Menu

أناكوندا المستعمرات الصهيونية... لا تناسبها ألاعيب الحاوي!

نصّار إبراهيم

تذكرني المستعمرات الصهيونية بأفعى الأناكوندا... إنها تهاجم وتبتلع ما فوق الأرض وتحت المياه من أحياء... تذهب لفريستها بوضوح وحسم وفق منهجية غريزية تناسب طبيعتها الفتاكة... تتقدم.. تقترب... ثم تلتف حول فريستها بعزم ثم تبدأ بعصرها بقوة ساحقة حتى تدمرها... بعدها تبتلعها بادئة برأس الفريسة ثم تبدأ بهضمها على راحتها... وهكذا تواصل حياتها فتزداد شراسة وقوة... هذا النوع من الأفاعي المرعبة من السذاجة الاعتقاد أو التفكير بانه يمكن مواجهتها أو ترويضها او السيطرة عليها بألاعيب الحواة... فلا يمكن خداعها بالحركات الوهمية والموسيقى الراقصة... مواجهتها تحتاج لقوة وحنكة وخبرة... تحتاج لاستراتيجية تناسب طبيعتها... بحيث يصبح ما تبتلعه وجبة مؤلمة تمزق أمعاءها... 
كم هو غريب ما نشاهده  من ردود فعل وما نسمعه من مواقف ردا على سياسات إسرائيل الاستعمارية/ الإستيطانية الأخيرة، وكأن ما تقوم به إسرائيل أمر مفاجئ أو جديد... وليس حاصل سياسات إسرائيلية تاريخية متراكمة، كما هو أيضا حاصل سياسات واستراتيجيات فلسطينية وعربية فاشلة.
 السياسة الاستعمارية الإسرائيلية، ومنذ اللحظات الأولى للمشروع الصهيوني المدعوم من الدول الاستعمارية الغربية والرجعية العربية، أي منذ مئة عام وأكثر هي تعبير وترجمة مباشرة وبألف طريقة وطريقة للأيديولوجيا الصهيونية انطلاقا من بديهتين: مفهوم حق إسرائيل "المطلق والإلهي" في أرض فلسطين، ومنطق حق القوة في فعل ما تريد.
وفق هذه المنطلقات المرجعية تواصل إسرائيل سياساتها الاستيطانية بدأب وثبات، وهي سياسة تستهدف عمليا وبصورة واضحة فصل الفلسطينيين عن الأرض، سواء بالتهجير والنفي الجماعي والفردي، أو من خلال الاستيلاء المتواصل على الأرض ودفع الفلسطينيين إلى معازل محاصرة بالمستعمرات الصهيونية، في هذا السياق الواضح يمكن فهم سياسة تدمير علاقة الفلاح والإنسان الفلسطيني بالأرض عبر استخدام آليات مركبة وطويلة المدى: جذب جزء أساسي من قوة العمل الفلسطينية وتحويلهم إلى جيش احتياطي مرتبط بسوق العمل الإسرائيلي، تدمير قطاع الزراعة والثروة الحيوانية وإعادة هيكلته بنيويا بما يخدم حاجة الاقتصاد الإسرائيلي، السيطرة على المياه الجوفية، منع الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم، مصادرة الأراضي الفلسطينية بحجج الأمن والمناطق الطبيعية والخضراء... سياسة تدمير منازل الفلسطينين في القدس وغيرها من البلدات والمدن، التشدد في قوانين الترخيص للفلسطينيين وتحويلها إلى حالة مستحيلة ماليا وإداريا. 
 إذن السياسة الاستعمارية الإسرائيلية هي سياسة منهجية عميقة يجري فيها توظيف مختلف الوسائل والتبريرات، فهناك مستعمرات تبنى من منطلقات أيديولوجية دينية مثل الإستيطان في الخليل والقدس، الإستيلاء على الأماكن التاريخية التي يدعي الإسرائيليون أنها مقامات يهودية مثل قبة راحيل في بيت لحم وجبل هيروديون في زعترة جنوب شرق بيت لحم، وقبر يوسف في نابلس وغيرها، وأخرى تقام لأسباب أمنية كالعديد من المستوطنات التي تحتل المرتفعات والتلال حول المدن والتجمعات السكانية الفلسطينية مثل المستعمرات التي تطوق مدينة القدس (مستعمرات جيلو، جفعات زئيف، معالي ادوميم ، هار حوما... وغيرها) ومستعمرات أرييل حول رام الله، وهناك مستعمرات تقام لأسباب سياسية كالمستعمرات على جانبي ما يسمى بالخط الأخضر بالأضافة إلى الأراضي التي تم الإستيلاء عليها عند أقامة جدار الفصل العنصري، وهناك مستعمرات تقام لأسباب اقتصادية كالمستوطنات التي تقام بهدف السيطرة على أحواض المياه الجوفية، مثل مستعمرات تقوع جنوب شرق بيت لحم، وقلقيليا وأحواض "وادي لوقا" شرق مستعمرة جبل أبو غنيم (هار حوما)، ومستعمرة أفرات وغوش عتصيون التي تستهدف الاستيلاء على الأرضي الخصبة... هذه مجرد أمثلة لا أكثر...
