Menu

أنسي الحاج.. والسؤال الذي لم يجيبه أحد

أنسي الحاج

وكالات _ عهد فاضل

تحلّ اليوم، الذكرى السنوية الثانية لغياب الشاعر اللبناني أنسي الحاج (2014-1937)، والذي رحل بعد معاناة مع المرض في 18 نوفمبر 2014.

وتحمل ذكراه الهدوءَ الذي ما صاحبَ شعريته أبداً. ومثلما رحلَ آخذا المكان الذي كان يشغله، تمر ذكراه الثانية الآن، على مكانته التي تذهب اليه، في غيابه، ولا تمتلئ بسواه.

أنسي الحاج، الشخص، وأنسي الحاج النص، في الظاهر اثنان، وفي الحقيقة واحدٌ. ولم تكن الكتابة عنده تقنيات وأدوات تعبير، وحسب، كانت بروتوكولاً عُقِد ما بين الإنسان واللغة.

كما كان يريد نيكوس كازانتزاكس بالضبط، أن تكون الكلمات "من لحمٍ ودم". 
منذ كتابه "لن" في عام 1960 وأنسي الحاج يصنع الاختلاف ويجدّ في الكشف عن لغته التي لا تشبه غيره. ومنذ "لن" و"الرأس المقطوع" 1963 دخَلت على الشعرية العربية، جُمَلٌ قاطعة وحادة، قصيرة وخاطفة، مكثّفة تصنع المعنى وتقلقه.
علماً أن المزاج العام للذائقة الشعرية في ستينيات القرن الماضي، كان قريباً من هذا المستوى التعبيري.

لكن أنسي تعامل مع الفعل وضمير المتكلم، بطريقة مكّنته من خلخلة المدلول وجعل الجملة المكتوبة تتحرك حتى وهي مطبوعة على صفحة.

إلا أن ضمير المتكلم عند أنسي كان مجرّد نقطة بداية: "لم تَصْنع بي امرأةٌ ما صَنَعْتِ" هنا الإشارة الى الذات، والسرد بلغة المتكلّم لا الغائب، كان فقط للعبور الى "انفجار" دلالي يشير الى حجمها هي، المرأة، الآخر.

أخذ أنسي من الشعرية العربية الكلاسيكية تلك الأنا، إلا أنه نزع عنها الاستخدام البطولي، وكتبها بصفتها الشاهد، لا التذكر، بصفتها الفعل، لا الوصف.

المتنبي سبق له أن استولى على ضمير المتكلم. الى الدرجة التي أصبحت فيها الإشارة الى الذات كالإشارة الى العالم الخارجي. فلدى واحد كالمتنبي، الذات والعالم شيء واحد. نرجسية الفارس والشاعر إذا تمت عملية نقل دم بينهما.

بينما عند أنسي الحاج الذاتُ الشعرية هي الشاهد على عالَم هو الشهادة ذاتها. لهذا السبب عندما نقرأ شعراً لأنسي، بلغة المتكلم، لا يأتينا الإحساس ذاته الذي يمنحنا إياه واحد كالمتنبي، فالأخير ذاته بطلة حاسمة وتأتي بعدها وبسببها، مجموعة من المفعولات المتلاحقة.

أما مع أنسي فالذات شاهدة، وتختبئ نرجسيتها في كونها، دائماً، الشاهد الوحيد. ويمكن أن نقرأ في "خواتم" ومجلدات "كلمات" تكافؤَ اللحظة الشعرية مع النقد أو الحكمة أو الإمضاء العاجل الذي يسمّى "اللُّمَع".

وعمل أنسي على جملة قصيرة ضارية، تأخذ من الشعر العربي موسيقاه، إنما منثورةً ينوب نطقها ولفظها عن بَحْرها. إذ لم تستطع الحداثة الشعرية العربية أن "تنسى" قوة الموسيقى، وكذلك لم تستطع إنتاج بدائل لقوة اللفظ وأثره. حاولت وعجزت.

كان أبو نواس نفسه واقعاً تحت تأثير قوة اللفظ التي ما استطاع امتلاكها. فبعد أن أُخذ عليه "الترقّق" في ألفاظه، دافع عن نفسه بطريقة غير مسبوقة بقوله: "لو كان كلّ شعري يملأ الفَم، لما تقدّم عليّ أحدٌ". والقصد من امتلاء الفم بالشعر هو قوة اللفظ المنطوق والمفخّم.

تكنيك أنسي الحاج باشر عمله من هذا المكان، وعلى الفور، أصبحت جملته القصيرة بديلا للفظ الذي تمنّاه أبو نواس أن يملأ فمه: "يدي يدٌ لكِ ويدُكِ جامعة/ حسرت الظل عن شجرة الندم/ فغسل الشتاء ندمي وغسله الصيف/ أنت الصغيرة كنقطة الذهب/ تفكين السحر الأسود".

وفي ما يشبه السير في حقل ألغام، تقدم أنسي الحاج ما بين حداثات مجايليه، من تنظيرية أدونيس، الى "شفوية" وتفاصيل محمد الماغوط، وباقي الاقتراحات النصية التي تولاّها شعراء "شعر" اللبنانية التي خرج منها أنسي، ثم خرج عليها.

في الذكرى الثانية لغياب أنسي الحاج، ثمة ما هو ملحّ يفرض نفسه الآن، كما فرض نفسه في السابق، وهو سرّ شعريته التي لم تشبه غير ذاتها، كيف استطاعت أن تخطف الأبصار، إنما، في الوقت نفسه، لم تترك مريدين كثراً كما استطاع غيرها أن يفعل.

هذا سرٌّ في شعرية أنسي الحاج، وسؤالٌ لم يجب عليه بعد، عشاق الشعر ونقّاده.