Menu

فشل صدمة الوعي الفلسطيني... وقواعد الاشتباك!

نصّار إبراهيم

 الطريقة والسلوك الذي سلكته الأجهزة الأمنية الفلسطينية في مواجهة الجمهور الفلسطيني والشباب الفلسطيني الغاضب والمجروح في رام الله قبل أيام بمناسبة محاكمة الشهيد باسل الأعرج أمر يثير الحزن والرثاء.
فهذه الظاهرة التي شاهدناها في رام الله من سلوك  مخجل من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية والشارع الفلسطيني تشير إلى نقلة خطرة على صعيد المعادلة ما بين السلطة والشعب الفلسطيني.
 ليس الآن مجال الخوض في حالة الانقسام أو حالة التناقض العميق ما بين خيارات ورهانات السلطة السياسية ورأي ووعي الشارع الفلسطيني تجاه ما يجري على صعيد القضية الفلسطينية بشكل عام. 
ولكن ما جرى يستدعي وبصورة عاجلة  إعادة التذكير ببعض البديهيات التي يجب أن تكون حاضرة في الذهن ونحن نحاول وعي اللحظة الراهنة في محاولة لضبطها كي لا تذهب إلى ذلك المستوى من الانفلات بحيث لا يعود أحد قادرا على فهم كيف وصلت إلى ما وصلت إليه.
هذا يتطلب تجاوز الخطاب المعلب والساذج عن  مفهوم الشرعية والأمن والأمان، كما يتطلب تجاوز المقولات السطحية عن دور ووظيفة الأجهزة الأمنية وحقها في الرد والتدخل متى وكيف تشاء.
 فنحن هنا لا نتحدث عن واقع افتراضي في عالم افتراضي... نحن نتحدث عن الشعب الفلسطيني المحكوم في وعية وسلوكه وردود فعله بمعادلات حاسمة لا ترتبط حركتها ودينامياتها العميقة بحال من الأحوال بنشوء السلطة الفلسطينية ووظائفها العامة، ذلك لأن حركة الشارع الفلسطيني وردود فعله تتجاوز موضوعيا وليس ذاتيا مسألة السلطة ورؤيتها وخياراتها، إنها تعود لمرجعيتها التاريخية والسياسية والثقافية في الوعي الفلسطيني الجمعي المرتبط بحالة ومحددات الصراع مع المشروع الصهيوني والممارسات الوحشية الإسرائيلية المتواصلة.
بهذا المعنى نلاحظ أنه حتى في لحظة المواجهة ما بين الشارع وأجهزة السلطة الفلسطينية  بقي السلوك العميق للجمهور الفلسطيني منضبطا، فلم يرد بعنف مضاد، بل نراه يواصل تحمل الاعتداءات والإهانات والإذلال دون أن يتجاوز نحو الاشتباك، صحيح أنه يصعد في الخطاب الغاضب لكنه لا يذهب للاشتباك العنيف ولا يحرض عليه مع أن الجميع يعرف ويدرك كم هذا الشباب الفلسطيني جرئ وشجاع. 
 هذا يجب أن يثير سؤالا حاسما عند الجميع: لماذا لا يذهب هذا الشباب الجرئ والمقدام إلى الاشتباك مع الأجهزة الأمنية.. هل ذلك تعبير عن خوف أو جبن أم ماذا؟. 
 السبب العميق أن هذا الشباب الفلسطيني المقدام الذي اختبرته الحياة في كل مراحل التاريخ يدرك التباسات اللحظة ويدرك إشكالية السلطة، لهذا فهو يتحمل ليس من منطلق الضعف ولكن من منطلق الوعي العميق بأن ليس هنا حربه ومعركته الحاسمة.
 بالمقابل نجد خفة وتسرعا في أداء الأجهزة الأمنية الفلسطينية وهنا نقصد مركز القرار وليس الأدوات التنفيذية التي تذهب للمواجهة دون أن تملك ربما حدسا عميقا لإشكالية المواجهة مع هذا الشارع الغاضب والجريح.
 إنها تذهب وهي مسكونة بثقافة القوة والترويع.. تذهب وهي معبأة بإمكانية صدم الوعي الفلسطيني، ومن خلال ذلك يأتي وهم إمكانية السيطرة على الشارع الفلسطيني.
 ولكن بقليل من الهدوء والتأمل نجد أننا أمام معادلة ومقاربة مختلة في العمق لا يجوز ولا بأي حال من الأحوال ان تسقط فيها الأجهزة الأمنية الفلسطينية مهما كانت الظروف والمبررات.
ذلك لأن استمرارالمواجهة مع الجمهور والشباب الفلسطيني  والاشتباك معه واستفزاز وعيه العميق في قضايا يعتبرها من المقدسات سيكون بمثابة انتحار اخلاقي وسياسي وبامتياز.
لا أحد يعرف  أين الحكمة والرصانة وما هو الهدف بالضبط للمواجهة والاشتباك مع الشارع الفلسطيني حول قضية مقدسة اسمها الشهداء.. أقول ذلك مهما كانت قراءتنا وخيارتنا السياسية، فالسؤال هنا هو: كيف يمكن تبرير وفهم الاشتباك مع شعب أدمن تقديم الشهداء بما يمس قدسية هذه المسألة المترسخة في وعيه منذ عشرات السنين.!!!
