Menu

اليسار الفلسطيني . . بين التشظي والمهمات الثقيلة ! . .

قلم

بقلم / محمد صوان
  • ملابسات النشأة ..

في سياق الحديث عن اليسار الفلسطيني تبرز جملة من التساؤلات والإشكاليات تطال بالضرورة قضايا جوهرية لا يمكن القفز عنها. . وهي قضايا ذات طبيعة بنيوية واجتماعية وفكرية متنوعة . . لا يمكن لأدوات القياس الكلاسيكية أن تضبط إيقاعها، لأننا أمام حالة متخيلة عن اليسار أكثر مما هي حالة وجود فعلي يسهل رصد تجلياتها الاجتماعية والإيديولوجية والسياسية. ومع هذا فإن الخروج بمقاربات تلحظ هذه العوامل وتفسر حالة اليسار الراهنة، وما إذا كان قادراً على التبلور أو التشكل كقوة فاعلة. في النشاط السياسي والاجتماعي خصوصاً بعد ولادة الحكم الذاتي الهزيل . . وهجرة مئات الآلاف من مخيمات الشتات إلى أوروبا وغيرها . .

وإذا استثنينا الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي تشكل في سياق تطورات تاريخية وقومية ووطنية فريدة – يصعب المرور عليها في هذا المقام – فإن الحركة اليسارية بفرقها وفصائلها كلها تشكلت بعد هزيمة حزيران عام 1967 . . وكي لا نظلم هذه الحركة بإخضاعها لمعالجات نظرية صارمة لتبيان يساريتها لأنها كما تشير مجريات التأسيس فهي حركة وحركات مبنية على الحماسة الوطنية في وجه مظاهر العجز التي جاءت بها الحركة القومية. . وهي في نهاية المطاف انشقاقات استخدمت الغطاء الفكري لضمان التميز, وهنا نتذكر تسميات من نمط "اليسار القومي، ثم اليسار الجيفاري، ثم الماوي، ثم التروتسكي، ثم ال لينين ي" والحقيقة الوحيدة التي يمكن توصيف هذه الفصائل بها هي أنها فصائل وطنية بامتياز. وكل اجتهاد في يسرنتها لا ينتج سوى زيادة البلبلة والتشويش، هذا على الصعيد الذاتي، أما موضوعياً، فلم يكن بالإمكان، بناء يسار اجتماعي وسياسي موحد تحت سياط التشرد والبحث عن الهوية الوطنية في خضم معركة التحرر الوطني بمواصفات الكارثة الفلسطينية.

والثابت هنا أن الشعب الفلسطيني المنكوب لم يتمكن من تطوير وجوده النوعي، أي تطوير مكوناته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، كما أن البنية الجمعية لم تتطور أيضاً باستثناء هويتها السياسية. . وهذا الوضع ساهم في توليد حركة سياسية على شاكلة المجتمع أي أن قوى اليسار لم تولد من رحم حاجات النشاط الاجتماعي والاقتصادي وإنما ولدتها حاجات النضال الوطني التحرري. . الأمر الذي يفسر تعدد الفصائل التي تكفي عملية فدائية واحدة ضد اسرائيل كي تكتسب منها الشرعية . .

  • تداخل الهم الوطني بالاجتماعي :

لم يفلح اليسار برمته في أن يجد حلاً جدلياً لمعادلة جدلية اسمها "تداخل الوطني بالاجتماعي" فحتى المنظمات والأطر الجماهيرية التي بناها اليسار، كي تكون رافد ورئة العمل الجماهيري المنظم انفصلت عن فصائلها جراء ثلاثة عوامل :

الأول : دواعي التمويل الأجنبي وحاجاته.

الثاني : تطور طموح قيادات هذه الأطر إلى أداء دور مستقل عن الفصائل.

الثالث : التطلع نحو المزيد من الديمقراطية بديلاً للمركزية البيروقراطية.

وبهذا الانزياح للروافد الجماهيرية عن فصائلها انعزل اليسار عن الفئات الاجتماعية المستهدفة وازدادت قوقعته وعلى الرغم من هذا، فإن اليسار بتنوعه ما زال يعتقد أنه قادر على تشكيل جبهة موحدة رغم التعثر أكثر من مرة لأسباب فئوية وذاتية علاوة على التشاطر الفصائلي لاستغلال حماسة القاعدة الوحدوية لتحقيق مكاسب ذاتية . . الأمر الذي أدى إلى انهيار عدة تجارب على التوالي.

إن مهمة توحيد اليسار تبدو شبه مستحيلة على الرغم من الحاجة الملحة لها في ظل مخاطر تفكك النظام السياسي الوطني جراء التطاحن بين القوتين الرئيسيتين (فتح و حماس).

لم يسع اليسار ليضع وجهته في أتون معارك اجتماعية واقتصادية وثقافية واضحة، وانما نما نظرياً على اساس اصطفاف وطني برنامجي ليس إلا، ففي الوقت الذي امتلأت بياناته و أدبياته بالدعوة إلى تمكين الفئات الكادحة. . كانت قوة سياسية متدينة ومؤمنة بالتراتب الطبقي كقدر إلهي، أي حركة حماس ، تقدم عبر مئات المؤسسات الخيرية والتعليمية والمنتديات الثقافية والاجتماعية والنوادي الرياضية، إجاباتٍ ملموسة لمشاكل كتلة واسعة من المواطنين الفقراء والمسحوقين.

وفي إطار هذه المعركة غير المتكافئة بين الشعارات والخطابات اليسارية والكوبونات الحمساوية، تمكنت حماس من بناء قاعدتها الاجتماعية الجاهزة لرفعها إلى السلطة.

