هل انتقلت كرة النار والفتنة إلى الخليج، أم أن ما يحدث أزمة عابرة سرعان ما تجد حلًا؟ فجأة، تفجّر الخلاف ما بين قطر من جهة، والسعودية والإمارات والبحرين من جهة أخرى، بينما تقف الكويت وعُمان على الحياد، وتحاولان التوسط لحل الخلاف قبل أن يصل إلى قطيعة دائمة تفتح طريق الحرب حصيلة تراكمات منذ سنوات كثيرة ووصلت الآن إلى حد الانفجار.
لا ادّعي أنني على اطّلاع عميق حول أوضاع الخليج وما يجري هناك، لذا سأكتفي بالحديث حول بعض المؤشرات والمعطيات العامة.
سأبدأ باندلاع ما سمي "الربيع العربي"، وتحديدًا بعد تحوله إلى ربيع "إسلامي" بعد أن ركبت جماعة الإخوان المسلمين، وتحديدًا في مصر، الموجة الثورية، وسيطرت عليها بالتعاون مع إدارة باراك أوباما تطبيقًا لسياستها الرامية إلى تشجيع "الإسلام المعتدل" ضد "الإسلام المتطرف" على حساب الأنظمة العربية القائمة على مختلف أنواعها، بما فيها الأنظمة المتحالفة مع الولايات المتحدة، لأن هذه الأنظمة مستبدة ومتخلفة وفاسدة وهرمة ومترهلة، وأضيف من عندي وتابعة، ما أدى إلى وجود فراغ قيادي في المنطقة العربية إذا لم يتم ملؤه من عناصر وقوى معتدلة مسيطر عليها سيملأ من العناصر والقوى المتطرفة والإرهابية، أو الثورية والديمقراطية التي لن ترضى أن يستمر حال البلاد العربية على ما هو عليه، وستقيم لو انتصرت أنظمة مستقلة وطنية ديمقراطية.
نستنتج مما سبق أن الأنظمة المستبدة الفاسدة المتحكمة في العالم العربي على اختلافها، بما فيها الدول القومية "التقدمية" التي تنتمي إلى محور "المقاومة والممانعة"، أو تلك الأنظمة الرجعية التي تنتمي إلى محور "الاعتدال" تطرح الحاجة إلى ثورات عربية.
إن قوة هذه الأنظمة، وضعف البديل الوطني الديمقراطي، والتدخلات الخارجية الكبيرة والمكثفة، وتقدم جماعة الإخوان المسلمين وتحالفها مع إدارة أوباما، أدّت إلى تنافس ما بين الثورة والمؤامرة بين القوى الديمقراطية والقوى المستبدة التي تتغطى بالدين أو بالعسكر، ما أدى إلى تقدم المؤامرة وتراجع الثورة، وإلى ظهور "داعش" التي استخدمتها مختلف الأطراف العربية والأجنبية، بما فيها أميركا وفرنسا وإيران و تركيا والسعودية وقطر، ما ساهم بشدة في وصولنا إلى ما نحن فيه.
وهنا من المهم ملاحظة أن قطر التي كانت في محور "المقاومة والممانعة" قبل الربيع العربي الذي تحول إلى ربيع "إسلامي" قبل سقوطه، قفزت إلى المحور الآخر، ولكنها أرادت لكي تقوم بدور مميز أن تمسك العصا من المنتصف، وتحديدًا من خلال استمرار تحالفها مع جماعة الإخوان المسلمين التي تعهدت لأميركا كما قال السفير القطري في أميركا بعد اندلاع الأزمة الحالية، بترويضها، ومكنها تحالفها معها من لعب دور كبير، لأن الإخوان أكبر وأقوى تنظيم عابر للحدود في العالمين العربي والإسلامي، ما يعني أن قطر اختارت أن تكون رأس حربة المشروع الأميركي في عهد أوباما، لذا كانت العلاقات الأميركية القطرية "سمن على عسل"، بينما توترت العلاقات بين السعودية ومحورها وإدارة أوباما، ومن الدلائل على ذلك أن قطر كانت تتطلع إلى نجاح هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وحذرت من نجاح دونالد ترامب، بينما ساعدت ورحبت السعودية بنجاح ترامب.
