Menu

باسل الأعرج والدرس الأخير في وعي المحارب

باسل الأعرح

المقداد جميل

في آب 2014 كنت قد بدأت أفقد إيماني بمسمى "المقاومة" وما تعنيه من فعلٍ مستمرّ طوال استمرار الاحتلال، وجدوى هذه المقاومة ومقدرتها في "الحفاظ على كرامة الفلسطيني وانتشاله من حالة الذلّ"، كما كنّا نقول دائمًا، ونسمع. كان إيماني بالمقاومة وبالسلاح أكبر من أيّ إيمانٍ آخر، فأنا أؤمن بالمقاومة المسلحة بغضّ النظر عن عقيدتها أو خلفيتها، هذه المقاومة التي تعطي الوجود الفلسطيني على أرض مسلوبة معناه، والمقاومة الأشمل التي ترفض الظلم والطغيان أيًا كان.

انتهت الحرب التي استمرت أكثر من خمسين يومًا، وكانت المقاومة آنذاك قد تمسّكت بعدة مطالب، كان إيماننا بالمقاومة يقطع أيّ شكٍ بأنّها ستخرج من هذه المعركة سوى منتصرة، قادرة على هزيمة عدوها، واقتلاع مطالبها منه، لكن انتهت الحرب دون أن يحدث أيٍّ من ذلك. حطّ هذا من نظرتي إليها، ليس لأنّها باعت أو ساومت، بل لأنّها وقعت رهينةً لمجموعة من اللقاءات السياسيّة، في حين أنّها كانت قادرة على الاستمرار حتى الرمق الأخير -طالما أنّ المعركة كانت قد بدأت ولم يبقَ للواحد منا شيئًا يخسره-.

ما بعد آب، كانت الحياة مختلفة، في النظرة الشخصيّة لها، في الاهتمامات، بكلّ ما فيها. حياة غارقة ما بين الكتب والأفلام والاستماع للأغاني، كفعل وحيد لمحاولة الخروج من واقع متهالك أو الغياب عنه ولو لحظة مقابل خيالٍ تصنعه تلك الأشياء.

لحظة واحدة كانت قادرة على قتل شيء ما داخل الروح، ولحظة أخرى كانت قادرة على إعادة إحياءه. استشهد باسل الأعرج، وكان قد كتب عن "وعي المحارب"، هذا الوعي الذي لا يجوز حقيقةً أن ينفصل إلى كلمتين مفترقتين -كما علمنا الباسل-، فالمحارب وحده لن يفلح، ولن يقدر على أنّ يمرّ طريقه دون ما يُنيره إليه، ذاك الوعي الذي يساعده على إمساك السلاح داخل النفق وفي خطوط التماس، وهو الوعي ذاته الذي يدفع به أن يلقي حياته كاملةً رهن اللحظة ما بين إخراج السكّين وذبح الجندي الواقف على الحاجز المُغتصب لأرضه. والوعي وحده، لن يغدو سوى مجرّد كلام في الكتب، نقرأه كما نستمع للأغاني ونشاهد الأفلام، وننظّر على الناس، ونقول أنّنا مثقّفين ونتملك من الحكمة ما يجعلنا نتباهى أمام الآخرين ونتعالى، فلا يغدو لهذا الوعي أيّ فائدة، إلا إذا كان قادرًا على أن يقودها لطريقه الصحيح، نحو محاربة الظلم والعدوان المتواصل منذ عشرات السنين، وهذا التمثيل الحقيقي لكلمة الشهيد الباسل حين قال لنا بصوتٍ مُقبلٍ على القتال أنّ "المثقف يجب أن يكون مشتبكًا، ولا لزوم للمثقف الغير مشتبك".

الحقيقة أنّ "وعي المحارب" كان العلامات الصغيرة التي نثرها باسل الأعرج في طريقنا، كي لا نضلّه، وليعلّمنا في صباح السادس من آذار الدرس الأخير من هذا الوعي، أنّ الثقافة هي المعنى الآخر للرفض وللاشتباك، فلا معنى للمثقف الذي يُطلق الشعارات ويظل قاعدًا لا يتحرّك، وأنّ المسلّح الواعي هو الذي يعرف طريقه أكثر من أيّ مسلح آخر، وكان هذا الدرس، هو الدرس الوحيد القادر على إعادة الإيمان المنهار، ككتابٍ نزلَ في ليلةٍ خصّصها هذا النبي الأخير المُحارب، الرافض أن يكون كتابه مجرّدًا من معنى القتال والرفض.