Menu

الهرمون الأمني يزداد في غزة

أرشيف

للهدف_ زاهر الغول

مراهق يتوسط مفرق الطريق، يبيع السجائر قد يكون نقطة رصد، سائق تاكسي يقف بباب الجامعة  ينتظر ركابه، أظنه يراقب احدهم، عامل بناء يرشح جبينه عرق، قد يزرع لنا بين الحجارة أجهزة تنصت، حادث مروري بالقرب من المستشفى المركزي، هل السائق متسرع غير مبالي؟ أم هو مفتعل للتمويه من اجل دخول احدهم للمستشفى؟!، عرض مغري لأجهزة مستخدمة(مخراز)، أظنها تحمل كاميرات مراقبة، بائع متجول ينادي 5 كيلو الموز بـ10 شيكل، أظنه من "إسرائيل" وبه مواد ضارة، بائع الكعك يزور شارعنا يومياً، قد يراقب ساعات خروجنا للعمل صباحاً.

أصبح حال المواطن الغزي أشبه بلغز أمني ومهمة الجميع حلّه ووضع الفرضيات الأمنية للوصول لنتيجة مطمئنة لما حدث ويحدث وقد يحدث في المستقبل.

مررت على بائع عرض بضاعته على طرف الرصيف بشكل جميل وجذاب، هي مجموعة من التحف المزخرفة المصنوعة من أدوات بسيطة ولكن شُكِلت بحرفية رائعة، وعند السؤال: بكم هذه؟ يقول ثمنها، وحين أرى الثمن قليل بالنسبة لهذه التحفة الفنية الجميلة، فورا وبدون مقدمات يخطر ببالي أن مُصنعي هذه التحف هم تشكيليون عملاء تم اسقاطهم من قبل الموساد الإسرائيلي، وان في داخل كل تحفة جهاز تنصت أو كاميرا مراقبة مخصصة للتجسس حين وضعها داخل منزلي، عندها قررت عدم الشراء

بعد خطوات قليلة أضحك من خيالي الذي لا يكف عن التحليق، ثم أتراجع وأقول: ألم يزرع عمال البناء آلات التجسس داخل أبنية المستشفى المركزي في غزة حسب ما تناقل الناس جميعا؟ ومن خلالها عرفوا كل شيء؟ لماذا لا تكون هذه التحف أيضا أدوات تجسس تباع بشكلٍ عرضي؟ اسمي ليس على لائحة المطلوبين، هذا صحيح، و لكن حياتي الخاصة هي حياتي الخاصة!

استمر بالضحك وامشي.

بعد انتهاء الحرب الأخيرة قال لي احد الأصدقاء: أخبرني صديقي أن ربَّ عمل والده الإسرائيلي، اتصل به ليسأله عن أحواله هو وأسرته، وما إن كانوا قد تضرروا في هذه الحرب، وقد أبلغه خالص تحياته ودعواته الصادقة بأن يكون كل شيء على ما يرام، متمنيا له دوام العافية.

سألتُه: وهل يعقل هذا؟ هل يمكن أن يتصل إسرائيلي بوالدك، وكيف تسمحون بذلك؟ أجاب بأن الأمر معتاد، وأنه منذ انقطاع العمال الفلسطينيين عن العمل داخل الخط الأخضر، فإن مدير والده يتصل به على الدوام، بل وإنه قام بتحويل دفعات مالية له مما تبقى له من حسابه حفاظا على حقوقه.

حينها أردتُ أن أخبره: آسف أن أقول لك يا صديقى ذلك، لكن: ربما كان والدك عميلاً، بالطبع ثمة احتمالٌ آخر عن صلة إنسانية بحتة، لكنَّ الهرمون الأمني كالأدرينالين: غير قابل للتحكم.

