Menu

لماذا استباحة لقمة العيش لأهل غزة

صلاح محمد

بقلم / صلاح محمد

 إن ما يعانيه سكان قطاع غزة من عذاب لا يماثله أي عذاب يتعرض له باقي أهل فلسطين، سواء في الضفة الغربية أو في المناطق المحتلة عام 48، مع الإنتباه لوضعها الخاص، أو في الشتات، مع الإقرار بالقواسم المشتركة من المعاناة بفعل سياسة الكيان الصهيوني الإجلائي الدموي، ونتائجها في المستويات المختلفة والمواقع الجغرافية المتعددة... لكن قد كتب على أهل القطاع هذا الجزء العزيز والمتمايز من فلسطين التاريخية،  أن ينفردوا بالعشرية الأخيرة بأشكال إضافية من المعاناة القهرية، التي طالت كل مناحي حياتهم، بل باتت تهدد وجودهم كبشر، في هذا الإطار قد أشارت بعض تقارير هيئات الأمم المتحدة ذات الصلة: بأن القطاع لا يصلح للحياة الآدمية إذا استمرت حالته على ما هي عليه، رابطة هذه الخلاصة بالوضع الكارثي للمياه، حيث يفتقد أهل القطاع بغالبيتهم العظمى للمياه الصالحة للشرب.

وهذا الأمر على صلة بالسياسة الممنهجة للكيان الصهيوني : حيث لجأ فور احتلاله لقطاع غزة في حزيران عام 1967، إلى تركيب آلات لشفط المياه على حدود قطاع غزة، ومن ثم تحويله إلى داخله، إضافة إلى أساليب أخرى استهدفت حياة المواطن الفلسطيني، مثل إغراق القطاع بالمخدرات، والجرذان المتوحشة، منذ الأيام الأولى لإحتلاله وصولا إلى محاولاته المستمرة لإختراق وتكسير الوعي الوطني لفئة معينة من الفتية من الجنسين، وهو ما أفشلته قوى المقاومة إلى حد كبير... الخ، إن سكان القطاع الذين يعيشون في بقعة جغرافية من فلسطين التاريخية لا تتجاوز مساحتها 360 كيلومترمربع، ويسكنها ما يقارب من مليوني نسمة، مسجلة أعلى كثافة سكانية في العالم، قد تحول هذا القطاع في العشرية الأخيرة إلى أكبر سجن في العالم، حيث يطوقه الحصار من الجهات الخمسة، يدركون بأن ما يتعرضون له يتمثل سببه بأن قطاعهم قد أصبح على طول عقود الثورة الفلسطينية المعاصرة، مصعنا للرجال، للمقاومة. بهذا السياق لقد صرح الجنرال موشا ديان وزير الحرب الصهيوني الأسبق ذات يوم في منتصف السبعينات من القرن الماضي، بأن جيش الإحتلال يحكم قطاع غزة في النهار، ويحكمها  "الإرهاب" أي رجال المقاومة في الليل، ثم كان لرابين رئيس حكومة الإحتلال الصهيوني الأسبق تصريحا بفترة لاحقة: بأنه يتطلع لذلك اليوم الذي يستيقظ به من نومه ويرى أن البحر قد ابتلع قطاع غزة مع سكانه.. ومع كل ما تعرض ويتعرض له هذا القطاع الشامخ بكرامته ووطنية سكانه من حصار، وحروب عدوانية صهيونية، ووضعه بشكل دائم وسط مربع النار، بحيث لا يمر يوم بدون عدوان على مزارعيه على قلة الأراضي الصالحة للزراعة، "بفضل" نوعية الأسلحة التي يستخدمها الجيش الصهيوني، وكذلك الحال بالنسبة لأولئك الأبطال صيادي الأسماك الذين يتعرضون للملاحقة النارية القاتلة لهم ولقواربهم البدائية، من قبل زوارق الإحتلال، المحاصرين أصلا من خلال تحديد مسافة الحركة في البحر بحيث لا تتجاوز3 ميلفي البعد عن الشاطئ..الخ. إن الحديث عن وقائع المعاناة التي يعيشها يوميا سكان القطاع تكاد لا تنتهي... إذا كان ذلك مرتبطا بالسياسات الممنهجة للكيان الصهيوني فما رأي القارئ بالأشكال المضافة من المعاناة في هذه العشرية الناتجة عن الإنقسام، ومن قبل فريقي الصراع على السلطة الوهمية، ومن العديد من ممارسات حركة حماس التي ساهمت بشكل أو بآخر بالتضييق على معيشة المواطن الغزاوي بفترة حكمها للقطاع.

