي قام على أرض فلسطين. شرح كيف قاتلت الصهيونية السياسية «قتالاً مريراً» لتُكمل قتالها في رفض الاندماج، حيث كان لجهودها لتحويل الديانة اليهودية إلى علاقة قومية ضرورة لاستخدام اللغة العبرية كـ«احتمال وحيد لرابطة مفقودة تُشكّل الرابطة القومية». وكيف أنّه عبر ألفي سنة «كفّت اليهودية عن كونها رابطة قومية»، إذ لم يكن هناك أية رابطة جغرافية أو حضارية أو اقتصادية أو سياسية الخ». حتى السامية كانت رابطة سلبية، إذ كانت اللاسامية هي رابطة خارجية وليست داخلية، بمعنى أنّها كانت موقف غير اليهودي (الأوروبي) من اليهودي. لهذه الأسباب، كانت اللغة جبهة شديدة الأهمية للحركة الصهيونية والخيط الواهي الوحيد الذي يربط بين اليهود في تشتّتهم، لذا كان من مهام الصهيونية جعل اللغة العبرية لغة قومية: «القتال على جبهة اللغة كان مصيرياً كمثل القتال على جبهة رفض الاندماج». وهو ما زاد من حدّة التناقض داخل الدعوة الصهيونية، من حيث إنّها أرادت أن يشكّل الدين والقومية موضوعاً واحداً، إذ اختفى البطل اليهودي ليصعد البطل العبري.
تحت عنوان «ولادة الصهيونية الأدبية»، عرَّفَ كنفاني الصهيونية أيضاً بأنها «الحركة اليهودية باتجاه فلسطين»، كما لاحظ أن ذروة الإنتاج الأدبي الصهيوني جاءت في الفترات التي تحسّنت فيها أحوال اليهود نسبياً - أي الفترات التي أُعطي فيها اليهود حقوق المواطنة في الدول التي كانوا يعيشون فيها - وهو عكس التصور الشائع الذي يقول إن اضطهاد اليهود هو السبب الذي دفعهم إلى الشعور بالتميز وبالتالي اكتشاف أرض الميعاد.
في فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر، منحَ المجلس الوطني الفرنسي حقوقاً غير مشروطة للمواطنين اليهود. وبدل أن تنمو في هذا الجوّ دعوات الاندماج والمواطنة، فقد استغلت القلّة التي كانت تمثّلها طبقة يهودية ذات امتيازات اقتصادية ومالية خاصة، للضغط في الاتجاه العنصري المتطرف، وجوبهت هذه الحقوق بالرفض. وفي ألمانيا، دعا ساسون هيرش (1808 - 1888) إلى مسألة عصرنة اليهودية عن طريق الدعوة إلى الامتزاج الثقافي لليهودية في الثقافة الأوروبية، لكن موقفه ووجه بموقف مضادّ من قبل إبراهام جيغر. وفي الفترة بين 1815 - 1855 تمتّع يهود أوروبا الشرقية بحرية نسبية أدت إلى نشوء حركة «هاسكالا» - أي التنوير الذي شهد بعث الأدب العبري في بولندا وروسيا. أمّا في إنكلترا، فقد تحسنت أحوال اليهود وتزايد الإنتاج الثقافي بطابع عنصري على أيدي طبقة يهودية ذات امتيازات اجتماعية واقتصادية.
يخلُص كنفاني إلى أنه لم يكن الاضطهاد هو ما استولد الصهيونية، ولكن الفترات الانفراجية - التي كان يمكن أن تكون مدخلاً إلى الاندماج بينما كانت تُرفض من قبل طبقة يهودية خاصة رفضاً عرقياً وعنصرياً محضاً. فقد كان هناك استبدال للأدوار بين المضطهَد والمضطهِد، حيث إنّ التاريخ اليهودي يثبت بأن الفترات التي ساهمت في إثبات الشخصية اليهودية كانت تلك التي لم يضطهدوا فيها، والحقيقة أن «الأعمال اليهودية الكلاسيكية الكبرى، التي تشكل في مجموعها التراث اليهودي، أُنشئت في الفترات التي لم يُعانِ فيها اليهود من الاضطهاد والخوف». ولهذا، فإن الدعوة إلى الانفراج كان ينبغى أن تكون رسالة الصهيونية، لكنها لأغراض عنصرية ذهبت إلى الموقع المعاكس برفض الاندماج، ما يؤدي إلى الاستنتاج بنتيجة خطيرة تُلغي دعوى صهيونية أدبية مكررة بأنّ إسرائيل كانت جزءاً من الرد على الاضطهاد، ولكن أيضاً ستُظهر باتصال بأنّ الروائي الصهيوني سيجد نفسه على الدوام مطالباً بتبرير إسرائيل بالوقوف في مواقع عنصرية، كردٍ سلبي على المعضلة اليهودية وليس لتجاوزها.
