Menu

لماذا ينتصرون ونُهزم؟ مؤتمراتهم… والمثقف الوطني

د.فايز رشيد

لماذا هُزمنا؟ السؤال ليس من عندي، بل طرحه أثناء حياته، القائد الفلسطيني المرحوم د. جورج حبش. وفي الإجابة عليه كان يسأل العديدين من المثقفين ليس من حزبه فقط، ولكن من الساحتين الفلسطينية والعربية.
كعادته دوما في المحطات والمنعطفات المصيرية الصعبة، يستأنس بآراء المثقفين قبل تشكيل رأي أخير عن السؤال المطروح. وبذلك أرسى تقليدا فريدا في أنموذج العلاقة بين السياسي والمثقف (ظلّ حتى قبيل وفاته بشهر تقريبا). هذا النهج لا يتمسك به إلا ذوو القامات الكبيرة، الذين يندر أن يتكرر مثلهم في عالمنا الحالي. 
ثلاث سنوات جرى التحضير لعقد نواة شعبية عربية لمساندة القضية الفلسطينية! هذا ما قاله القائمون على المؤتمر أنفسهم، ألا تعتقدون معي أنه زمن طويل؟ خاصة أن شعبنا الفلسطيني في الأراضي المحتلة يشقّ طريق مقاومته بدون انتظار أحد أو مساندة أحد، مع أهمية الدعم الشعبي العربي بالطبع. نبارك قيام «الجبهة الشعبية الديمقراطية العربية»، لكننا نأمل أن تكون سرعة خطواتهم، ليست الطريق الطويل ذاته الذي استغرقه تشكيل الجبهة، وأن تتّبع الأخيرة قاعدة: «كلام أقل ونشاط أكثر»، وأن تنشئ موقعا إلكترونيا لها، لسماع الاقتراحات والانتقادات، وأن يسمع القائمون عليها «النقد البنّاء»، لا أن يهملوا كل ملاحظة نقدية جرى تقديمها لهم (وهذا ما حصل)، ربما انطلاقا من الاعتقاد، بأن من حضروا هم وحدهم من يحللون ويدركون أوضاع العالم العربي بكل تعقيداته، عدا عن أن بعض من حضر ربما يوقن بأن من يوجه نقدا «يعتبرُ نفسه مغرورا وأفهم من الكلّ»، ولكن معاذ الله! فالإنسان كلما عرف أكثر، يدرك جهله الكبير وحاجته إلى المزيد من التعلم، على قاعدة «يموت الإنسان وهو يتعلم». 
وفي محاولة الإجابة على السؤال (وقد تعددت الآراء فيه)، فإن عاملا أعتقده مهما، يلعب دورا في «معادلة الهزيمة والنصر» ألا وهو «إدراك متغيرات العدو»، ثغراته، نقاط قوته، اقتصاده، الصراعات في داخله، برامج أحزابه، استراتيجيته وتكتيكات سياسته، حدوده القصوى للحل، وغيرها من المفاصل المهمة، التي تتبع التخصص، فمثلا أوضاعه التسليحية العسكرية من قبل الاستراتيجيين العسكريين الفلسطينيين والعرب، وهنا تحضرني الموسوعة العسكرية، التي أشرف عليها المقدم الهيثم الأيوبي وأبحاثه ودراساته القيمة، كما غيره من العسكريين العرب.