قرأت موضوع عن الخصوصية والأمن في استخدام الحواسيب الشخصية،  والهواتف المحمولة، أول جملة يطرحها الكاتب: “أنت فلسطيني، إذن: أنت مراقب”، يبدأ باستعراض عدة طرق اختراق الهواتف المحمولة، والتأكيد على انعدام الخصوصية مطلقا في شبكات التواصل الاجتماعي، فالموساد الإسرائيلي يتابعنا بشكل يومي، ويحاول تجنيدنا للعمل في صفوفه من خلال التجسس على تفاصيل حياتنا الخاصة، التي سيبتزنا بها في وقتٍ لاحق ما إن سنحت له الفرصة بالبحث عن نقاط الضعف والحاجة، وكحلٍ مرضٍ يرى الكاتب أن علينا إغلاق كاميرا الحاسوب، والهاتف باستمرار؛ لأنها دائما قابلة للاختراق، وأنه من الأكثر أمنا ألا نتحدث عن تفاصيلنا اليومية عبر فيسبوك وتويتر، لأن إسرائيل تحلل كل كلمة، ولأننا ببساطة مراقبون!

وسط السطور والكلمات والجمل المحذرة تارة، والمهددة تارة اخرى، أتذكر تلك المرة التي دخلت فيها موقعا باللغة العبرية يكتب كلمات الأغاني العبرية، ويترجمها للإنجليزية، كنت أحاول تعلم العبرية عن طريق حفظ الأغاني؛ لأن حفظ الأغاني طريقة جيدة وسهلة لتعلم أي لغة، وحفظ أكبر كم من المفردات، يومها لاحظت أن كاميرا حاسوبي(لابتوب) قد أعطت إشارة بأنها مفتوحة، رغم أنني لم أستخدمها، وبدأت أتساءل: هل حدث خلل برمجي ما بالجهاز؟ ام ان جهازي مراقب؟ هو الهاجس الأمني يرافقني كخيالي في كل زمان ومكان.

بائع مرطبات (آيسكريم) كان دائما يقف أمام باب المدرسة، وكنا نشتري منه بشكلٍ يومي ونسعد به عندما نراه، لكنه اختفى فترة طويلة، ثم شاعت أخبارٌ أنه تمت تصفيته؛ لأنه “عميل؟

لم يكن بائع الآيسكريم الذي يغني لنا وقت الفسحة الدراسية كي يجذبا الى سلعته اللذيذه، ولا رجلا عجوزا يستحق أن نرد على أسئلته العادية، كان عميلا. هكذا: يصير علينا أن نشكَّ في الآخرين المحيطين جميعا؛ لأنهم جميعا، قد يكونون عملاء، أو حسب التعبير الأكثر وقعا، والأكثر استخداما: “سقطوا في وحل العمالة”.

هل تكفي هذه المواقف والمشاهد ليقتنع الآخرون بالهرمون الذي يفرز نفسه بشكل تلقائي كاستجابة عصبية سريعة في مواقف كثيرة، واسمه هرمون “الأمن”، هذا الشعور الدائم بأنكَ مستهدف، حتى وإن كنتَ شخصا عاديا، لا تتحدث في السياسة ولا تعرف ما هي الأخبار منذ أسبوع، وأكثر.

اصبحت الحياة في غزة وفق رؤية عدد من الخبراء الأمنيين شديدي التوجس والقلق، تعني الحياة داخل قفص المراقبة المحاط بالكاميرات والميكروفونات، وأعين وآذان احدها يراقب والآخر يستبق السمع، إن ما يجعل هذه المراقبة المفترضة ثقيلة، هو أنك لا تعرفُ أين يمكن أن توجد الكاميرا، وأنه يجب عليك أن تكون حذرا -على الدوام-، وتكون على قناعةٍ تامة بأن الحديث عن حياتك الهامشية قد يتحول إلى بوابة لمشاكل كثيرة أنت في غنى عنها.

هذه هي الحياة وفق رؤية المصابين بمتلازمة الهوس والهاجس الأمني الزائد، هذه احدى اهم افرازات احتلال ما قبل ال60 عام من جيش ظالم، استخدم كل شيء متحرك وثابت لأجل كل شيء يصف نفسه فلسطيني.