كما يذهب كنفاني مدىً أبعد وأكثر إنسانية حيث يرى أن «أحداً لا يستطيع أن يطلب من اليهود أن يكونوا شهداء الحماقة البشرية، ولكن في ظروف العصر الحديث التي اتسعت فيها الحقوق الإنسانية وتنامى الوعي العالمي، كان يمكن للصهيونية أن تصل بأوضاع اليهود إلى ما وصلت به في الولايات المتحدة - حيث اعتبر ناحوم غولدمان سنة 1965 أن الاندماج في المجتمع الأميركي واجبٌ يهودي». وكمثال على أسطورة التفوق، يورد أسطورة اليهودي التائه الذي سيصبح عبر العذاب يهودياً أفضل. (وصلت أسطورة «اليهودي التائه» إلى أوروبا مع رجوع محاربي الحروب الصليبية من فلسطين، وهي تدور حول بواب كان واقفاً خارج المحكمة التي حُوكم بها المسيح، حيث صاح بيسوع بينما كان خارجاً من قاعة المحكمة قائلاً: «امضِ لماذا تتلكأ»، فما كان من يسوع إلا أن نظر إليه قائلاً: «سوف أمضي، ولكنك أنت ستبقى حتى أعود»، وهكذا حُكم عليه العيش ليوم القيامة. وأنّه سيواصل تشرّده لحين عودة المسيح!).
يخلص الكاتب إلى نتيجة أن الصهيونية ستوظف إمكاناتها غير المحدودة لطغيان الأدب الصهيوني، ما سينعكس بصورة خاصة على الأبطال اليهود في الأعمال الأدبية خلال رحلتهم الطويلة، بدءاً من القرن التاسع عشر إلى الآن، والتي يتصاعد بهم من البطل الديني إلى الطراز الشيلوكي، لتصل في النهاية إلى «دافيد السياسي» الأقرب إلى العقدة النفسية: المطلق القوّة والصواب المعصوم، والذي يُلبِس العالم أمامه شبح جوليات».
وحول دعوة اللاسامية التي تُلصق بالعرب، يقول كنفاني إنهم أساساً ساميون، وبالتالي «لا يمكن أن يكونوا لاساميين، فإنه من ناحية سيكولوجية، يستحيل أن يكون العربي المسلم بالذات لاسامياً، لأن جوهر اللاسامية وأساسها هما قصة صلب اليهود للسيد المسيح، الأمر الذي ينكره العقل الإسلامي أصلاً».
بهذا العرض المختصر لكتابين من أهم إصدارات حركة القوميين العرب، نرى ريادة الحركة في التصدّي للفكر والأدب الصهيوني. وقد دفع الكاتبان ثمنها محاولات تصفية جسدية، مع غيرهما؛ إذ تمت محاولة اغتيال الدكتور وديع حداد في تموز 1970 بقصف بيته بعدة صواريخ نجا منها بأعجوبة. كما تمت تصفية الأديب المناضل غسان كنفاني في تموز 1972، وتوجيه طرد مفخخ إلى د. أنيس صايغ بعدها بعشرة أيام، وإلى الصحافي بسام أبو شريف. كما اغتيل أحد أهم مؤرخي الحركة المناضل والوزير العراقي السابق د. باسل الكبيسي في باريس. واختطفت لاحقاً طائرة الميدل إيست المتجهة إلى بغداد والتي كان من المفترض أن تقلّ د. جورج حبش حيث حطّت في اللد بدلاً منها وذلك عام 1973. وأخيراً، تمت محاولة اغتيال المناضل والوزير السابق في عهد الوحدة هاني الهندي في صيف 1981. أمّا مركز الأبحاث الفلسطيني، فكان مصيره أشدّ سوداوية، إذ نجا من عدّة محاولات لتفجيره، إلى أن اجتاحت قوات شارون وبيغن في عام 1982 العاصمة اللبنانية بيروت، حيث تمّت سرقة مكتبته وأرشيفه ونقلها إلى داخل الأرض المحتلة.
إنّ كلّ ذلك يثبت شيئاً واحداً: تناقض المشروع التحرّري الوطني الفلسطيني والوحدوي العربي مع المشروع الصهيوني في المنطقة. وها نحن نشهد الآن على الحركات اليهودية المتعددة في أميركا وأوروبا التي تنادي بالاندماج وبأن الجرائم الصهيونية في فلسطين «ليست باسمها». إنّ كلّ هذا يدلّ على أنّ الحركة الصهيونية التي تريد استخدام الدعوة الدينية اليهودية خدمة لمشروع استعمار فلسطين، هي حركة عكس التاريخ وعكس توسّع حقوق الإنسان والمساواة بين الشعوب.