قرار سياسي بعباءة الأزمة المالية: لقد اتخذت الحكومة الفلسطينية قرارا بخصم  ثلث الراتب بالحد الأدنى لكافة موظفيها،  والعاملين المحسوبين عليها بقطاع غزة، بالتالي قد شمل هذا القرار أوسع الفئات الإجتماعية والأسرية، كانت الحيثية الملازمة له، مرماة على الأزمة المالية، هكذا كان صدى هذه الحيثية بمثابة الإستفزاز الإضافي، لأن المقصود بهذه الخصومات الفجائية بهذا الحجم من الرواتب هم سكان القطاع فقط.. غريبة حكومة الوفاق الوطني ؟ وهي التي تتكلم دوما عن تعزيز صمود القطاع وتوجهي الدعم الدائم للمحافظات الجنوبية من "الوطن"، فالمواطن الفلسطيني يعلم أن غالبية سكان القطاع تعتمد بشكل كلي في إدارة شؤون حياتها اليومية على الراتب وعلى المساعدات الخارجية، هذه هي أركان الإقتصاد "الوطني" لسكان القطاع، بالتالي لا مجال للحديث عن صناعة أو مؤسسات إنتاجية تكون حكومة الوفاق الوطني قد أنجزتها لتحسين وضع العمالة في القطاع، بل إنه مكون وكما يبدو لم تفكر به حكومتنا، في هذا السياق هناك مجموعة من الأسئلة تبحث عن إجابة من سيادة حكومة الوفاق: أولا: لماذا قطاع غزة فقط كان معنيا بهذا القرار؟ ولماذا لم يشمل نظارئهم في الضفة الفلسطينية؟ مع ملاحظة أننا لا نتمنى ذلك من حيث المبدأ، لأن المعاناة من سياسة وقهر الكيان الصهيوني موحدة وموزعة، ثم لماذا الآن يتم إتخاذ القرار الكارثي؟ هل يمكن إنتزاع أو فصل هذا القرار "المالي " عن المناخ السياسي الذي يحيط بالقضية الوطنية، وبالذات عن تلك المخاطر التي تواجهها، إذا كان هذا القرار قد فرضته "الأزمة المالية" فلماذا لم يشمل القرار على الأقل بعض المكونات الأساسية التابعة للحكومة: مثل المؤسسة الأمنية بكل عناوينها، وهنا يحضرني ما صرح به أحد أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح عشية المؤتمر السابع في لقاء له مع التلفزيون الفلسطيني وقوله إن السلطة الفلسطينية تنفق على الأجهزة الأمنية أكثر مما تنفقه على التربية والتعليم الفلسطيني...  ولماذا لم يشمل هذا القرار السفارات الفلسطينية في الخارج، وعن آخر قرارات وزارة خارجيتنا المتعلق بعشرات السفراء، وهي قرارات نقيضة تماما للتقشف ..الخ ، ويمكن للسيد الرئيس أبو مازن أن يسأل السادة السفراء الفلسطينيين في لقائه معهم بالبحرين بعد أيام قليلة عن تلك القرارات ... هذا جزء من تلك الأسئلة الباحثة عن أجوبة قد فرضها القرار المالي الذي لا يدعم إطلاقا صمود أهل غزة بل عكس ذلك .. في الواقع هناك تداول فلسطيني داخلي، وإعلامي أيضا حول الأمور التالية: أولا: لقد طلبت إدارتي الكيان الصهيوني والأمريكية من قيادة السلطة الوطنية قطع الرواتب والمساعدات عن الأسرى الفلسطينيين وعن أسرهم، لأن هؤلاء المناضلين يعتبرون "إرهابيين" من وجهة نظر الإدارتين، هذا المطلب يترافق مع الضغوطات والتهديدات إما بقطع المساعدة الأمريكية، أو إيقاف عائدات الضرائب على البضائع الفلسطينية والتي تتحصل عليها الإدارة الصهيونية، ولفترة قريبة نجح هذا الضغط على السلطة الفلسطينية في إلغاء وزارة شؤون الاسرى حيث استبدلت بهيئة سؤون الأسرى والفرق كبير بين هذه