في هذا السياق، يمكن أن نفهم ما يجري في الأسابيع الأخيرة، وتحديدًا منذ زيارة ترامب للمنطقة التي بدأها في السعودية، وتم خلالها تقديم شكوى له ضد قطر كما أعلن بعظمة لسانه. كما نستطيع أن نفهم أيضًا ما انتهى إليه الموقف الأميركي مما يجري، وعلى لسان ترامب وأركان إدارته، الذي كشف أنه من أعطى الضوء الأخضر للهجوم على قطر، مع حرصه على إبقاء شعرة معاوية معها حتى يحلب مواردها، ويجذبها إلى المعسكر الذي يشكله في المنطقة.
ما يحدث الآن أن السعودية اختارت أن تكون رأس حربة المشروع الأميركي في عهد ترامب، على أمل أن يساعدها ذلك في حربها الورطة في اليمن، ومنع وصول الحرب إليها، عبر زيادة الدور الأميركي في سوريا والعراق والمنطقة بعد أن اختار أوباما التراجع، الأمر الذي سمح لروسيا وإيران بالتقدم، وذلك للحد أساسًا من النفوذ الإيراني المتزايد، وصولًا إلى محاصرة إيران ونقل الأزمات والحرب إليها قبل أن تصل إلى السعودية.
أسوأ ما يحصل أن الجبهتين العربيتين المتنافستين وامتداداتهما الإقليمية تسعيان لكسب ود سادة واشنطن، ومن أجل ذلك لا بد من العبور لكسب ود سادة تل أبيب، لذا نلاحظ كل أشكال التعاون الأمني والسياسي والعسكري العربي الإسرائيلي التي بدأت بالتكاثر، ومسارعة كل طرف لاستخدام الورقة الفلسطينية لتعزيز نفوذه وتكبير دوره. فمن الصعب تطبيع العلاقات مع إسرائيل من دون حل، أو الإيهام بحل ما للقضية الفلسطينية. ومن يستعين بالشيطان الأميركي الإسرائيلي سيُصبِح عبدًا له، و"المتغطي بالأميركان عريان".
إلى أين يمكن أن تنتهي الأمور؟ لا أحد يعرف بالضبط. فالسعودية ضاقت ذرعًا بشذوذ الدور القطري، خصوصًا وهي مقبلة على مرحلة جديدة في علاقاتها مع إيران، بما يمكن أن يؤدي إلى حرب، وإلى تشكيل حلف ناتو (عربي إسلامي أميركي إسرائيلي).
هناك احتمالات عدة: الأول، أن تعود قطر إلى بيت الطاعة طائعة أو بعد انقلاب داخلي، أي تقبل بالشروط المقدمة إليها وهذا احتمال ليس سهلًا. والثاني، أن تمضي قطر أكثر نحو إيران وتركيا، وربما روسيا، لتحمي رأسها، وهذا قد ينقذها أو يفتح باب الحرب التي لن تخرج منها منتصرة. والثالث، أن تخضع ولكن ليس كليًا على غرار ما حدث في العام 2014، حين انحنت قطر لعاصفة قطع العلاقات معها، ولكنها لم تغادر موقفها وتحالفاتها جذريًا، وهذا احتمال لا يبدو أن السعودية مستعدة حتى الآن لقبوله.
مطلوب من قطر أن تغيّر سياسة مسك العصا من المنتصف، ووقف علاقاتها مع المجموعات الإرهابية، وتحديدًا وقف تحالفها مع الإخوان و"حماس" التي انساقت السعودية لدرجة وصمها بـ"الإرهاب"، رغم أنها حركة مقاومة للاحتلال. وهذا أمر صعب لأنه يعيد قطر إلى حجمها الطبيعي كبلد صغير.
