ليس لنا أن نمتلك إجابات، أو أن ندعيّ حتى معرفتها. لا أدري ولكنّني إذ أفكّر بالدافع الأول، أذكر الملل.
في الصف الثالث كنت قد أنهيت قراءة آخر قصة أملكها ولم أجد ما أفعله بعدها. أدير القصة إلى غلافها الخلفي وأقرأ «صدر أيضاً من هذه السلسلة...». كثير من العناوين الشيّقة، اخترت أحدها وأخذت أتخيّل أحداثاً تنسجم معه. جررت مخيلتي إلى الورقة وكتبت قصتي الأولى. أذكر كم أزعجني يومها تَجَاهُلُ أمي الأحداث الكثيرة التي اخترعتها لتركز على الأخطاء الإملائية. وبكل الأحوال فقد كتبت في المرة الأولى بدافع الضجر، بحثاً عن التسلية.
في الصف الخامس كنت فخورةً جداً بامتلاكي كتاباً كان، رغم غلافه الطفولي، الأضخم في منزلنا، يتضمن ثلاثية تدعى «مصارعو الثيران من قرية فاسيوكوفكا» وضعها كاتب أوكراني غير معروف واسمه هو الأصعب على الإطلاق، في الفترة التي سبقت انفصال الاتحاد السوفياتي. وقعت في غرام الروايات الثلاث وأبطالها لدرجة أنّني أعدت قراءتها في الأعوام التالية ثماني مرات. أذكر تماماً كيف كتبت بعد إحدى هذه القراءات رسالةً مطولةً لكاتبها لأمتدح حسّ الدعابة لديه وأخبره أنّ هذا الكتاب هو أثمن ممتلكاتي لأنّه ينقذني من الشعور بالوحدة أو الملل، خاصةً مع عدم قدرتي على المشاركة في نشاطات ما بعد المدرسة مع بقيّة الزملاء. فقدت منذ مدة نسختي من هذا الكتاب وبداخله الرسالة التي لم ترسل بالطبع. مرّ أكثر من أربعة عشر عاماً منذ كتبت قصتي الأولى. كان إيماني خلالها بفعل الكتابة، رغم مواظبتي الدائمة عليه، أمراً شديد التذبذب. ليس بوسع حب الشيء وحده أن يوقف الانقباض اللاإرادي كلما تساءلت: ما الفائدة؟
منتصف العام الماضي، أمضيت ما يقارب خمسة شهور كاملة دون مغادرة غرفتي. لا أدري حتى الآن إن كان ذاك الانعزال اختيارياً أم إجبارياً في ذلك الحين. ولا أذكر تماماً كيف كنت أمضي وقتي كلّ تلك المدة. ما أذكره هو أنّني كنت أكتب بكثافة بشكل يومي دون التفكير بهدف، وإنّما لتجنب الاختناق بالاكتئاب الصباحي. كانت الكتابة علاجاً ولكن ذلك لم يتعارض مع المتعة التي ترافقها. الانتشاء الذي يحضر بمجرد إنهاء كتابة آخر سطر كان يعيد لي التواصل مع ذاتي، مجردين من كل التلقين الذي امتلأنا به حول الغايات والفوائد والأهداف. وكانت هذه المتعة تشعرني بضآلة وهامشية كل الأسئلة الوجودية التي تبدو شديدة الإلحاح أحياناً. عثرت منذ مدة في المتجر القريب على مجموعة قداحات ملونة كتب عليها: «ART SAVES LIFE»
الفن ينقذ الحياة. اشتريت أكبر عدد منها ووزعتها على جميع من يكتب أو يرسم أو يقرأ أو يرقص من أصدقائي. لا يحيط أحدنا فعلياً بوجوده كإنسان إن فقد قدرته على التعبير.
خلال أحد أحاديثنا الوجودية المستمرة والتي يبدو لي أن الخوف هو محرّكها الدائم، تخبرني صديقتي عن خوفها الكبير من الفشل وتسألني عن أعمق مخاوفي لأجيب بلا تردد: «الوحدة». ترعبني فكرة أن أضطر للخوضِ وحدي في الصراعات الأساسية في الحياة. ولما كان أحد صراعاتي في هذه المرحلة هو عملية الكتابة، فإنّي أذعر عندما أفكر أنّني أمسيت وحدي عند اختيار ما ليس مألوفاً تماماً لمن حولي، بأن أترك كل شيء وأتفرغ للكتابة لامتهانها لاحقاً أو ربما لا لشيء.
مؤخراً غرقت لبعض الوقت بقراءة هنري ميلر. حين أنهيت روايته «الضفيرة» تملّكني شعور بالنجاة لدى اكتشافي بعض التشابه بيني وبين ميلر الشاب في محاولاته الشاقة لامتهان الكتابة وما رافق ذلك من سلوكيات وتشكيك واضطراب. يحلو لي التفكير بأنّ ميلر كتب رغم تجاوزه الستين من العمر تجربته ككاتب شاب كي تصل إليَّ بعد كل هذه الأعوام وتخبرني أنني لست وحدي!
أعتقد أننا نكتب، وأنني سأكتب، لنواجه مخاوفنا أو أقلّه كي نتشاركها. كي يغدو العالم أوسع، ولكن أكثر ألفة وأقلّ وحشة. كي ندرك أن صراعاتنا وقلقنا ومخاوفنا جماعية وإن كنا مميزين وفريدين. نحن عندما نقرأ، وعندما نكتب، لسنا وحيدين تماماً، وإن كنّا كذلك.
أثناء تنقيبي مؤخراً في مكتبة أحد الأصدقاء وجدت نسخة من «مصارعو الثيران من قرية فاسيوكوفكا». بغبطة شديدة قلّبتها وتأكدت أنّي لا أزال أحفظ مواقع وصفحات أجزائي المفضلة منها. فيما أعيده إلى مكانه على الرف، ألاحظ ما كُتب على الجزء الخلفي من غلاف الكتاب، انتبه إلى جملة كنت قد نسيتها لبعض من الوقت رغم أنها الســــبب في رسالتي للكاتب حينها. تنقـــل العبارة حديثاً للكاتب الذي توفي قبل قراءتي لكتابه بأكثر من عشرين عاماً يقول فيها: «لئن استطعت التأثير في القارئ الشاب، أو إضحاكه على الأقل، معنى ذلك أنّي لم أحيا حياتي عبثاً».