Menu

النكبة والنضال وغسان كنفاني

yousry-abdallah

بقلم :- د.يسرى عبد الله

بدا الصراع العربي ــ الإسرائيلي حاضرا وبقوة في متن الإبداع العربي، بحيث أصبح التعبير الجمالي عن قضية العرب المركزية شكلا من شكول المقاومة ضد المحتل الصهيوني، وتبدو ذكرى النكبة من كل عام تعبيرا جليا عن أعلى درجات القمع والنفي والتشريد التي طالت العرب والفلسطينيين على يد العصابات الصهيونية، وبحيث يبدو الخامس عشر من مايو 1948 تاريخا مأسويا في الذاكرة الجمعية العربية والإنسانية على نحو سواء.

وربما يمثل المبدع الفلسطيني العربي الراحل غسان كنفاني التجلي الأكثر وهجا لفكرة المقاومة عبر الكتابة، وبما يعنى أن استعادة غسان كنفاني تبدو في جوهرها استعادة لقيم المقاومة لواقع غاصب وعبثي ومستبد، تهيمن على فضائه العصابات الصهيونية من جهة، وتتحالف فيه قوى الرجعية والتخلف مع مراكز الاستعمار الجديدة من جهة ثانية، كما تبدو القراءة النقدية لأعمال غسان كنفاني الإبداعية قراءة للواقع الفلسطيني والعربي ذاته، لإحباطاته، وانكساراته، ومآسيه، لروحه المسكونة بالتمرد، والمقاومة، المشغولة بمساءلة الواقع وكشف زيفه وتعريته، باستعادة التأثير النافذ للكلمة بوصفها أداة أصيلة من أدوات الرفض والمقاومة، وفى استعادة الكلمة استعادة لكل معانى النضال النبيل.

تتأسس فكرة أدب المقاومة على استعادة فاعلية النص بوصفه قادرا على النفاذ إلى سيكولوجية المتلقي، ومشغولا بالمقولات الكبرى، وتصبح قيم النضال والمقاومة بمنزلة المستوى المسيطر على النص، أو ما نسميه في النقد الأدبي البنية المهيمنة Dominant Structure على فضاءات الكتابة الأدبية.

هنا وعبر هذا الفهم نرى غسان كنفاني، العائد إلى حيفا، والراصد لرجال في الشمس، والمرابط في أرض البرتقال الحزين، والهامس إلينا بآخر ما تبقى لنا، والحامل نبوءة أم سعد وروحها الممزقة، هنا يوجد غسان كنفاني المشغول بناسه، والمدافع عنهم، عن ذاكرتهم الجمعية، عن ماضيهم وراهنهم المنهك بمآلات من القمع والقتل والاستبداد.

في روايته الفاتنة »رجال في الشمس« ثمة رجال ثلاثة يهربون من الموت إلى الموت، من القسوة المفرطة للحياة في المخيمات والأمكنة القامعة، إلى سجن عبثي في سيارة لنقل المياه، قديمة ومتهالكة، يقودها العنين الانتهازي »أبو الخيزران« هي رحلة إلى الموت إذن تكشف عن تلك الذاكرة المثقوبة، وتحول بوصلة الحلم من استعادة الأرض/ فلسطين، لمحض البقاء خارجها، من اندثار الهم العام وتواريه لصالح الهم الشخصي وحضوره الانتهازي الطامع، لكن شخوص الرواية جميعهم »مروان/ أبو قيس/ أسعد« يظلون محض تعبير عن المأساة الجمعية لوطن غارق في التناقضات والهزائم المجانية، فتصبح الذات الفردية هنا تعبيرا عن ذات جماعية مأزومة ومهمشة، ومن ثم تظلل بنية الإخفاق العمل منذ المفتتح وحتى النهاية، مستعينا كاتبها الموهوب بتقنية المونولوج الداخلي للكشف عن النوازع النفسية للذات البشرية في لحظات مأزومة وفارقة من حياتها، وحياتنا، كما نرى أيضا حضورا للمشهدية البصرية داخل الرواية، حيث ثمة صورة بصرية ضافية يمكن تخيلها تصاحب المتلقي وتدفعه للوقوف على حافة الفعل والمساءلة.

ويأخذ الشوط مدى أبعد في عمله الإبداعي "ما تبقى لكم" والتي تنتقل من حيز السؤال إلى حيز الفعل ذاته، عبر أسرة فلسطينية تخرج من مدينتها يافا على يد العصابات الصهيونية، فتتعرض للاغتيال المعنوي والقتل الممنهج مرتين، مرة على يد عدوها المباشر، ومرة على يد الرجل المتواطئ مع الاحتلال الإسرائيلي «زكريا» والمغتصب لمريم كما اغتصب الكيان الصهيوني فلسطين ذاتها، ويتوازى الفعلان السرديان ويتقاطعان حين تقتل مريم زكريا، وحين يثأر حامد من الجندي الإسرائيلي في الآن نفسه.

وفى »أم سعد« يمد غسان كنفاني الشوط على استقامته، متوغلا أكثر في النفس البشرية، فلا يقدمها من زاوية ملائكية، ولكن يقدمها بوصفها ابنة الضرورة الحياتية من جانب، والحلم المقاوم من جانب آخر، وبينهما يتحرك غسان في مساحة إنسانية بالغة الرهافة والوعي، تصبح دائرتها المركزية «أم سعد» ويصبح الفدائي عنوانا على عالم يتحرك أيضا صوبه غسان فيقدمه لمتلقيه لا من زوايا المقولات السياسية المباشرة، ولكن من زاوية الفن الذى يقف على تخوم السياسي والجمالي، فيمتزج الأيديولوجي بالفني، ويشكلان معا جدارية عن النضال، والرفاق، والمقاومة، والمعنى النبيل لعالم يقف في قلب الموت ليهب شعبه وأمته حياة ليست كالحياة، بل أبهى وأجمل.

ومن لحظة راهنة مسكونة بالتوتر والذكريات المؤلمة، حيث نكسة الصيف السابع والستين، يبدأ النص/ العودة، ثم يبدأ الارتحال الزماني القلق إلى جذر المأساة فى عام المأساة 1948، عبر تفعيل آلية التذكر أو ما يعرف بتقنية الاسترجاع أو الفلاش باك، فيستعيد سعيد وصفية معا حيفا التي كانت، والإجرام البربري الصهيوني في حق العرب، وتتأزم الحلقات السردية منذ البداية حين تسطو الأسرة الصهيونية على »خلدون« الابن، وتحيله بحكم النشأة والتربية إلى جندي في جيش الأعداء، وتمنحه اسما ورسما جديدين، وفى محاولة استعادته ينهار كل شيء، ولا يبقى سوى استعادة أمل جديد عبر قربان آخر تقدمه الأسرة راضية ممثلا في ابنها الآخر المقاوم للاحتلال.

أما في نصوص غسان كنفاني القصصية، من قبيل: «أرض البرتقال الحزين» فإن المعنى السياسي المباشر يأخذ حضورا أكثر بروزا، وتبدو المأساة موزعة على صور جزئية، تتشارك جميعها في رسم المشهد العام بقتامته وبؤسه، وفى كل يبقى المبدع الفلسطيني الراحل غسان كنفاني أحد أهم الكتاب العرب الذين منحوا النص الحامل للمقولات الكبرى أبعادا فنية ضافية، حيث قرب النضال لمتلقيه من زوايا إنسانية رهيفة، منحت نصه ومنحته خلودا في متن الكتابة والمقاومة والقيم الإنسانية النبيلة في عالمنا المعاصر.