 لا أدري أين الحكمة في الاشتباك مع شباب وشعب يخوض مواجهة وجود مع مشروع يدمر تاريخه وحقوقه وانتماءه وهويته وروحه ويحول في كل لحظة حياته إلى جحيم؟
 لا أدري اين الحكمة في الاشتباك ولو المحدود مع شعب أو قطاعات من الشعب تدرك وتعي جميع الأجهزة الأمنية الفلسطينية أنها تنتمي لشعب لا ينكسر في الميدان... شعب قد يستشهد ويجرح وتكسر أيديه وأرجله لكنه لا يستسلم ولا ينهزم... هنا نحن لا نتحدث عن فرضيات أو عواطف بل نتحدث عن شعب يملك الجرأة على مواجهة جيش الاحتلال وأجهزته العاتية والاشتباك معه بكل جرأة وبسالة وفي أي لحظة... !؟ 
هل فكرت أو تخيلت الأجهزة الأمنية الفلسطينية  للحظة واحدة أن امتناع أو انضباط هذا الشارع في مواجهة سلوكيات الأجهزة الأمنية القمعية لا يعني الضعف والجبن بل تعبير عن وعي عميق بأن ليس الأجهزة الأمنية الفلسطينية هي الهدف...!
 إثارة هذه الأسئلة وغيرها ليس الهدف منه الآن إعادة تقييم الخيارات السياسية، كما ليس من أجل توضيح وإعادة تحديد البنى التي تشكلت ضمن عملية أوسلو، فالجميع يدرك وفي العمق سقف الصلاحيات والمسؤوليات على هذا الصعيد بما في ذلك دور الأجهزة الأمنية.
ما أريد لفت النظر إليه أن هذا الواقع بكل أثقاله يجب أن لا  ينسينا ما هو أهم وأكثر خطورة من كل مفردات هذا الواقع ألا وهو طبيعة وجوهر المعادلات التي لا تزال تحكم الوعي والسلوك الفلسطيني بما في ذلك أغلبية قواعد حركة فتح الوطنية التي تبقى محكومة لحقائق المواجهة الميدانية مع سياسات ومشاريع ووحشية الاحتلال... 
هذه الحقيقة تتجاوز في ترجماتها وحركتها كثيرا جدا الخيارات السياسية المعلنة والرسمية.
 إذن كيف على السلطة وأجهزتها أن تتعامل مع هذا المحدد الموضوعي في الصراع وحالة الاشتباك المعقدة!؟
الاجابة على هذا السؤال بعمق ووعي سيشكل أساسا سياسيا وأخلاقيا واجتماعيا  لوضع حد لهذه الممارسات الخطرة في العلاقة ما بين الأجهزة الأمنية والشارع الفلسطيني... 
هنا لا أتحدث  بالمعنى العام والبعيد أو عن خيارات تتعلق بالسياسة والاستراتيجيا العامة بما في ذلك حتى التنسيق الأمني.. ما أقصده الآن هو موضوع له علاقة مباشرة بما يسمونه في العلوم العسكرية ب"قواعد الاشتباك" إن جاز التعبير بما يحرم ويمنع المساس بحرية الشعب الفلسطيني في التعبير عن مواقفه وممارسة حريته في الدفاع عن وعيه وقيمه وحقوقه.
 فليس هناك ما هو أكثر بؤسا وفقرا في المخيال من الذهاب للاشتباك مع شعب حول ركائز وعيه المقدس... كاحتفاله أو دفاعه عن كرامة شهدائه، أو أسراه، أو حقه في مجابهة الاحتلال... 
 هنا قد يقول البعض أن ذلك يتعلق بمفهوم ممارسة السلطة لدورها بما في ذلك مفهوم الشرعية... يمكن فهم هذه المعادلة لو كان ذلك في واقع غير واقع الشعب الفلسطيني.. هنا نحن أمام معادلات تشكلت على مدار عقود من الصراع، فما دام هناك احتلال إذن هناك شرعية سياسية وثقافية وأخلاقية ووطنية وعملية في مقاومة هذا الاحتلال... وأي تلاعب أو مساس بهذه الحقيقة أو محاولة لتجاوزها بخفة يعني السقوط في اختبار البديهيات.
 خلاصة القول إن ما جرى في رام الله كان أمرا محزنا ومؤلما لأقصى حد... ومن يتوهم أن بمقدوره ترويع الوعي الفلسطيني المقاوم بالقوة فهو يدفع بوعي أو بدونه المواجهة إلى دوائر خطرة جدا... لأن هذا الشعب لم يتعود الانكسار والصمت... فإسرائيل بكل جبروتها وآلتها الأمنية والإعلامية والسياسية والاقتصادية القهرية لم تنجح وعلى مدار عقود طويلة من تركيع الشعب الفلسطيني الذي أدمن المقاومة والاشتباك وتقديم الشهداء والأسرى والجرحى وتحمل جحيم الاحتلال. 
فلا يختبرن أحد شعبا في ثوابته المقدسة التي تشكلت عبر التاريخ ووفق بديهيات الواقع وشروط حالة الاشتباك مع عدو يحتله منذ سبعين عاما.