 ومع ذلك.. وبالرغم من خطورة كل هذه السياسة العميقة وطويلة المدى... فإن "المشكلة" ليست هنا... ذلك لأن ما يقوم به الاحتلال هو من طبيعته..فتلك هي وظيفته التي تنسجم مع أهدافه وأيديولوجيته... المشكلة هي عند من يتوقع من احتلال كولونيالي عنصري شرس غير ذلك... وبالتالي يطالب بما هو غير منطقي تماما كأن يكون الاحتلال إنساني ويلتزم بالقانون الدولي والإنساني..
 المشكلة وبالدرجة الأولى ليست عند الاحتلال، المشكلة هي عند القوى والقيادة السياسية الفلسطينية والدول العربية التي لا تملك إستراتيجية وطنية وقومية لمواجهة هذا الاحتلال ومشاريعه وخططه المختلفة.
 المشكلة هي في التعامل مع قضية المستعمرات الصهيونية وكأنها خارج سياقات الصراع.. فيسود الوهم أن بالأمكان مجابهة المشاريع والسياسات الاستيطانية كحالة معزولة عن المواجهة الشاملة مع الاحتلال وعلى كافة الصعد... وكأن بالإمكان عزل موضوع المستعمرات عن رزمة حقوق الشعب الفلسطيني برمتها: حق العودة، القدس، المياه، التحرر الوطني.. وإنهاء الاحتلال...
المشكلة هي في الوهم والثقافة والممارسة السياسية التي تعتقد أن مجابهة  السياسات الاستعمارية الصهيونية محصورة في التحذيرات والمناشدات للرأي العام العالمي، أو بالمواجهة القانونية... أو الديبلوماسية فقط...
المشكلة في الثقافة التي تلقي بمفهوم المقاومة الشعبية  في ميدان الصراع... وكأنها الحل السحري.. في حين يتم فيه ضبط تلك المقاومة تحت سقف معادلات القوة ومعادلات الاتفاقات الموقعة مع ذات الاحتلال الذي ينتهكها...
المشكلة هي في التعامل مع هذا الاحتلال بسياسة المفرق... وعدم رؤية مقاومة المستعمرات كحلقة في استراتيجية وطنية شاملة... ركائزها الثابتة استثمار وتفعيل عوامل عناصر قوة الشعب الفلسطيني وخبرته التاريخية وحقه في استخدام كافة اشكال المقاومة وفقا لمبادئ الشرعية الدولية والقانون الدولي الإنساني...
 المشكلة... أن العدو يتقدم ويتحرك ضمن استراتيجية موحدة، ويوظف كل عناصر قوته ليحدث ويراكم المزيد من السيطرة والمزيد من الاختلال في موازين القوى بما يتيح له فرض خياراته ومعادلاته.... فيما الطرف الفلسطيني يذهب إلى المواجهة دون أن يملك الحد الأدنى من الشروط التي تعبر عن مقاومة شعب تحت أحتلال اقتلاعي مديد... 
 المشكلة أننا نريد مواجهة مشاريع الاحتلال بالاتكاء على أمريكا ومطالبتها بالتدخل لصالحنا... فترد علينا أمريكا بدعم إسرائيل ب 37.5 مليار دولار قدمها أوباما قبل رحيله كعربون وفاء... فيما إدارة دونالد ترامب ردت على تهديد الطرف الفلسطيني بالذهاب لمحكمة الجنايات الدولية: بأنها ستعاقب الفلسطينيين بإغلاق مكتب م.ت.ف ومنع المساعدات المالية... 
 المشكلة أننا نرفع الصوت عاليا في مواجهة ما يقوم به الاحتلال من ممارسات استيطانية.. دون أن نلاحظ أن هذه السياسات هي نتيجة منطقية للخيارات السياسية التي أطلقت يد الاحتلال في الاستيلاء على المزيد من الأراضي الفسطينية كل يوم.. وبعدها نقف لنستغرب ما يقوم به الاحتلال. 
