Menu

قصف "الشعيرات" ووثيقة "حماس" وخصم الرواتب

هاني المصري

هاني المصري

هل أكتب عن القصف الأميركي على قاعدة "الشعيرات" السورية، أم عن وثيقة "حماس" الجديدة، أم عن مجزرة خصم رواتب موظفي غزة؟

يبدو للوهلة الأولى أن هذه الأحداث منفصلة عن بعضها البعض، لكنها في الحقيقة خلاف ذلك، فالقصف الأميركي لسوريا، الذي يذكرنا بكذبة أسلحة الدمار الشامل العراقية، حدث دون تفويض دولي وقبل التحقيق في مجزرة "خان شيخون" لمعرفة من الطرف الذي استخدم الكيميائي والذي يستحق العقاب أيًا كان، ما يدل على أنه حدث مخطط له، وإذا لم يكن مدبرًا وجاء ردة فعل ونوعًا من التهوّر، فهو حدث ستكون له تداعياته الكبيرة كونه موجّهًا ضد روسيا أكثر مما يستهدف نظام بشار الأسد، في محاولة لتحجيم دور روسيا وإبعادها عن إيران، لذا هو حدث مفصلي تريد إدارة دونالد ترامب أن تقول من خلاله إنّ قواعد اللعبة قد تغيّرت، وما كان ممكنًا في عهد باراك أوباما ليس جائزًا في العهد الجديد.

وقد تكون الضربة مقدمة لتداعيات وتطورات خطيرة في سوريا تفتح الباب لتدهور العلاقات الأميركية  الروسية، والأميركية الإيرانية، وربما تؤدي إلى توسيع نطاق الحرب الدائرة هناك، أو تسرّع في إنضاج التسوية التي تحفظ حصص الأطراف والدول المتحاربة والمتنازعة، وتمنع النظام من قطف ثمار التطورات الميدانية التي أنجزها في الفترة الأخيرة، لا سيما أنّ هناك مخططًا ترامبيًّا وجد التشجيع من التمويل العربي السخي يرمي إلى وضع حد للنفوذ الإيراني ويساعد على مدّ النفوذ الإسرائيلي من خلال التطبيع مع العرب، واستغلال الفرصة لفرض الحل الإسرائيلي للقضية الفلسطينية. فإسرائيل تريد منطقة آمنة في سوريا تمنع اقتراب من تعتبرهم أعداءها من الحدود، وتريد الاعتراف بضمها للجولان، إضافة إلى دور مركزي لها في خارطة الشرق الأوسط الجديدة. وفي هذا السياق يتضح الترابط بين ما يجري في سوريا وفلسطين، لدرجة يمكن معها القول: إذا ضاعت سوريا ستضيع فلسطين، وإذا صمدت ستصمد فلسطين.

أما وثيقة "حماس" السياسية، فجاءت متأخرة، ولو جاءت أبكر وحوت تغييرًا أكبر في مرحلة صعود الإخوان المسلمين والرهان الأميركي على الإسلام المعتدل كانت ستجعل "حماس" طرفًا معتمدًا لتمثيل الفلسطينيين، ولفتحت أبواب البيت الأبيض أمام خالد مشعل. فالوثيقة أقل مما هو مطلوب من "حماس" بكثير، وهذا جيد، وجاءت في وقت هبوط الإخوان المسلمين، وتدهور علاقات "حماس" العربية والإقليمية باستثناء تحالفها مع قطر وتركيا، اللتين ترتبطان بعلاقات جيدة مع إسرائيل، ما يعني أن أقصى ما يمكن أن تحصل عليه "حماس" الحفاظ على سلطتها في قطاع غزة كما هي عليه الآن ضمن معادلة "هدوء مقابل هدوء"، وإذا أرادت أكثر فعليها أن تقدم أكثر في مجال فرض الهدوء، وهدم الأنفاق الهجومية، ووقف بناء المزيد منها، وعدم تطوير سلاح المقاومة، وخاصة الصواريخ، وصولًا إلى الاستعداد للاعتراف بإسرائيل والالتزام بالاتفاقات السابقة وشروط اللجنة الرباعية الظالمة.

لا تريد "حماس" الوصول إلى هذا الحد لأسباب دينية وسياسية وأيديولوجية من دون ضمان الحصول على إنجازات حقيقية، وإن فعلت ذلك تكون قد خرجت من جلدها، ولا تعود "حماس" التي نعرفها.

على "حماس" أن تحذر من مواصلة طريق إعطاء الاهتمام للحصول على الاعتراف الدولي و"الإسرائيلي" من خارج المنظومة السياسية الفلسطينية، فهو يؤدي إلى ضياع كل شيء دون الحصول سوى على الفتات، لذا أقصى ما يمكن أن تحققه مما أقدمت عليه تثبيت سلطتها الانفرادية في غزة، وهي لن تكون دولة، حتى لو سميت كذلك، تمامًا مثلما هو الحال في الضفة معازل ضمن حكم ذاتي. فالدولة تعني سيادة، وسيطرة على الأرض والسكان والموارد والحدود والأجواء والمياه الإقليمية، وحرية حركة، وجيش يدافع عنها، وكل هذا لن تسمح به إسرائيل إلا مجبرة، وموازين القوى الحالية والوضع الفلسطيني والعربي الحالي لا يجبرانها على ذلك، بل يفتح شهيتها للحصول على المزيد من التنازلات الفلسطينية والعربية، لدرجة أن نتنياهو وترامب يتصوران إمكانية فرض حل تصفوي على الفلسطينيين.

