أثارت عملية الكرامة التي وقعت صباح الأحد الماضي، وما تلاها من إغلاق دولة الاحتلال للمعابر مع الأردن، تساؤلات حول مدى تأثير هذه الأحداث على افتتاح مكتب الاتصال الخاص بحلف الناتو في عمّان. ففي حين يعكس افتتاح المكتب نية الناتو تعزيز تواجده الاستراتيجي في الشرق الأوسط، تأتي التطورات الأمنية الأخيرة لتضيف تعقيدات جديدة على هذه الخطوة. إذ يتعين على الناتو الآن موازنة أولوياته الأمنية مع التوترات الإقليمية المتصاعدة، لا سيما في ظل العلاقات الحساسة بين الأردن ودولة الاحتلال. هذه التحديات تضع قدرات الناتو على التكيف مع الوضع الإقليمي على المحك، في ظل تصاعد الصراع وتأثيره على الاستقرار المحلي.
يُعد إعلان حلف شمال الأطلسي (الناتو) عن افتتاح أول مكتب اتصال له في الشرق الأوسط، وتحديدًا في الأردن، الذي تم خلال القمة السنوية الخامسة والسبعين للناتو، التي انعقدت في يوليو 2023، خطوة لافتة تسعى إلى تعزيز وجود القوى الغربية في المنطقة.
تأتي هذه الخطوة في سياق جيوسياسي معقد تتداخل فيه المصالح الأمنية والاستراتيجية للقوى الكبرى مع ديناميات إقليمية تتعلق بالوضع في فلسطين والحرب على غزة والضفة الغربية. ولكن، وراء هذه الخطوة الرسمية تبرز تساؤلات جوهرية حول نوايا الناتو، ومدى تأثير هذا المكتب على الأمن الإقليمي، وكذلك انعكاساته على العلاقات الدولية في الشرق الأوسط.
انخراط القوى الغربية: استمرارية الهيمنة أم تحالفات أمنية جديدة؟
لا يمكن النظر إلى افتتاح مكتب الناتو في الأردن بمعزل عن تاريخ طويل من التدخلات الغربية في الشرق الأوسط، التي لطالما ارتبطت بمحاولات فرض السيطرة على الموارد الحيوية والمواقع الجيوسياسية الاستراتيجية. فالوجود العسكري الغربي في المنطقة، سواء عبر قواعده أو تحالفاته الأمنية، يأتي في سياق إعادة إنتاج أنماط الهيمنة الاستعمارية القديمة. لذا، يمكن اعتبار مكتب الاتصال هذا امتدادًا لاستراتيجيات الهيمنة التي تسعى إلى إعادة تشكيل المنطقة بما يخدم المصالح الغربية.
من ناحية أخرى، يأتي افتتاح هذا المكتب في وقت يشهد فيه الشرق الأوسط تحولات كبرى على صعيد التحالفات الدولية. فقد بدأت دول المنطقة بتنويع علاقاتها الاستراتيجية خارج نطاق القوى الغربية التقليدية. ولعل ازدياد النفوذ الصيني والروسي في الشرق الأوسط يُعد مؤشرًا على هذه التحولات. فالصين، على سبيل المثال، نجحت في تعزيز دورها الدبلوماسي في المنطقة، وإن كان تأثيرها الأمني ما يزال محدودًا. أما روسيا، فهي تنخرط بشكل أكبر في النزاعات الإقليمية، لا سيما في سوريا وأوكرانيا.
الحرب على غزة والضفة الغربية: ساحة النفوذ والتدخلات
من المهم ربط إنشاء مكتب الناتو في الأردن بالوضع المتدهور في فلسطين، ولا سيما الحرب على غزة والضفة الغربية. إذ يأتي افتتاح هذا المكتب في ظل أزمة إنسانية وأمنية تتفاقم مع تصاعد الاعتداءات من قبل دولة الاحتلال على الشعب الفلسطيني. ورغم أن الناتو يسعى لتقديم نفسه كقوة لحفظ الأمن والاستقرار، إلا أن دعمه الضمني لدولة الاحتلال وتجاهله للجرائم المرتكبة يضعان مصداقيته على المحك. إن أي محاولة لتوسيع الوجود الأمني الغربي في المنطقة يجب أن تأخذ في الاعتبار حقوق الشعب الفلسطيني والدور الذي تلعبه القوى الغربية في إدامة هذا الصراع عبر دعمها المتواصل لدولة الاحتلال.
