Menu

المجازر المستمرة.. لمصلحة من؟!

تعبيرية

بقلم: د. وسام الفقعاوي و أحمد م. جابر

 لم تكن مجزرة الرواتب في غزة هي الضربة الأولى، ولكنها كانت القشة الأخيرة التي عرّت، ليس سلطة أوسلو في رام الله، فهي عارية منذ زمن طويل، وكشفت عوريها منذ أن قبلت أن تتجاوز أهدافها الوطنية الممثلة بالتحرير والعودة والاستقلال، ودخلت إلى قطار التسوية، وفق الرؤية الأمريكية – الصهيونية، في ظل تبدلات وتغيرات شهدها النظامين الدولي والعربي آنذاك، كانت مجافية بكل ما تعنيه الكلمة، لتحقيق أي من الأهداف الفلسطينية، حتى تلك التي درج على تسميتها بالبرنامج المرحلي/القواسم المشتركة/الثوابت الوطنية، مرورا باعتراف القيادة المهيمنة على منظمة التحرير الفلسطينية "بحق إسرائيل في الوجود"، وصولًا لأول عملية اعتقال وملاحقة للمقاومين الفلسطينيين وتسليم بعضهم للعدو، بل إن ما حدث مؤخرًا من تطورات سريعة في انهيار السلوك السياسي للسلطة وطنيًا عرى طبيعة علاقة أُريد لها أن تبقى مكتومة ومستورة، علاقة مشروخة تمامًا وآيلة للانهيار التام بين فريقين ليس فقط عموديًا بين (جزء من الوطن/الضفة والقطاع) وأفقيًا أيضًا، بين فلسطيني قرر الانغماس في المشروع الصهيوني، وتذويت الذات في قبوله والالتحاق النهائي به، والتحول إلى أداته القذرة، وبين فلسطيني قرر، أو آن له موضوعيًا أن يقرر الانصراف تمامًا إلى مقاومته، والعمل على تدميره.

 الجدل الذي أثير بالأمس وأول من أمس حول مجزرة الرواتب التي أقدمت عليها قيادة السلطة، وربطها بتسريبات لموقع صهيوني (لم يتحقق من صحتها، وإن كان المعلن يشي بشيء منها أو كلها) يكشف هذا الجدل فعلًا أين وصلت الأمور بالسلطة وكيف هو شكل التوقعات منها؟ ليس مهمًا على الإطلاق التأكد من صحة ما سربه الموقع الاستخباري الصهيوني، فهي أمور قديمة، طالما صرح بها القادة الصهاينة وسياسيو تل أبيب، تجاه المطلوب من السلطة الفلسطينية والمطلوب من الفلسطينيين في طريق اخضاعهم تمامًا، ذلك كان جدلًا عقيمًا إذا تركز على صحة التسريبات من عدمها، ولكنه جوهري بالتركيز على المحتوى إذ نعلم يقينًا أن الكيان الصهيوني يعمل مع السلطة الفلسطينية أمنيًا على مستوى (كمبيوتر واحد) ولكنه مفتوح من جهة واحدة للقراءة ومن الجهة الأخرى فقط لتدفق المعلومات، في هذا السياق يأتي ما قيل أنه البند الخامس من التسريب، المتعلق بمناهضة المقاومة وسجن المقاومين، وكان الصهاينة (اشتكوا) مما قالوا أنه الباب الدوار الذي يتيح لمن تعتقلهم السلطة التفلّت والعودة إلى (الإرهاب) ونعلم أن هذا ليس صحيحًا، وإنما هو نوع من الضغط للحصول على المزيد والمزيد. يورام كوهين رئيس الشين بيت السابق كان واضحًا في مقابلته الحديثة والأولى للإعلام (نشرت بوابة الهدف أمس أهم ما فيها)، منذ تركه المنصب: "يجب على السلطة الفلسطينية محاكمة المقاومين ضمن قانون الإرهاب وليس قانون الإضرار بالمصالح الوطنية"، تحدث كوهين أيضًا عن الأسرى ومخاطر إطلاق سراح (إرهابيين من العيار الثقيل) كما قال، "وكيف يجب أن تتصرف دولة الاحتلال تجاه هذا الأمر، بل وصف التعاون الأمني الكامل مع السلطة التي تتعاون بشكل ممتاز وأنقذت حياة إسرائيليين على حد قوله"، وكأن الصهاينة لا يكتفون بالسلوك المباشر من تسليم المقاومين وإطلاق سراحهم إلى مخالب الدوريات الصهيونية بل والصمت المطبق على الجرائم التي يرتكبها الجنود والاغتيالات، وليس آخرها جريمة اغتيال الفدائي/المثقف المشتبك: باسل الأعرج تحت سمع وبصر رجال أوسلو. هذا من جهة، أما من جهة أخرى، حضر أيضًا موضوع المناهج القديم الطرح قدم أوسلو، وقد جرت محاولات لتغيير المناهج سابقًا أيام الراحل ياسر عرفات ، ولكن نشهد اليوم إقدام وكالة غوث وتشغيل اللاجئين على طرح مجزرة مناهج التدريس في مدارسها، متذرعة بأن المناهج تلتزم بها وتتفق فيها مع السلطة ومناطق سلطتها والتزاماتها، بحيث تهدف من وراء مجزرة التغيير "استكمال" خلق وعي فلسطيني جديد، قائم على تزوير وتزييف التاريخ والحاضر ويؤسس لمستقبل يسلخ فيه الفلسطيني عن فلسطينيته وحقوقه التاريخية فيها، وكانت هذه المجزرة بدأت مع المحاولات الحثيثة لكي الوعي الفلسطيني منذ "اتفاق اوسلو"، واستمرت بخطى حثيثة إلى الجديد – الراهن على هذا الصعيد.