 اعتدال "حماس" مطلوب وطنيًا بما يؤدي إلى استعدادها للتخلي الفعلي عن سيطرتها الانفرادية على قطاع غزة، مقابل تخلي "فتح" فعليًا عن هيمنتها على مكونات النظام السياسي الفلسطيني، وإلى المساهمة في إعادة الاعتبار للقضية الوطنية وطابعها التحرري، من خلال الاتفاق على برنامج القواسم الوطنية المشتركة الذي يحفظ الحقوق الوطنية الفلسطينية، ويستند إلى ما يمكن تحقيقه حاليًا للوصول للحل النهائي، ويفتح طريق الفعل السياسي المؤثر لجهة إنهاء الانقسام وإعادة بناء مؤسسات المنظمة لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، في إطار تجسيد مشاركة سياسية حقيقية تضمن أن تكون المنظمة قولًا وفعلًا الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.

وعلى "حماس" مع حقها في الاحتفاظ بأبعادها الفكرية أن تقيم مسافة كافية بينها وبين جماعة الإخوان المسلمين، ليصبح طابعها الوطني وكونها جزءًا من الحركة الوطنية الفلسطينية هو الطابع الأساسي وليس الجمع بينه وبين كونها امتدادًا لجماعة الإخوان المسلمين.

إذا كانت "فتح" والقيادة الفلسطينية لم يحققا الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية في ظروف أفضل مما هو قائم الآن رغم كل التنازلات الجسيمة التي قدّمت، فلن تستطيع "حماس" إذا سارت على خطى "فتح" أن تحقق أكثر في هذه  الظروف. لذا، مطلوب من "فتح" و"حماس" والكل الفلسطيني الإدراك أنه ليس بالإمكان تحقيق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية في ظل الوضع الفلسطيني الراهن، وإنما هناك مخاطر محدقة بضياع ما تبقى من مكاسب وحقوق وإنجازات وصمود للشعب للفلسطيني إذا لم يتم إنهاء الانقسام، على أساس رؤية وطنية شاملة، وإستراتيجية نضالية وسياسية، ومؤسسة وطنية جامعة، وقيادة واحدة. وهذا الطريق رغم صعوبته وثمنه أقل صعوبة وتكلفة من أي طريق آخر، وخاصة الطرق المعتمدة من طرفي الانقسام.

أما قضية خصم الرواتب، فهي أشبه بالذي يطلق الرصاص على قدميه، ويتصوّر أنه قادر على تحقيق أهدافه المتمثّلة بإخضاع "حماس" وإعادتها إلى مظلة السلطة، مع أنه يقدم لها دون أن يدري، من خلال معاقبة أنصاره وموظفيه، خدمة بتخفيف مسؤوليتها عما يعانيه القطاع. فإذا كانت هناك أزمة مالية للسلطة، وهذا صحيح، ويمكن أن تتفاقم كسبيل للضغط عليها لتمرير الحل التصفوي؛ فليتحمل أعباءها الجميع في الضفة والقطاع، وإذا كان خصم الرواتب يرجع إلى ضغوط خارجية، أميركية وإسرائيلية، فالخضوع يفتح الباب أمام المزيد من الضغوط، وبما يؤدي إلى تعميق الانقسام وتحويله إلى انفصال وليس استعادة غزة إلى حضن الشرعية.

وإذا كان الأمر يعود إلى محاولة معالجة الوضع الشاذ الناجم عن وجود عشرات الآلاف من الموظفين في بيوتهم، فهذا نتيجة قرار اتخذته السلطة، يستوجب محاسبة من وقف وراءه، ولا يحل بمعاقبة الملتزمين بالقرار، وإنما بالعمل الجاد لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة وحل قضية الموظفين ورواتبهم حلًا شاملًا، من خلال إعادة بناء الهيكل الوظيفي والإداري للسلطة على أساس الاحتياجات والأولويات والمصالح الفلسطينية، وبما يجسد معايير الكفاءة والإنتاجية والمهنية والوطنية بعيدًا عن الحزبية والعائلية والفئوية والجهوية.

ولمواجهة الأزمة المالية، يمكن اتخاذ إجراءات تقشّفية تطال الموظفين الذين ليسوا على رأس عملهم  (هناك مصادر أفادت بأن عددهم يصل في الضفة إلى 14 ألف موظف) وبعضهم يزاول وظائف داخل البلاد وخارجها، وتخفيض امتيازات وسفرات وبدلات وسيارات المسؤولين (وكوبونات البنزين) وأصحاب الرواتب والرتب العالية، فلا يكون الحل باستهداف الموظفين الصغار، أو منطقة بعينها رغم أنها تعاني أكثر من غيرها من الاحتلال والعدوان والحصار والانقسام، ودفعت أثمانًا غالية جدًا تجعلها بحاجة إلى تعامل خاص يمكّنها من الصمود ومواصلة دورها المميز في مسيرة النضال الوطني