Menu

عن الباسل وتجليه في متراسه الأخير.. من يجرؤ على النكوص؟

الباسل

عرفات الحاج وأحمد.م.جابر

منذ لحظة استشهاد باسل وقع محبيه في إغراء الحاجة للانفراد، وممارسة حزنهم الطبيعي على الحدث، أو حتى إخراج غضبهم على من لاحقوه أو أسهموا في جرم اغتياله، هذه الطريق زرعها باسل بآلاف الألغام، أغلقها أمامنا، بآلاف "النقاط الميتة" التي ترك لنا فيها أحراز وأمانات معنوية، تنفجر في وجوهنا إذا ما حاولنا فضها منفردين، فهي كما الشهيد وكل فكرة عمل لأجلها، تخص المجموع لا الأفراد،  وتتعلق أولا وأخيرا بتلك القضية التي استشهد لأجلها هذا الرجل.

في هذا النص نحاول جاهدين أن نفهم باسل أكثر، بما يليق به،  نفهم وصيته ليس للأرشفة والحفظ بل لنحولها إلى سلاح بالضبط كما حول هو جسده إلى سلاح في وقفة أخيرة مشهودة لالبس فيها ولا تحتمل أي تأويل.

في فقه الاشتباك

إذا كانت النظرية تحدد الإطار العام للممارسة الواعية فان الممارسة لا تكف عن صياغة النظرية وتطويرها وجعلها قابلة للتطبيق في سياق اجتماعي محدد، هذا التأطير يبدو ضروريا لفهم العلاقة الجدلية الشائكة بين الممارسة والنظرية بين القول والفعل وتحول الفكرة إلى قوة تغيير كما تبدت في تجربة الشهيد باسل الأعرج.

وإذا كان صحيحا القول أن الباسل يأتي  من سياق كفاح طويل، كنبت طيب، ويخطئ من يظنه نسيج وحده وجذعا معزولا، فباسل هو الوريث الشرعي لقامات عالية، رفضت الذلة واختارت الاكتواء بكرامة بنار حرب ضروس، فانه من الصحيح أيضا والعادل التأكيد أن باسل في سلوكه وطريقة تعبيره عن أفكاره ثم التجلي الأمثل لهذا السلوك والأفكار في فعل الاستشهاد إنما شكل عتبة فارقة وإضافة معرفية هامة لايمكن التغاضي عنها أو تجاهلها.

لم يتسع الوقت لباسل ليسهب فيما يريد قوله، وكان استشهاده هو الخلاصة المكثفة لمنهاج الرفض الثوري، ومن يريد النجاح ليس له إلا أن يتمثل هذا المنهاج ويتبع طريقه.

حيث يشكل باسل استثناء بمعنى الفرادة وليس معنى الانفراد والفرق كبير، إذ يذهب المصطلح الثاني إلى اليأس وتقديم الباسل كاستثناء يثبت قاعدة مجافية ونقيضة، بينما نقصد بالفرادة إن الباسل في حقيقة الأمر هو الطفرة في القاعدة، تعبر عنها وتتجاوزها وهنا يأتي الأمل الذي يقول به الباسل، ويأتي التأكيد على السياق الذي قدم فيه حياته ودمه.

كان باسل في كتاباته وأحاديثه مع أصدقائه يركز في الأغلب على نقاط واضحة: كان يشيع الأمل ورفض اليأس، وينشر التفاؤل في قوله وسلوكه، داعيا للتعلم والمعرفة مكتسبا إياها وناشرا لها.

كان باسل نموذجا للتفاؤل الثوري النقدي الجذري في مواجهة انحرافين خطيرين: تغليب الاستراتيجي على التكتيكي، وتغليب التكتيكي على الاستراتيجي.

قوة المعرفة ومعرفة القوة

لاشك أن القوة تتناسب طردا مع المعرفة، وشتان بين العالم والجاهل، وإذا كانت المعرفة تعزز القوة وتنميها، وتخلق الإطار القيمي الصحيح لممارسة القوة فهذا ما فعله الباسل بالذات ، اكتساب ونشر المعرفة النظرية عن القضية والأرض وفكرة الاحتلال والحرية وفي نفس الوقت التأكيد على تزويد المعرفة النظرية بمخالب وأنياب، أدرك الباسل أن المعرفة وحدها لا تحقق شيئا إذا لم تتزود بوسائل تحويل الإمكانية الفكرية والتاريخية إلى إمكانية واقعية وممارسة ملموسة عبر إجادة استخدام السلاح وأساليب القتال وتكتيكات المقاوم المقاتل.وتلك هي معرفة القوة بمفهومها النظري وتقنيتها العملية.

نجح باسل في شهور قليلة في تقديم قراءة صحيحة وصائبة وجذرية لنظرية المقاتل الثوري المسلح بالمعرفة، التي بدونها يخطئ الرصاص هدفه حتما، وهي التي تعطي الرصاص إطاره الحاضن ذو المعنى، فكان نموذجا حيا، ودليلا حازما غير قابل للنقض على تزاوج جدلي بين الممارسة والنظرية، وهدم الجسور بين التنظير المستسلم للدعة والراحة والانخراط المباشر في عملية ثورية انتهت باستشهاده. ففي مجتمع مستعمر تصبح الثقافة البرج-عاجية بلا قيمة، المثقف الحقيقي والمطلوب والمسموح به هو المثقف المشتبك قولا واحدا. وهذا كما قلنا يشترط وعي قواعد الاشتباك في أكثر نظرياتها تعقيدا وأصغر تقنياتها وأدواتها على حد سواء.