 أخطر ما في هذا الواقع هو تحويل قضية الاستيطان وبناء المزيد من المستعمرات وتوسيع ما هو قائم وكأنه قضية القضايا.. فيما المستعمرات بكل مخاطرها ما هي إلا مجرد نتيجة لسياسات الاحتلال الشاملة، من جانب.. ولضعف الاداء الفلسطيني وارتباكه من جانب آخر.
وهكذا ينجح الاحتلال في كل مرة بجذب الانتباه  وتركيزه على اللحظة... فيبدو حين يتراجع ربع خطوة وكأنه قدم تنازلا هائلا واستجاب للمطالبات والمناشدات... بما يستدعي أن يقدم الطرف الفلسطيني مكافأة لهذا الاحتلال مقابل توقفه التكتيكي عن خرق قرارات الشرعية الدولية...
 لهذا يلاحظ أن ردود الفعل الفلسطينية في الرد على المشاريع الاستيطانية الإسرائيلية تراوح ما بين التهديد بالذهاب إلى محكمة الجنايات الدولية من جانب وتصعيد المقاومة الشعبية من جانب آخر. 
هنا يجب تسجيل ملاحظتين:
 الأولى: المبالغة في الاعتقاد بأن الذهاب إلى محكمة الجنايات الدولية وغيرها من المؤسسات الدولية واستصدار قرارات تدين إسرائيل وتجرمها وكأنه خطوة كافية بحد ذاتها لوقف السياسات الإسرائيلية، هنا من المفيد التذكير بمئات القرارات الدولية التي تنصف نسبيا الشعب الفلسطيني ومع ذلك فإن إسرائيل لم تلتزم بأي منها فبقيت حبرا على ورق... وغير بعيد يمكن التذكير بقرار المحكمة الدولية بخصوص جدار الفصل العنصري، وقرار مجلس الأمن بخصوص لاشرعية المستوطنات قبل أسابيع، وقرار حق العودة 194، والقرارات المتعلقة بالقدس.. وغيرها... فماذا كانت نتيجة تلك القرارات..؟
بالتأكيد إنها بصورة ما تعتبر منجزا سياسيا... ولكنها بدون أنياب وقوة تحولها إلى واقع ستدوسها إسرائيل بكل استخفاف. 
 النقطة الثانية: تظهير مقاومة الشعب الفلسطيني ضد المشاريع الاستعمارية الصهيوينة من منطلق أن تلك المشاريع تهدد حل الدولتين أو لأنها تضر بعملية السلام...!. 
في حين أن الشعب الفلسطيني وعبر مقاومته المستمرة منذ  مئة عام، بكل ما ترتب عليها من تضحيات هائلة، لم يكن يشغل باله حل الدولتين وفق معادلات وشروط أوسلو.. كما لا يشغل باله ما يسمى بعملية السلام التي يلمس بعد أكثر من عشرين عاما نتائجها المدمرة على مختلف مناحي حياته.. الشعب الفلسطيني يقاوم لأهداف أبعد وأعمق وأشمل... إنه يقاوم من أجل حقوقه الوطنية الكاملة... بما فيها حق العودة لملايين اللاجئين الفلسطينيين... إنه لا يقاوم من أجل الذهاب إلى مساومة وحلول ترضي إسرائيل ومستوطنيها وحلفائها في امريكا وأوروبا والرجعيات العربية.
خلاصة القول أن مواجهة  أناكوندا الاستيطان الاستعماري الصهيوني تحتاج لشروط واضحة وصارمة سياسيا ونضاليا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.. تحتاج لاستراتيجية تقوم على فعل مبادر يجعل من الاحتلال مشروعا خاسرا على المستويين التكتيكي والإستراتيجي، هذا يعني مواقف وممارسة سياسية ونضالية تجعل من ابتلاع الأناكوندا لأي جزء من الأرض والحقوق الفلسطينية عملية سيترتب عليها تمزيق أمعائها... 
كما يعني أيضا التجاوز الفوري  لكارثة الأنقسام وتوحيد قوى الشعب الفلسطيني والانطلاق من ثابت حاسم وهو أن شرط الوحدة الوطنية لشعب تحت الاحتلال هي بالمفهوم السياسي والنضالي والديبلوماسي والثقافي والاقتصادي حجر الزاوية لأي استراتيجية وطنية تحررية... في ضوء ذلك تتحدد برامج العمل على كل المستويات، بحيث تغادر الممارسة الفلسطينية مستوى رد الفعل إلى مستوى المبادرة الاستراتيجية الفاعلة التي تستهدف تغيير موازين القوى وجعل الاحتلال مشروعا خاسرا بالملموس وفي مختلف المجالات. 
* الصورة لمستوطنة معالي أدوميم...شرق القدس- قمت بالتقاطها في صيف  2016