وتلك، وصولا إلى إعتبار الصندوق القومي الفلسطيني مؤسسة إرهابية من قبل بعض مكونات الحكومة الصهيونية، ثانيا: لقد طلب الإتحاد الأوروبي كما تفيد أيضا المصادر الفلسطينية من حكومة الوفاق الوطني، بإتخاذ هذا القرار المالي إتجاه تلك القطاعات الواسعة في غزة وإلا سوف يتم إيقاف الدعم المالي، أي هناك تناغم مع البيت الأبيض. ثالثا: الحديث عن دولة فلسطينية في غزة: بهذه الوجهة هناك خطان، الأول هو الحديث المتتالي لرئيس الحكومة الصهيونية نتنياهو، عن: أن لا دولة بين النهر والبحر إلا الدولة الصهيونية، بالتالي يطرح إدارة مدنية ذاتية في الضفة الغربية، مقابل الإعتراف الفلسطيني بيهودية الدولة، والمعطيات بالمعنى العملي تسير بهذا الطريق: إستيطان متسارع يقضم كل ما هو أمامه من الأرض، شمل منظقة الغور، تهويد القدس .. الخ،  يتكئ نتنياهو الآن على علاقاته مع جزء هام من المؤسسة العربية الرسمية، بالتالي أصبحت "المبادرة العربية" مقلوبة بالنسبة له أن هناك خطوات ملموسة للتطبيع العربي معه، ثم بعد ذلك يفرض رؤيته على الفلسطينيين، بالتجاور مع هذا المعطى يجري الحديث عن دولة فلسطينية في غزة أو شيء من هذا القبيل، آخذ في التكون بشكل موضوعي في القطاع. حركة حماس ليست بعيدة عن الإستثمار في هذا الحقل، كما أن القرار المالي لن ينجح في الإستثمار ضدها، ولديها أكثر من جسر للنقاش غير المباشر للأفكار أو المقترحات عبر التركي والقطري، تلك الدولتين "متحمستان" لهذا الترويض المتدرج بالوكالة أيضا ... بالتالي إلى أين يدفع الناس بعد القرار المالي، إلى اليأس من الحالة الوطنية أم إلى الفوضى في وجه حماس كما يعتقد البعض خطأً، أم إلى الترحيب بهذا الحل أو ذاك، هل تحصد حركة حماس الفائدة منه، هل يريد أصحاب القرار المالي الطلاق البائن من قطاع غزة، رابعا: هل الرئيس أبو مازن يعلم أو لا يعلم بهذا القرار، بالتأكيد إنه المسؤول الاول عن هذا القرار، بالتالي لا أحد قبله أو بعده مسؤول عنه، والحكومة الفلسطينية برئاسة السيد الحمدالله مؤسسة تنفيذية، وهنا يتسائل البعض الفلسطيني عن علاقة هذا القرار بزيارة السيد الرئيس أبو مازن لواشنطن ومن ثم لقائه بالرئيس ترامب، يوم 14/04/2017، هل يعقل أن تكون الحكومة الفلسطينية والسلطة الوطنية ككل، بهذا المستوى من الإستجابة للمطالب وللضغوطات الخارجية، بل والرضوخ إلى العامل الإقتصادي أساسا، وإذ كنا نعلم بقساوة الوضع الفلسطيني، وطبيعة الرياح التي يتعرض لها بين الفينة والأخرى، لكن مهمة المكونات الفلسطينية جميعها بالسعي لتغيير وظيفة السلطة الفلسطينية، ضمن الإتفاق على برنامج وطني تحرري وإستراتيجة سياسية جديدة، لأن القضية التحررية الفلسطينية والحقوق والثوابت الوطنية أكبر من الضغوطات الإقتصادية. وفي الموضوع المحدد كمؤشر لحالة التعاطي مع الضغوطات بدلا من رفضها، ولمأساوية نتائج هذا القرار المالي على مجمل النسيح الإجتماعي، وعلى صمود أهل القطاع، يفترض العجالة بإتجاه إلغائه، فليكن ذلك أولى رنات قرع جرس رفض الإنكسار، إنها بطبيعة الحال مهمة الوضع الفلسطيني: الشارع الوطني، والقوى جميعها لإسقاط هذا القرار.