وأخيرًا، ما هو الموقف الفلسطيني الأسلم؟
الفلسطيني صاحب قضية عادلة متفوقة أخلاقيًا، وهو يناضل لتحرير وطنه وتجسيد حقه في تقرير المصير وإنجاز استقلاله الوطني، لذلك لا يمكن إلا أن يكون إلى جانب حقوق الشعوب العربية في التحرر والعدالة والاستقلال والديمقراطية، ولكن ما يجري لا يدور بين قوى ديمقراطية وأخرى مستبدة، بل بين دول مستبدة تعتمد على الديكتاتوريات العسكرية أو الدينية، التابعة أو المزج ما بينها، لذا من مصلحة فلسطين كونها قضية جامعة ألا تنحاز لأي محور، وعليها أن تقترب من كل محور بقدر اقترابه من الحقوق الفلسطينية ودعمه للفلسطينيين في وجه المحاولات المتصاعدة هذه الأيام لتطبيق الحل الإسرائيلي، عبر دعوات التوصل إلى تسوية من خلال التطبيع العربي الإسرائيلي أولًا، وابتلاع الأرض وطرد السكان وتجميعهم في معازل، والضم الزاحف تمهيدًا للضم القانوني، واستكمال خلق الحقائق الاحتلالية على الأرض.
هناك من يقول إن المحور الإيراني هو الوحيد الذي لا تربطه علاقات صداقة مع إسرائيل، ولا يسعى لذلك، بل إن احتمالات صدامه معها تفوق الاحتمالات الأخرى، ولكن هذا الطرح يتجاهل أن لإيران مطالبها المشروعة كدولة إقليمية كبرى وكجار، وهذا صحيح، ولكن لديها أيضًا مشروعها الخاص وأطماعها التي تجعلها تسارع لأخذ حصتها من العالم العربي المريض والمشرذم من دون مشروع عربي يجمع العرب. كما تستخدم إيران في هذا السياق القضية الفلسطينية لخدمة المشروع الإيراني، وهذا لا يستدعي العداء لإيران ولا الانضمام إلى حلفها، لا سيما أن الإقدام على ذلك يسهل تحرر المحاور الأخرى مما تبقى لها من ارتباط بالقضية الفلسطينية.
كل خلاف عربي عربي دفع ثمنه الفلسطينيون سابقًا، وكل انحياز فلسطيني لمحور عربي ضد آخر دفع ثمنه الفلسطينيون مضاعفًا. فيكفي ما حصل بعد احتلال العراق للكويت، وما حصل بعد ما يسمى الربيع العربي، وهناك ما ينذر بذلك من خلال الانضمام الرسمي الفلسطيني إلى الحلف العربي الإسلامي الإسرائيلي الذي شرع ترامب في تشكيله بالرغم من تغيير الأولويات في المنطقة، بما يهمش القضية الفلسطينية، وكما يظهر بإعلان "حماس" منظمة إرهابية، ومن خلال استعداد الرئيس محمود عباس للانخراط في المحاولات الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية بدعوى تسويتها، بذريعة أنه عندما يكون لاعبًا يمكن أن يؤثر على قواعد اللعبة وأهدافها ونتائجها، ويمكن أن يراهن على قيام إسرائيل بإفشالها، والتحدي الذي يواجهه أن متطلبات البداية واستئناف المفاوضات تشمل دفع ثمن غالٍ مثل التخلي عن المطالبة بوقف الاستيطان، وإطلاق الدفعة الرابعة من الأسرى، والاتفاق على مرجعية وإطار دولي يواكب المفاوضات وعن خطة تدويل الصراع، ووقف ما يسمى التحريض الفلسطيني، والبحث في وقف دفع رواتب لعائلات الشهداء والأسرى والجرحى. فإذا كان هذا المطلوب منذ البداية فكيف ستكون النهاية!
الوقوف على الحياد إزاء المحاور المختلفة مستحيل من دون وحدة وطنية فلسطينية لا تبدو أنها في متناول اليد ما دامت القوى الفلسطينية المتصارعة غير مستعدة لدفع ثمن الوحدة، ومن دون الوحدة ستكون مخاطر تصفية القضية أكبر من فرص إنقاذها. الوحدة الوحدة الوحدة أولًا، لأنها ضرورة وليست مجرد خيار، بل أصبحت الوسيلة الوحيدة لإنقاذ القضية قبل ضياعها، فهل يتحرك الشعب لفرض إرادته بالوحدة قبل فوات الأوان؟