السلطة خاضعة أيضًا لموضوع الاستيطان ولا تكاد تحرك ساكنًا، واعترافها بالمطلب الأمريكي تجاه الاقرار بالتوسع الطبيعي مع تجميد الاستيطان الجديد يكاد يكون أمرًا واقعًا، خاصة إذا ما عرفنا أن 40% من مساحة الضفة الغربية، يبتلعها الاستيطان والجدار، ناهيك عن مناطق "C" التي تخضع للإدارة والأمن الإسرائيليين، وتمثل أكثر من نصف مساحة الضفة، أما مخصصات الأسرى وعائلاتهم فلا يمكن أن نتجاهل أنها الشغل الشاغل للصهاينة منذ زمن لدرجة طرح قانون في الكنيست ينص على اقتطاع المخصصات من مستحقات السلطة (قانون شتيرن)، ولولا اعتبارات داخلية في فتح لأقدمت السلطة على خطوات خطيرة بهذا الاتجاه، وبالتالي ليس لنا أن نتفاجأ إذا كانت مجزرة المخصصات تأتي في سياق عملية الخضوع المستمر للرغبات الإسرائيلية وهو مطلب قديم ومتجدد يستهدف تشديد الحصار على غزة، وتحويل الضغط من سياسي إلى اجتماعي إنساني، من أجل اخضاع فعلي، كما جاء بصراحة شديدة في تصريحات رئيس الوزراء الحمد الله الذي قال: "إن عملية الخصم مؤقتة وسيتم الصرف بقبول حماس مبادرة الرئيس". وأخيرا، لماذا يكون مستغربًا القول أن الإدارة الأمريكية تتبنى بالمطلق المطالب الصهيونية، ألم يكن انحيازها دائما مفضوحًا وعلنيًا وسافرًا؟! ما المفاجئ في الأمر؟! الأرجح أن ادعاء المفاجأة ليس سوى محاولة تضليلية جديدة مفضوحة بدورها، الموضوع إذًا ليس بحاجة لتسريبات، بل بحاجة إلى قراءة سليمة وعلمية ووطنية لوقائع الانهيار السياسي في السلطة الفلسطينية، ومن لا يرى هذا سيفاجأ بتسريبات صحيحة أو مزيفة، ولكن وقائع الحياة اليومية تغني عن كل تسريب، وآن الأوان لمواجهتها بحزم، فما يحدث ليس حبرًا على ورق استخباري، بل سكين يشق طريقه عميقًا في قلب القضية والوطن.

كل هذه المجازر وما قبلها وما سيأتي بعدها، تفترض أن تفتح أبواب جديدة للصراع على مختلف الجبهات الوطنية والسياسية والثقافية - الفكرية والتعليمية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والإعلامية، التي على كل القوى الوطنية والأكاديميين والمثقفين الوطنيين خوضها بكل ضراوة، لأن عدم خوضها أو الهروب من ضريبتها واستحقاقاتها أو الخشية من توابعها، بالمعنى الفئوي والشخصي، من قبل القوى والأكاديميين والمثقفين الوطنيين، باعتبارها عناوين لمعارك مصيرية، سيطرح سؤال كبير عن دورهم ومسؤوليتهم ووطنيتهم، وبالتالي مبرر وجودهم، لهذا الثورة حق.