وإذا كان سقراط قد لخّص العلاقة بين «الأنا» و»الآخر» بكلمتين اثنتين «إعرف نفسك»، فإن القائد الفينيقي القرطاجي حنيبعل لخص معادلة الانتصار في الحرب، بقوانين ثلاثة: إعرف عدوك، فاجئه،لا تقع أسيرا بين يديه. لقد انتحر حنيبعل عندما حاصره الاعداء. إسرائيل ما زالت تطبق ذات القوانين الحربية الحنيبعلية: إنها تقرأ العرب جيدا، تفاجئهم في حروبها. الكنيست بصدد سن مشروع قانون يتيح للجيش الإسرائيلي قتل جنوده وضباطه، إذا تم أسرهم من قبل الفلسطينيين والعرب. إسرائيل تحتل المرتبة (17) من جهة البحوث المنشورة في العلوم البحتة والدراسات التطبيقيّة، فضلاً عن وجود (6) من جامعاتها في تصنيف أفضل (100) جامعة في العالم. هذه الحقائق والأرقام تدعونا للبحث والتساؤل عن عوامل نجاح هذه المنظومة، ولعل أهمها تلك الميزانيات الضخمة التي تُرصد للبحث، فميزانية التّعليم في إسرائيل مثلا تعادلُ ميزانيات دول عديدة من الدول النامية. ناهيك عن أن أنها ترصد (8.2٪) من إنتاجها القومي للبحث، في حين أن معدل الدّول المتقدمة هو (6.2٪). في إسرائيل عشرات بل مئات المعاهد والمراكز البحثية، وفي الشؤون الاستراتيجية والسياسية، يوجد منها الكثير أهمها: مركز جافي للدراسات الاستراتيجية، المركز المتعدد المجالات في هرتسيليا، الذي ينظم مؤتمرات سنوية منذ عام 2000. معهد دراسات الأمن القوميّ التابع لجامعة حيفا. معهد أبحاث الأمن القومي. مركز بيغن – السادات للأبحاث الاستراتيجية. معهد الاستراتيجية الصهيونية. معهد تخطيط سياسات الشعب اليهودي وغيرها. المهم أن هناك 6 مؤتمرات استراتيجية سنوية تعقد في الكيان سنويا، لكن الاهتمام الأكبر ينصبّ على ثلاث مؤسسات منها: الأولى هي «المركز المتعدد التخصصات في هرتسيليا», أما الثانية فهي»معهد تخطيط سياسات الشعب اليهودي»، الثالثة هي «معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي». نشاط المؤتمرات مختص بصياغة تقارير استراتيجية تشكل، أسساً مهمة لسياسات وقرارات الحكومات الإسرائيلية.
مما سبق ذكره، يجري استنتاج، مدى الحرص الرسمي الإسرائيلي على متابعة ما يجري في المنطقة العربية والإقليمية والعالم، مع إهمال رسمي عربي كبير، وإلى حد ما شعبي لما يجري في الداخل الإسرائيلي، وبالفعل من يتابع توصيات مؤتمرات هرتسيليا وأبحاث معهد التخطيط، ومعهد دراسات الأمن القومي، ويتابع طبيعة المناقشات والكلمات والمداخلات فيها، يستطيع إلى حد ما استقراء السياسات الاستراتيجية والتكتيكية الإسرائيلية لأعوام مقبلة، وعلى المدى البعيد. إسرائيل ماضية في تقديم روايتها الصهيونية المبنية على الأضاليل والأساطير، وسط نكبات عربية تتوالد واحدة تلو أخرى، في ظل طروحات تعلن «انتهاء العرب والعروبة» لصالح القطرية، القبائلية، العشيرة، الدين، الطائفة والمذهب والإثنية. 
ظنّ كثيرون أن نكبة فلسطين ستكون الدرس البليغ الذي لن ينساه العرب، اذا ما ارادوا الحفاظ على بقائهم ومنع غوائل الاندثار والفناء وضمان بعض مستقبلهم، وأن نكبتنا الفلسطينية ستبقى ماثلة في اذهان الشعوب العربية الاخرى، كي تتجنب مصير ضياع الوطن الفلسطيني ومصير شعبه الذي تشتت في المنافي، وتحولت قضيته إلى شعارات لدى انظمة عربية عديدة، لم تتوقف عن المناداة بتحرير فلسطين وان حربها مع الصهيونية «هي حرب وجود وليست حرب حدود»، إلى أن اصبحت قضيتنا الوطنية الفلسطينية، ورقة للمساومة وفرصة لنيل رضى الدوائر الصهيونية والاستعمارية البغيضة. 
