لم يخطر في بالي سوى شيئين عندما وقعت عيناي على أحمد، القادم من الأرض المباركة، من عيتا الشعب تحديداً. الأول، مقولة سيد المقاومة في حرب 2006 حين قال: "كما وعدتكم بالنصر، فإني أعدكم بالنصر مجدداً". والثاني، مشهد الترويقة اللبنانية، تلك اللوحة الفنية المتناغمة من الأطعمة، يتوسطها ذلك النعناع الأخضر. لم يبخل أحمد وقام بإحضار أجود أنواع النعناع، نعناع عيتا الشعب.
صدقني يا عزيزي نعناع عيتا الشعب ليس مجرد نبات، بل هو مخلوق عجيب، وقد سمي بالمخلوق لأنه على عكس اللغة الصينية والتي تشبه كلماتها بنية معمارية دقيقة، يبرز تأثيرها في العالم الواقعي من خلال عمرانها الهندسي، فان للغة العربية سراً أعظم، فهي لغة حية وحرة بل هي "لسان" بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ. إنها لغة لا تترك شيئاً دون أن تمنحه اسماً، كل نسيج مغزول في الكون يجد صوته في العربية. وهنا تتجلى قوة آدم الحقيقية؛ في امتلاك الأسماء. فلوهلة قد يبدو العدو الصهيوني متفوقاً بتقنياته واختراقاته ذات المدى التكتيكي، لكن في العمق وعلى البعد الاستراتيجي، تكمن قوة الكلمة العربية. وما أدراك ما هذه الكلمة وما بإمكانها أن تفعل! ليس من قبيل المصادفة أن وصف إيلون ماسك لغتنا بأنها "لغة الأعداء".
فلهذا النعناع حكاية خاصة. كنت أعتني به يومياً بل كنت أدلعه، وكانت رائحته تفوح بقوة تفوق أفخر العطور فهي تحمل في طيات أوراقها عطر الأرض المباركة. لكن ما لبث أن ذبلت أوراقه وخف عطره. شعرت بالإحباط واليأس، فتوقفت عن سقيه تماماً. ولكن عندها، عاد لينمو من جديد، أكثر عزة وقوة، كطائر الفينيق الذي ينهض من رماده. هذا النعناع، مثل كل شيء يأتي من تلك الأرض، ينهض من جديد.
ففي لحظة اتصال عميق تحت شجرة الزيتون، كان المرابط زاهر، الأخ اللبناني لصابر الغزاوي، يحتفظ في جيبه، أمام قلبه بمصحف صغير أهدته إياه أخته التوأم زهراء، وبين يديه ورقة كتبها صديقه المرابط الشهيد ياسين. كانت الكلمات تصف ماهية الصديق الحق: "مودته تدوم لكل هول، وهل كل مودته تدوم". زاهر كان يحاول حفظ تلك الكلمات، لم يستطع حفظها، ففي كل مرة يصل إلى نهايتها، يغرق في أفكاره ويسبح بعيداً، مخاطباً نفسه وهو يتمنى أن يكون كل ما يفعله خالصاً من أجل القدس ومن أجل نصرة أهله في غزة. ما لم يكن يعلمه زاهر، هو أنه هو نفسه الصديق الحق.
فلم أريد ازعاج هذا الزاهر، وشعرت كأني أطير كالهدهد فوق جبال لبنان، حتى وجدت هدا القصر الحجري الجميل واعتقد انه يعود لشخص اسمه مشير، بدا وكأن الجبال قد نبتته. اقتربت ودخلت هذا القصر الفينيقي، كانت في الأعلى نجفة كبيرة تزينها قطع زجاجية صغيرة أسطوانية الشكل، تملأ الغرفة بضوء يشبه ضوء الشمس، ينعكس على الطاولة الخشبية الطويلة الموجودة أسفله. فجأة سمعت صوتاً شجياً، ذلك التردد الحزين الذي سمعته يوماً في بيت لحم، وبالتحديد تلك الكنيسة التي تقع بعد عبور الدحلة، ثم انعطاف إلى اليمين، حيث تتسلق السلالم الصخرية، يا إلهي، أتقصدينني؟ لماذا تحمل هذه الكلمات كل هذه السلبية؟ يا للغرابة فهي تنبعث من هذا القصر الذي يبدو جزءًا من تراث الأجداد القدماء. أصغيت مرة أخرى حتى أتأكد، وسمعت صوتها يغني: "غنتلي اليمامة، قلتلها اسكتي، أجانا الحرامي بليلة شتاء".، انا اسف جداً ولك....
فجأة شعرت بطنين قوي في أذني، إنها نبضة شديدة تنبثق وبقوة من قلب الزهراء، تلك الفينيقية الشامخة التي تزغرد بفخر لاستشهاد أخيها المرابط، تحاول كبح دمعتها، لكن دمعة واحدة سالت كخيط متدفق من عينها اليمنى.
لم تكن يمامة، بل كان طائر فينيق، لم تغنِ لك، ولم تكن ترحب بي بل كانت تصرخ: "يلا عالجنوب، يلا عالجنوب". كان ذلك هو زاهر، ذاك النعناع الزاهر.