إن الحرب على غزة، وما تخلفه من تداعيات أمنية إقليمية، تشكل تحديًا كبيرًا لأي مشروع غربي يسعى إلى تعزيز وجوده في المنطقة. إذ يمكن أن تُعتبر خطوة افتتاح مكتب الناتو في الأردن محاولة للسيطرة على تداعيات الصراع الفلسطيني مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وربما تحويل الأردن إلى قاعدة لتنسيق العمليات الأمنية في المنطقة ككل. ومن هنا، يُطرح التساؤل: هل سيسهم الناتو فعلاً في تعزيز الأمن الإقليمي، أم أنه سيساهم في تأبيد الصراعات القائمة؟
دور الأردن: شريك أم أداة؟
يمثل الأردن أحد الحلفاء التقليديين للقوى الغربية في المنطقة، وهو يستضيف بالفعل قواعد عسكرية غربية ويشارك في تحالفات أمنية متعددة الأطراف. ومن هذا المنطلق، يبدو أن اختيار الأردن لاستضافة مكتب الناتو يعكس الثقة التي يضعها الغرب في هذا البلد كحليف استراتيجي. ومع ذلك، قد يُطرح السؤال حول ما إذا كان الأردن قادرًا على لعب دور فاعل ومستقل في هذا التحالف، أم أنه سيكون مجرد أداة لتنفيذ السياسات الغربية في المنطقة.
إن الاعتراض الأردني للصواريخ الإيرانية خلال الهجوم المضاد الذي شنّته طهران على دولة الاحتلال في أبريل الماضي، يؤكد على أهمية الدور الذي يلعبه الأردن كقوة إقليمية. ولكن، قد تكون هذه الخطوة بداية لانخراط أكبر في صراعات لا تخدم بالضرورة المصالح الأردنية على المدى الطويل. إذ قد يجد الأردن نفسه في مواجهة مع قوى إقليمية صاعدة مثل إيران، في وقت لا تزال فيه القوى الغربية تواجه تحديات داخلية وخارجية تعيق قدرتها على تقديم دعم مستدام.
الناتو بين الأهداف والتحديات
على الرغم من نوايا الناتو في تعزيز التعاون الأمني مع دول الشرق الأوسط، إلا أن فعالية هذا التحالف ستواجه تحديات كبيرة. فتنامي النفوذ الروسي في المنطقة، وتزايد اهتمام الولايات المتحدة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، يعني أن القوى الغربية قد لا تتمكن من الحفاظ على التزاماتها الأمنية في الشرق الأوسط بنفس القوة التي كانت تتبناها في السابق. كما أن الانقسامات الداخلية بين دول الناتو، وخاصة في ظل تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية، قد تعيق توحيد الرؤية الاستراتيجية للتحالف في المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، تشكل التكلفة العالية للعمليات الأمنية الإقليمية تحديًا إضافيًا. فقد أعرب عدد من المسؤولين الأميركيين عن قلقهم بشأن القدرة على الاستمرار في تحمل تلك التكاليف، مما يفتح المجال أمام الحاجة إلى قوى وحلفاء إقليميين يمكنهم تولي دور أكبر في حفظ الأمن. في هذا السياق، قد يجد الناتو نفسه مضطرًا للبحث عن شراكات جديدة في المنطقة، مما قد يضع الأردن في موقع يتجاوز مجرد استضافة مكتب اتصال إلى دور أكبر في تنسيق العمليات الأمنية.
يبقى افتتاح مكتب الناتو في الأردن خطوة استراتيجية في سياق التحولات الأمنية الإقليمية والدولية. ورغم أن هذا المكتب يهدف إلى تعزيز التنسيق الأمني الغربي في المنطقة، إلا أن دوره الحقيقي قد يتعرّض للتحدي بفعل تغير المشهد الجيوسياسي وتنامي النفوذ الروسي والصيني.
كما أن استمرار تجاهل القوى الغربية للتداعيات الحقيقية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي يُلقي بظلال من الشك على قدرة الناتو على تحقيق أهدافه المعلنة.
وفي نهاية المطاف، قد يُنظر إلى هذه الخطوة كجزء من استراتيجية أوسع لتأبيد السيطرة الغربية على المنطقة، تحت ستار "حفظ الأمن" في منطقة تظل معقدة بفعل صراعاتها المتعددة. وافتتاح مكتب الناتو في الأردن حتما سيؤدي إلي تفاقم التناقضات داخل المجتمع الأردني وعلاقته مع القضية والحق الفلسطيني، الأمر الذي سيحول الأردن إلي ساحة حرب تجاه تلك القوى الغربية وتجاه سياسات المملكة الأردنية.