خلاصة القول، إن مؤتمرات العدو هي «مؤتمرات كفاءات» استراتيجية من داخل الكيان وخارجه، فالحضور غالبا ما يمتاز بنوعيته واستراتيجيته وتخصصه. تخطط هذه المؤتمرات برامج عملها على مدى السنة الحالية، وعلى المديين القريب والبعيد، ويطالبون حديثا في الكيان، أن تقوم المؤتمرات بوضع خطة على مدى خمسين عام مقبلة. مؤتمرات العدو يحضرها أصدقاؤه. العدو يرصد الملايين لدعوة حتى الفنانين العالميين (كما حصل هذا العام) للقيام برحلات ترفيهية إلى كيانه ومعرفة تطوره. المليارديرات اليهود يرصدون المليارات لتهويد القدس وإنشاء المستوطنات. بينما المؤتمرات العربية مقتصرة فقط من حيث الحضور في اغلب الأحيان على السياسيين، الذين لا نشك بقدراتهم السياسية (مع أنه يكفي للحضور، أن تكون على رأس حزب معني سياسي،، حتى لو كان أعضاؤه عشرين عضوا، معظمهم من الأقارب والأصدقاء). على الأغلب، لا تستدعي المؤتمرات العربية، المختصين المعنيين من المثقفين الوطنيين (وأشدد هنا على سمة الوطنيين) لأن كثيرا من المثقفين العرب، يروجون للسلطات الحاكمة، وللسياسات الرسمية العربية، وحتى الغربية، ويقفون خارج الصف الوطني العربي، وبعضهم يضع السمّ في الدسم حتى في رواياته. المثقف الوطني العربي يعيش حالة غربة دائمة في وطنه، ورغم ذلك لا يخون وطنه (بالإذن من المرحوم محمد الماغوط). دلّوني على دولة عربية أو جهة شعبية عربية قامت بتنظيم مؤتمر لأصدقاء القضية الفلسطينية، المنتشرين على صعيد العالم، باستثناء مرة واحدة قام بها الاتحاد العام لطلبة فلسطين في القاهرة عام 1965، ودعوة نعوم تشومسكي إلى بيروت، وإلى الضفة الغربية، وقد منعه الكيان من الدخول. أما باقي مؤتمرات الأصدقاء، فينظمها العديد من الدول العربية في الأغلب لمن يمتدحون سياساتها. لقد رصدت القمم العربية للحفاظ على عروبة القدس 500 مليون دولار، ما وصل منها على صعيد السنوات الأخيرة لم يتجاوز 30 مليونا، ألا يدعو هذا الوضع للحزن؟
على صعيد آخر، مرت الذكرى السادسة لوفاة المفكر العربي المغربي محمد عابد الجابري بدون الحديث عن مناقبه وإنجازاته! هذا الذي وصف العقل العربي أو جانباً كبيراً منه، بأنه «عقل فقهي» واستمرّ في كفاحه من أجل تحريرهذا العقل، ومنذ بضعة أشهر توفي في باريس المفكر العربي جورج طرابيشي، الذي تميز بكثرة ترجماته ومؤلفاته، حيث ترجم لفرويد وهيغل وسارتر وبرهييه وغارودي وسيمون دي بوفوار وآخرين. كما له مؤلفاته المهمة في الماركسية والقومية والنقد الأدبي للرواية العربية، وقد كان سباقاً إلى تطبيق منهج التحليل النفسي عليها. وهو الذي نقد مشروع المفكر العربي محمد عابد الجابري في كتابه «نقد نقد العقل العربي»، هذا العمل الموسوعي. غادرنا أيضا المفكر العربي السوداني د. محمد المجذوب. وها هو المفكر د. كلوفيس مقصود يغادرنا بما عرف عنه من موسوعية جامعة. ينعاهم فقط المهتمون المعنيون بهم ومن قرأ بعضا من كتبهم. بالفعل، نحن أمة لا تحترم مفكريها ومثقفيها، وليس من عادتنا تقبل النقد! وبعد، أيكون السؤال، لماذا نُهزمُ وينتصرون؟