  • العلاقة مع حركة فتح :

كانت ولا زالت علاقة اليسار بحركة فتح علاقة متذبذبة تطغى عليها مهمات التحرر الوطني، تارة، ومصالح فصائلية فئوية مباشرة تارة أخرى، وبهذه العلاقة المتأرجحة فقد اليسار قدرته على أداء دور معارض بارز، وأصبح في نظر الجماهير جزءاً من ماكينة السلطة، حتى وهو خارجها! وبهذا فسح المجال لحركة حماس أن تحتل موقع المعارضة بالكامل، وساهم هذا الفشل في تقوية حماس التي وجدت نفسها في مكان مثالي ضمن لها انتصاراً كاسحاً في الانتخابات التشريعية الثانية. . وهذا القصور الذاتي لليسار، ليس ذاتياً فحسب، بل هناك عامل موضوعي آخر، لا يكتمل المشهد من دونه، وهو تحول النشاط السياسي والجماهيري إلى عمل مكلف لا يمكن لليسار متفرقاً أن ينافس فيه قوتين مهمتين، الأولى فتح وتتكئ على مقدرات البلد والمانحين، والأخرى حماس وتتلقى دعماً هائلاً من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين.

إن استمرار التداخل في وظيفة حركة فتح كحزب للسلطة، وكقائد للتحالف الوطني في "م.ت.ف" يلقي بمسؤوليات مركبة ومتعاظمة على فصائل اليسار، فلا يمكن لليسار أن يعلن قطيعة مطلقة مع حركة فتح، ولا يمكنه بذريعة التحالف معها مهادنتها أو الصمت على تجاوزاتها، لأنه سيتحمل تبعات مضرة بصورته ومكانته السياسية والاجتماعية.

  • العلاقة مع حركة حماس :

بقيت حركة حماس حتى الانقسام المدمر عام 2007 تؤدي دور المعارضة الفاعلة بامتياز، والقادرة في الوقت ذاته على خلط أوراق اللعبة السياسية، مستفيدة إلى الحد الأقصى، من هزيمة مشروع "التسوية التاريخية" فهي وعبر مشاركتها ونشاطها في المواجهة العسكرية ضد الاحتلال ولا سيما العمليات الاستشهادية، بدت القوة الأكثر شعبية واحتراماً في الأوساط الجماهيرية التي رأت فيها قوة صاعدة يمكن أن تشكل بديلاً عن مشروع حركة فتح الذي فشل , كما فشلت هي في إدارة حياة المجتمع الفلسطيني. أمااليسار المشغول بالتنظير" لعلم الجمال الماركسي " فتحول جزء منه إلى محايد، وجزء آخر إلى حليف لحركة حماس، ومن خلالها لولاية الفقيه. . وما زلنا نذكر كيف كان يمشي البعض من زعماء اليسار في مسيرات مبرمجة – في مخيم اليرموك تحديداً – وتحت رايات ولافتات وهتافات : "خيبر خيبر يايهود جيش محمد سوف يعود" ليس مفاجئاً والأمر كذلك أن تسقط السلطة في حضن حماس كثمرة ناضجة . . واليوم، وبعد عشر سنوات عجاف على الانقسام والانقلاب في غزة، ما زالت الحركة الوطنية، وفي مقدمتها اليسار، عاجزة عن تلمس دورها في إنهاء الانقسام، واسترداد المشروع الوطني، وإعادة بناء وتفعيل مؤسسات "م.ت.ف" إننا بحاجة إلى ما يشبه التأسيس لحالة عصيان مدني متدرج ومتواصل، هدفه الوصول إلى مواصفات الوضع الثوري، أي وضع تعجز فيه سلطتي "فتح وحماس" من الاستمرار في سياسة الانقسام والتفرد والإقصاء، وهذا لا يكون دون عمل تراكمي وجاد.

  • اليسار ومقدمات النهوض :

بالرغم من ضعف اليسار وقلة حيلته إلا أنه يستطيع هز العصا في وجه استهتار وعبث سلطتي فتح وحماس المتواصل بالمشروع الوطني والكيانية السياسية المتمثلة بـ "م.ت.ف" ووظيفتها التمثيلية فضلاً عن أن في وسعه إنهاء حالة التشظي بين فرقه وفصائله كي يبني جبهة اليسار الموحدة، وأن يحدث تغييراً فارقاً لمصلحة استعادة دور "م.ت.ف" ومكانتها . . فالجميع يدرك أن الأخيرة هي آخر ما تبقى من بني شرعية وأنه لا يمكن المجازفة بتفكيكها أو نقض شرعيتها ! . .

لا جدال بأن حجم التعقيدات التي تعانيها الحالة الفلسطينية هائلة ومركبة . .إلا أن مهمة التغيير ليست مستحيلة وإن بدت صعبة ومن أجل تلمس الطريق في اتجاه التغيير فعلى "العلمانيين والوطنيين والمتدينين" المتنورين الإقرار بأن استمرار المأزق الوطني وعدم الخروج منه إضافة لتعدد سيناريوهات الحل , وكلها ستقرر وجهة التغيرات والتطورات اللاحقة للقضية الوطنية فلا يمكن لفصائل اليسار في ظل هكذا وضع أن تنشغل بتغيير المناخ السياسي والاجتماعي دون جبهة موحدة متماسكة، ودون أن تلقي بثقلها لحسم جوهر ومضمون المشروع الوطني الديمقراطي ومستقبله. . فالصراع الدائر اليوم سيقرر بشكل جذري وجهة هذه المهمات وجدواها. . وفي سياق هذه المعارك يمكن أن يظفر اليسار بمحورية دوره وأن يتملى هويته الفعلية بوصفه قوة فاعلة ومؤثرة في مجرى النضال من أجل الخلاص الوطني والديمقراطي الناجز.