ستة عشر عاماً مرّت على انتفاضة الاقصى الفلسطينية التي حاول الفلسطينيين من خلالها اغلاق مسار اتفاق اوسلو ودفنه واستعادة ذاتهم، مع ذلك يبدو ان هذا الطريق لا زال طويلاً أمامهم، لأن قيادتهم المهيمنة لا تريد أن تعي بؤس هذا المسار ومخاطره، أو أن تُنعي الاتفاق الذي لا زالت تراهن عليه رغم أنه لم يتبقى منه إلاّ الذكرى، وما يُقيد الفلسطينيون بقيوده.
وفاة شمعون بيرس أحد مهندسي سياسات الهيمنة الصهيونية على الوجود الفلسطيني والعربي، بأذرعها المختلفة، القمعية الدموية منها، وتلك التي تتسربل بثياب التسوية والاختراق للبيئة العربية التي لطالما ظننا أنّها يُمكن أن تكون مُحصّنة في وجه محاولات الامتداد الصهيوني على الأقل حتى إنهاء الاحتلال، وفاة هذا القاتل والتعامل العربي والفلسطيني معها جاءت لتذكرنا انه لا زال لدى الكثيرين ممن يمسكون بمقاليد السياسة والسلطة التابعة في عالمنا العربي لا زالوا يراهنون بالأساس على مسار التسوية ويصرون على استجلاب نكبات جديدة لشعوبنا على غرار اوسلو.
في العصر الذهبي لفريق التسوية في المنطقة العربية كان الركض للتطبيع مع الصهاينة عبر الابواب التي فتحتها اتفاقية اوسلو ومن قبلها كامب ديفد سلوك رائج، ولكن هبة الجماهير العربية مع انتفاضة الاقصى وما تلاها من استعادة لروح المواجهة كان يفترض ان تضع حداً للمارثون التطبيعي للأنظمة العربية.
الرهان الرسمي العربي بغالبيته على التسوية مع الاحتلال، بل والتحالف معه ضد أطراف اخرى لم ينقطع، وهنا لسنا بحاجة لشاهد المشاركة في جنازة بيرس، فالعلاقات السرية والعلنية بين النظم العربية والكيان الصهيوني لا زالت مستمرة، بل وتشهد امتدادات جديدة.
ولكن ما يجب الالتفات له فعلا في حدث الامس هو نبض الشارع العربي ، حيث بدت الهوة شاسعة فعلا بين الموقف الجماهيري وبين الموقف الرسمي، فالاستنكار الشعبي للمشاركة العربية ومشاركة الرئيس عباس في جنازة مجرم الحرب الصهيوني امتدت لتشكل ما يكاد يكون اجماع شعبي عربي مناهض لهذا المسار، وبينما كان البعض الرسمي العربي يؤبن الجزار الصهيوني كان الشارع العربي ينتفض في عمان رفضا لاتفاقية الغاز بين الحكومة الاردنية والكيان الصهيوني، وكانت الدعوات للتظاهر اليوم بذكرى الشهداء ال13 لهبة اكتوبر المجيدة في ارضنا المحتلة عام 1948م، لذكرى التلاحم الفلسطيني – الفلسطيني، والتلاحم الفلسطيني العربي، لصد الهجمة الاستعمارية والصهيونية.
بجردة حساب بسيطة قد يتخيّل للبعض ان تضحيات المنتفضين ضد الهيمنة الصهيونية والاستعمارية منذ انتفاضة الاقصى وما قبلها قد تكون هباء قياسا باستمرار النظم على رهان التسوية والخضوع، ولكن الوجه الاخر وفي المقلب الجماهيري لهذه الحسابات نرى تزايد مستمر لموقف جماهيري فلسطيني وعربي يرفض أي علاقة او تسوية مع هذا الكيان، وان الاحتراب الاهلي والتحريض الطائفي المسعور، والقمع الاستعماري الوحشي لم يكن كافيا لإخضاع ارادة مقارعة المستعمر لدى جماهيرنا العربية.