أعاد باسل الاعتبار لنظرية معسكر الأعداء والأصدقاء، وذكرنا من جديد أن المعركة ليست على اطلاقية عرب ومسلمين ويهود، بل بين مجال اضطهاد ومجال مضطهدين، مجتمع استعمار ومجتمع تحرر، ينطوي في سياق الأول كل القتلة والمستعمرين والقامعين، على اختلاف أديانهم وعروقهم وألوانهم، وينطوي في الثاني كل المقموعين والمظلومين وطالبي الحقوق. وهو بهذا أوقف الأمر على قدميه من جديد.

في حفظ الشهيد ووصيته

كيف نؤسس على ما ترك لنا؟

يشكل بؤس الحال الفلسطيني بكل ما يحمله سياسيا في زمن اوسلو الرديء، إغراءاً حقيقياً لأحباء الشهيد للانزواء وتذكره كغريب عن هذا المرحلة، وعن قيم الهزيمة الراسخة لدى سدنتها، ولكن ابن الولجة استدرجنا فعلا لما أراد رغم أنوفنا، إلى الأمل والاشتباك، فوصيته تلزمنا باشتباك كبير لإنجاز تشييعه ودفن جثمانه كما أراد، بعرس وطني واشتباك مع الاستيطان الذي يلتهم معظم قريته، ومعركة استرداد جثمانه تلزمنا بالالتحام مع عوائل الشهداء المحتجزة جثامينهم، والاشتباك مع الاحتلال في هذا الملف، ومعايشة تلك الروح الوثابة التي أنبتت مثل هؤلاء.
وحين كان مجردا من كل سلاح، في زنازين من اختاروا أن يكونوا أداة قمع يستخدمها عدونا ضدنا كيفما شاء، اشهر إرادته سلاحا، لنتذكر جميعا انه لا يحق لنا أن نحني رؤؤسنا ونترك محاكمته تمر بعد استشهاده، وانه لا يمكننا تكرار دس رؤؤسنا في الرمل كما فعلنا طيلة عام من اعتقاله ومطاردته وصولا لاستشهاده.

حين قرر باسل الاشتباك  وصاح بنا المرة تلو المرة" جاي جاي الاشتباك"، مبشرا بانتفاضة لا تنتهي إلا بدحر الاحتلال، كان يدرك إن كل عوامل القوة المادية المباشرة تقف في صف عدونا، لكن قراره كان تجسيدا لفلسفته بالاشتباك، التي تجرعها من عملية التدريب والتعلم الذاتي لإرث المواجهة بين الشعوب والمنظومة الاستعمارية، مراهنا على انتصار الشعوب بتوظيف العوامل غير المحسوسة، الزمن، الإرادة، التصميم، الإيمان، نزعاتنا الفردية وهزال إرادتنا كانت نقاط ضعف تغلب عليها الشهيد بدمه المتقدم، كعامل وركن أساسي في معادلة المواجهة مع المحتل وتكبيده الهزيمة الضرورية لنيل حريتنا.

في المواجهة مع ثقافة الهزيمة، مع اليأس، مع القوة المادية، والارتهان للاحتلال، وضع باسل معادلة، كرس حياته وتجربته المعرفية لها، وهي استحضار كل عوامل القوة الضرورية لهزيمة الاحتلال، مستحضرا كل نماذج المواجهة والاشتباك في سير الشعوب وفي تاريخ الشعب الفلسطيني، ليضعها كرصيد ومخزون لأدوات وأسلحة المواجهة مع العدو الصهيوني، واختتم كل هذا التحضير ببطولته المتفردة.

و في نبشه في ثنايا تاريخ شعبه وأرضه ومقاومته، حرص باسل على تسليط الضوء على القضايا الغائبة أو المغيبة، محرضا على فهم كل أمر في سياقه الصحيح، مظهرا لنا كيف أن أكثر الأفعال المثيرة للسخرية في تراثنا إنما كانت أفعال مقاومة شعبية لاتلين  محرضا على المعرفة المرتبطة بالواقع والاندماج بالناس. فالتراث والمعرفة الشعبية وممارسات الناس اليومية في تكيفهم السلبي مع وجود المحتل ليست أمورا هامشية ولا تقل قيمة عن تنظيرات الأحزاب وفتاوى الفقهاء.

ذلك الصديق وضع دمه وروحه واستشهاده كسلاح حاسم وعنصر ترجيح لكفة شعبه في المواجهة مع الاحتلال، وحين ركز أدعياء الاستسلام يخيرونه بين السلة والذلة، حاصرنا واحرق كل سفن الهروب والاستسلام التي قد نرتجيها في ضعفنا، مشهرا موقفه ودمه، بأن هيهات منا الذلة، فمهما وعرت الطريق وتتابعت النوائب، هل يجرؤ أحدنا أن يعود قائلا لباسل إنها ضرورات المرحلة؟