Menu

رهان الفوضى

محمود الراس

بعقد اجتماعي لم يتبقَ منه إلا الكذب والغش والتلاعب والمناورة، رهنوا المشروع الوطني وساقوا المواطنين عبيداً لأجندة حزبية وفئوية، ومشاريع وأجندة إقليمية، ليمارسوا كل أشكال الرذيلة بحق الوطن والمواطن علناً وجهاراً نهاراً بياناً.

أصابوا المجتمع بالعجز، والضمور المعرفي، مستهدفين كي الوعي والضمير الوطني والإنساني، بعدما أصابوا المؤسسة الوطنية والمؤسسات الخدماتية بالشلل التام.

حولوا مأساة الوطن وحالة الفشل التي يعانيها النظام السياسي الفلسطيني لمراكز للتسوق، ووسائل للاسترزاق سواء بتأمين الحراسة الأمنية والاقتصادية للكيان الصهيوني عبر إدامة وتوسيع مشكلة ضياع المؤسسة الوطنية بعدما افترشوا بها أرصفة الشوارع الأوروبية والآسيوية، ليحققوا الثروات الخيالية ويحموا مناصبهم الوهمية تارة باسم المدافعين عن حقوق الانسان، ودعاة السلام، وأخرى متطوعين لخدمة سياسات الامبريالية العالمية ومخططاتها بالاسهام المباشر في الدعوة وتطويع الأدوات للفوضى الخلاقة، وحروب الإبادة المتتالية التي تتعرض لها المنطقة، والتي لا هدف لها سوى تقسيم المقسم، وتفتيت الشعوب، وضياع هويتها الوطنية، وتحويلها لقطعان من المهاجرين الباحثين عن الأمن الغذائي والمعيشي.

وتحويل من تبقى منها لأكوام من رماد وجثث بعد تجريدها ثرواتها الاقتصادية، ومقومات نهوضها وتقدمها العلمي، بل والإجهاز على ثرواتها الحضارية، وضرب سبل التعايش السلمي، والأمن المجتمعي في محاولة لإعادتها إلى العصور الوسطى.

إن هذا الانهيار المفزع والمروع والمخيف ما كان ليكون لولا كذب الذات على ذاتها، ثم تصديق الكذب ليصبح مسلمات قزمت العقل، وسجنت طاقاته ومهاراته، بخطاب توهمي مريضي غارق في التخلف لا يملك أي إصلاح ممكن لأي شيء أعاد المجتمع إلى نظام القبيلة البدائي والتعصب للعنصر والقبيلة والدين والحزب، بعدما زيف وعي الناس برأي عام مصنوع غيب المصلحة العامة عبر السلطة وأجهزتها المختلفة زيفت وعينا ضد مصالحنا من أجل مكاسب فئوية أمنية على حساب الوطن بأرضه وناسه وتاريخه ومستقبله.

إنها جريمة الإبادة لوعي الانسان بمصالحه وقضاياه لتحولنا لآلة للخراب والدمار، هي إبادة بحق أجيال سابقة وأجيال قادمة جاءت بخطب وشعارات حوّلت مجموعة من الناس لوحوش كاسرة ضد الوطن، ومصالحه ومواطنيه، فبدلاً من أن يواجه المواطن كل من جلب له الفقر والجوع والمرض والجهل والاستبداد، بدلاً من أن يواجه من أثرى على وقع أوجاعه وأزماته.

يسخر كل طرف من أطراف الأزمة المواطن الجائع والعاري والمريض للدفاع عن مصالحه الفئوية والحزبية، أو يجعلون منه متراساً يختبئون خلفه لممارسة كل الخطايا بحق الوطن والمواطن.

كلاهما في حالة صراع من يأخذ نصيبه أكثر من الآخر، وفريستهم الوحيدة الوطن ومواطنيه، ولكنهم لا يختلفان مصيرياً ولا منهجياً ولا طبقياً، بغض النظر عن بعض المؤثرات السياسية التي يجمل به كل طرف منهم وجهه القبيح.

كلاهما لا يؤمنان بالتداول السلمي على السلطة، ويهدر كرامة المواطن، ويحرمه من حقوقه كلٌ بطريقته... يعطون القيمة لأنفسهم ويسبلونها عن غيرهم.

الأول يرى الوطن بذاته ومصلحته العليا ذريعة في بقاءه بالسلطة وغيرهم خان استقلالية القرار الوطن الذي لم يستقل يوماً.

تلك الكذبة التي صنعها وروجها حكام وملوك العرب، ليتخلوا بها عن واجباتهم اتجاه فلسطين التي أضاعوها بالمساومات والمقامرات في مؤسسات المجتمع الدولي، وتستقوي هذه الجماعات بقوة وشرعية مؤسسات بناها الشعب الفلسطيني بلحمه وعظمه ودماء أبنائه، ويستقوي بالمجتمع الدولي وهباته ومنحه، محاولاً إرضاء الإقليم ومزاج حكامه وأمرائه ولا يرى حرجاً في الاستقواء بالاحتلال، والتنسيق الأمني والميداني والسياسي والعملاتي والتطبيع معه.

تقابله جماعة من الأمراء لا يختلفون كثيراً عنهم، فهم المؤمنين وغيرهم كافر، هم أهل الجنة وغيرهم أهل الفجور والجحيم، هم المقاومة وسلاحها ومنهجها وغيرهم السارق وبائع الأوهام، يستقون بالدين، يمتهنون العقول ويقمعون التفكير بفتاوى يكون عصيانها اثماً تستحق إقامة الحد على مرتكبيها، جاعلين من أي معارك سياسية أو اجتماعية خياراً بين الايمان والكفر.

لا مانع لدى الطرفين بل لا يتورع أي مهما في استخدام العسكر وأجهزة الأمن لامتهان كرامة المواطن ومصادرة حقوقه بالسوط والمعتقل.

في غمرة هذا الصراع تنمو جماعات شيطانية تحاول شيطنة المجتمع وتكفيره، وضرب أمنه الاجتماعي والاقتصادي، إما بدعوات تكفيرية أو عبر تغييب الشباب بمستنقع الجريمة والمخدرات، فيما يغرق اليسار في أزماته وحساباته الداخلية، ويكتفي بدور الشجب والاستنكار، بدلاً من استخلاص الدروس والعبر مما وصلت له المجتمعات في محيطنا القومي.

فهل سنصمت حتى يأتي اليوم الذي نبحث عنه عن ملاذ أو سلاح نحمي به أطفالنا ومشاعرنا من الوحش الكاسر؟!