Menu

ليل الحزن الطويل..

طلال سلمان

للبنان، اليوم، حصته من ليل الحزن الذي يلف الوطن العربي جميعاً، وهو يكافح للصمود في وجه طوفان الدم الذي يجتاح أقطاره، مشرقاً ومغرباً... وها هي بيروت تستذكر فقيدها الشهيد رفيق الحريري بينما العواصم العربية، الأقرب فالأبعد، تشيّع شهداء بلا قيد ولا حصر، سقطوا في حروب تتجاوز أسبابها المعلنة لتعيد هذه المنطقة، التي بدت ـ ذات يوم ـ مؤهلة لأن تعيد كتابة تاريخها بقدراتها، إلى جاهلية متوحشة بأسلحتها وشعاراتها الفتاكة، قاتلة الأديان ورموز الثقافة وآيات العمران، وإنسانها الذي كان يطمح لأن يمسك بأشعة الشمس ليرتفع إلى حيث تؤهله جدارته وعرق التعب.
وكنا، بالأمس، منهمكين في الإعداد لوداع «صحافي القرن» محمد حسنين هيكل الذي يرقد الآن في غيبوبة أيامه الأخيرة، برثاء يتجاوز شخصيته الاستثنائية ودوره الفريد في النهوض بالصحافة العربية، إلى التساؤل عما بقي من هذه الصحافة، داخل مصر وخارجها، مشرقاً ومغرباً، واستطراداً عن دورها في خدمة نهوض الأمة وحركة تقدمها نحو غدها الأفضل.
لقد مثل هيكل رمزاً للنهوض بالصحافة العربية إلى موقع يمكنها من ان تكون بين رموز القدرة على الإنجاز واللحاق بالعصر، فكرياً وثقافياً، فضلاً عن الارتقاء بالمهنة إلى أعلى ذراها، سواء في فنون الكتابة والرسم والصورة وصولاً إلى الإعلان. فليس أمراً عادياً ان يحتشد كبار من وزن توفيق الحكيم ولويس عوض وصلاح عبد الصبور ونجيب محفوظ ومعهم العديد من مخالفيهم أو من تلامذتهم في عدد الجمعة من الصحيفة الأولى في مصر، بل وسائر أقطار الوطن العربي (بلغ توزيع هذا العدد حافة المليون قارئ في أواخر الستينيات/ بداية السبعينيات...).
ومع أن النظام الناصري لم يكن نموذجاً للديموقراطية، لكنه نهض بمصر الدولة، وجعلها تحتل المكانة اللائقة بها دولياً، كما مكنها من صنع كل ما يحتاجه شعبها في حياته اليومية، فأخرجه من وهدة الفقر والعوز إلى حدود الكفاية... وكانت «اهرام» هيكل علامة دالة على هذا النهوض.
وليست مصادفة أن الأنظمة العربية الأخرى لم تنجب «هيكلها» لا خلال الحقبة الناصرية ولا بعدها ولا هي مكنت الصحافيين المميزين فيها من أن يلعبوا مثل دور هيكل في «الأهرام».. بل إنه كان مستحيلاً عليها أن تسمح بهامش من حرية الرأي ينهض بهذه المهنة ذات الدور الرائد في تاريخ التقدم الإنساني ويمكنها من الإسهام في خدمة مجتمعاتها بما يؤكد جدارتها بصنع الغد الأفضل.
ويغمرنا، نحن أهل مهنة الصحافة، حزن إضافي، في هذه اللحظة، إذ أننا نشعر أننا نودع مع هيكل مهنتنا التي تشرفنا بالانتماء إليها وعشنا بها ومعها ولها...
لقد صادر أهل الذهب، نفطاً وغازاً، الإعلام عموماً، مكتوباً ومذاعاً ومتلفزاً، أرضياً وفضائياً. قدموا عروضاً لا تُرفض لأصحاب الأقلام المشرقة فأخذوها إلى مدافن مذهّبة في عواصمهم التي تسكن في قلب الصمت، أو في العواصم البعيدة التي قد تصلح منصات للهجوم على الأنظمة المخاصمة ولكنها تظل قليلة التأثير على الوجدان، فإن هي أثرت ففي تشويهه... لأن الأقلام التي كانت مؤهلة للإسهام في إشاعة الوعي وتعميم المعرفة والتحريض على الواقع العربي المهين، باتت سجينة اعتبارات الخصومة والمواجهة مع أنظمة أخرى قد تكون سيئة، لكنها ليست الأسوأ كحال مصدّري صحف المنافي المذهّبة.
وهكذا وجد القارئ العربي نفسه خارج هذين النمطين المتخاصمين من وسائل الإعلام، ولا بديل أمامه غير الإعلام الأجنبي المعادي أو غير المعني بهمومه وطموحاته، هذا في أحسن الحالات... بل لقد فُرض عليه أن يتابع إعلام العدو الإسرائيلي واتخاذه مصدراً لمعلومات قد يطمسها «إعلام الدولة» أو، يحرّفها بما يًفقدها معناها ودلالاتها.
إن الصحافة العربية تعيش أيامها الأخيرة،
ويغمرنا ونحن نودع هيكل، ومعه عصر توكيد مكانة الصحيفة وضرورة وجودها كمصدر للمعلومات التي تتجاوز السياسة لتغذية الوجدان بالإبداع الأدبي والفني، نثراً وشعراً، رواية وقصة، فضلاً عن الأخبار الدقيقة والتحليل الموضوعي، والصورة الأنيقة والرسم المتميز والكاريكاتور المشع نقداً بالفكاهة والنكتة الجارحة...
يغمرنا ونحن نودع صحافي القرن، الحزن على الصحافة عموماً وليس فقط على الصحافي العربي الأول «الأستاذ»، الذي ظل أكبر من الملوك والرؤساء، إلا من آمن برسالته فواكبه حتى لحظة غيابه: جمال عبد الناصر.