Menu

لماذا بلال كايد ؟

لماذا بلال كايد ؟

 

لا أطرح هذا التساؤل كرفيق له يحمل ذات الفِكر ويتمنى أن يمتلك القدر ذاته من إرادة بلال وإيمانه ، بل كفلسطيني بلوْن الأرض  متجرداً من كل الألوان الأخرى ، فلسطيني قبل أي مسمّى آخر ، كون كل التسميات ولدت من رحم الوطن ولأجل الوطن ، ودون انتقاص أو إغفال  لأثر المدرسة الثورية الأصيلة في بناء وعي وانتماء وصلابة بلال ، ليكبر هذا البطل مع عذاباته ومعاناة أخوته ورفاقه طيلة خمسة عشر عاماً في سجون العدو وزنازينه ،  متجاوزاً بخطوات صلبة مثابرة وجادّة دوْر التلميذ الى مهمّة المعلّم .

منذ البداية أدرَك " أن البكاء والحزن لا يحلّان المشاكل " وأن قضيّة كبيرة عادلة ليست بحاجة للشرح والتوضيح بقدر ما هي بحاجة للعمل والتضحية والفداء ، تماماً ككل أولئك الذين آمنوا بأن " الفكرة النبيلة غالباً لا تحتاج إلى الفهم بل تحتاج إلى الإحساس " ، وأن هذه الفكرة لا يمكنها أن تنتصر على أرضيّة هشة ، وإنما فقط على أرضية صلبة راسخة كجذرنا هنا ، وهذه لا يمكن أن تُبنى بالأمل والأمنيات وحدها بل وبكمٍ هائل عظيم من الإيمان والتضحيات " نحن نستطيع أن نخدع كل شيء ما عدا أقدامنا ، إننا لا نستطيع أن نقنعها بالوقوف على رقائق جليدية هشة معلقة بالهواء " ، تلك كانت البداية لرحلة مناضل مؤمن وثوري صلب وجد " فكرته النبيلة " وعرف الطريق لإنجازها .

في سجنه وانطلاقاً من فلسطينيته جسّد بلال صورة أصيلة للفلسطيني الصلب المناضل لأجل حريته وقضيته ، فكانت قضية كل الأسرى على اختلاف ألوانهم الحزبية هي قضيته ، هناك حيث يفترض أن تذوب كل تلك الفواصل تحت ضربة الجلّاد وصرير السلاسل ، في معركة لا مجال فيها للفصل بين أسير جبهاوي او فتحاوي أو حمساوي ، لأن فصلاً كهذا وفي واقعٍ تتشابه فيه المعاناة وتتساوى فيه التضحيات يشبه حديثاً عن مذبحة بالخليل وكأنها وجعٌ منفصل عن آخر مثله في نابلس أو القدس أو يافا أو غزة .

 كل هذه الصفات جعلت منه مرجعاً وملجأً لكل شركاءه في مختلف السجون والزنازين التي تنقّل فيها ، كثيراً ما نُكّل به وعُزل وعوقب لوقفاته مع رفاقه وأخوته في السجون ومناصرته لقضية ومطلب أي أسير منهم ، لم ينشُد حريةً له وحده لأنه يدرك أنها ستبقى منقوصة في غياب حرية الجميع ، لذا كان دوماً على استعداد لدفع تكاليف حريّتهم ، ولم يلتفت للألقاب والأوسمة لأنه يدرك أن الرجال هم من يمنحون تلك الألقاب والأوسمة قيمتها   .

كلّما انتزع سجينٌ من أولئك الذين عرفوه حرّيته كان بيت بلال وجهةً له ، يقصده ليشكر تلك الأم الصبورة والأب الصلب على هذا البطل الفلسطيني ويطمئنهما علي ولدهما داعياً له بالحرية والنصر .

خمسة عشر عاماً ظلّ بلال مدافعاً شرساً عن قضيته حاملاً لهموم شعبه مؤمناً بأنه " إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية فالأجدر بنا أن نغير المدافعين لا أن نغيّر القضية " .

هذا الحضور الكبير اللّافت خلال كل تلك السنين لبطل أضحى محطَ إجماع  كل السجناء ، وضعه في مواجهة دائمة مع العدو ، وأن هذا النموذج يجب كسر إرادته وتحطيم صورته تلك ، ولكن في كل مواجهة كان النصر حليف بلال ، وفي كل معركة تتزايد فيها فاشية العدو باستهدافه بصورة شخصية كان يزداد صلابة وعزيمة ، كان كما كل الشجعان " ندّاً " .

بعد قضاءه لمحكوميته وفي اليوم المقرر للإفراج عنه ، وبحالةٍ كانت الأولى قرر العدو أن لا إفراج عنه وأن بلال أصبح معتقلاً إدارياً ، لا مجال للحديث عن مشاعر الصدمة والوجع لخبر كهذا على أهله ورفاقه ومحبيه ، ولكن بلال كان يدرك ان الهدف منذ البداية هو كسر إرادته وعنفوانه ، وهو ما لم يكن لهم ولن يكون ، فاتخذ قراره الموجز مباشرةً " ان الشجاعة هي مقياس الإخلاص " وبكل شجاعته تلك بدأ معركة جديدة مع عدوه أكثر قسوة من سابقاتها وبسلاحٍ من لحمه ودمه ، إضراب عن الطعام لواحد وسبعين يوماً لمؤمنٍ بحريته يدرك تماماً بأن " الحياة ليست نصراً ، الحياة مهادنة مع الموت " ، كان قراره كما كل مرة أن يخرج من معركته منتصراً ، ولأنه بلال الفلسطيني والعربي والأممي ، والثوري الصلب المتواضع تجاوزت حملات التضامن معه السجون و فلسطين لتصل لأقطارٍ عربية ودولٍ أوروبية عديدة ، وليكون له في النهاية ما أراد ، نصراً يليق بفارسٍ عنيد انتزعه رغم أنف الجلّاد .

صحيح أن " لا أحد يستطيع إرجاع الزمن إلى الخلف وبدء حياة جديدة ، ولكنه يستطيع الآن أن يصنع بداية جديدة ليسطّر نهاية جديدة " .

تنفّس بلال الحرية ،  وكان له هذا العرس الذي شاهدناه ، استقبالاً يليق ببطل ، وعرساً يليق بفارسٍ شجاع ، عرساً كان فيه جورج عبد الله حاضراً كما هو في قلوبنا ، وأبطال ورجال وملهمين كثر - الحكيم ، ابو علي ، أحمد سعدات ، عمر النايف ، فيديل كاسترو -  وأعلامُ ورايات دول عربية وأحزاب مقاومة ، وعدد كبير من أسرى محررين خاضوا معاركهم وانتصروا فيها مثل بلال .

بلال الكايد بفلسطينيته هذه وبصموده وانتصاره  ليس درساً لنتعلمه فقط ، بل لنعمل فيه ونعلّمه  ايضا.