Menu

في الذكرى الـ45 على استشهاد غسان

تعبيرية

الأديب عدنان كنفاني شقيق الشهيد غسان كنفاني – عن فيسبوك

خمس وأربعون سنة يا أخي وأنت معي، منذ توَّجَتكَ المأساة خالداً في ضمير الناس، يوم نفضْتَ عنك غبار التعب، وصعدت إلى فضاءٍ أكثر رحابةً ونقاء، حيث شكلتك تضاريس النداءات رمزاً، وسَموتَ بدمائك وأنت تسخر، كما كنت تفعل أمام كل موقف صعب، ممن قتلوك.

في كلّ ذكرى، وعلى طريقٍ معبّد بقيم الوفاء، كنا، وفي كلّ سنة، نطرق معاً باب الذاكرة، نستنهض شجون الماضي الذي كان، نبوح بالقليل، ونسكت عن الكثير، الآن، وأنا أستميحك العذر، لن أسكت بعد اليوم عن أيّ حكاية وأيّ حديث وأيّ موقف وأيّ كلمة كانت بيننا، أذكرها كما أذكرك، وأراها تتدحرج مع تراكم السنوات، وتتجدّد كأنها الآن تُروى وتُقال وتحدث.

لن أسكت عمن ركبوا موجة خلودك، وتأبطوا اسمك سلّماً لابد يوصلهم إلى مكاسب ومنافع ومظاهر.

فهل كنت تعلم أن هذا القرار سيأتي مني.؟ أم أنني أستجيب لرغبات ملحّة لديك.؟

هل صقلتك الأيام وأرست في كينونتك القدرة على وضاءة الاستشراف، أم هي رتابة الأحداث تتشكل وتكبر ثم تسفح نفسها على قارعة الأحداث.؟

الآن يا أخي المتوّج رمزاً، أحسدك.!

غادرتنا في لحظة الزمن الجميل، كان الحلم نديّاً، على وشك أن يشقّ طريقا لينجلي مع فجر انتظرناه طويلاً، غادرتنا وفي عينيك قداسة ذلك الحلم، وكنتم تصوغون أبجدية الانتصار شرفاء صادقين باذلين.

لماذا بدوت لي يومذاك قلقاً.؟

كنا نجلس في الشرفة الصغيرة في بيت "أقرباء مقربين لنا" بيت "الأمّة" كما كان يحلو لك أن تطلق عليه، وتلك الابتسامة الرائقة تشم وجهك الوسيم بكثير من القداسة، ونبضات قلق أحسستها تنفر من جبينك.

في تلك الشرفة كنا نخرج معاً من سطوة التعب، نترك وراءنا الأعباء الثقال، ونتحرر من سلوك الرسميات، ونتحدث.. الكثير من تلك الأحاديث كانت تصلح لسرد ما لم يسرد من سيرتك، وتعبّر عن لحظات القلق الذي كنت تعيشه بين وقت ووقت.

لو تحرّرتُ من وعدي كنت سأروي عن هذه الـ "غادة السمان".. متى وكيف تعارفتما، والمناسبة التي جمعتكما لتتعارفا، وعن مقهى "الأوتوماتيك" في بيروت.! كنتُ سأروي حقائق لا يعرف عنها أحد، إلاك وهي وأنا، لكنني لن أفعل، الآن على الأقل، ولن أنكأ جروحاً تعبنا كثيرا حتى اندملت، لكنني أعدك أنني سأفعل عندما يصبح الظرف مناسباً.!

اقتربتَ مني وهَمَست: ما نتحدث به يبقى سرّنا الذي لن يعرف عنه أحد.

تنفّستَ عميقاً وقلت: هل تعرف السيد (م.ح).؟

عرفت السيد (م.ح) عن بعد ولم ألتقِ به يوماً..

ابتسم تلك الابتسامة الآسرة كلما أوشك أن يضخّ سخرية في شبكة حديثه:

جاءني في مجلة الهدف يعرض العمل فيها، وأعرف أنه صحفيّ جيد، وقبل أن أرد على طلبه سألني بتوثب: ليس قبل أن أعرف عن الدفع.! "وهو يقصد المردود المادي لقاء عمله"..

ابتسمتُ أكثر وقلت له: هل يرضيك أن تتقاضى كما أتقاضى أنا.؟

قال، وقد بدت فرحته: نعم وهذا شرف لي.. ولكن اسمح لي أن أسأل كم.؟

قلت له: بعد أن ننتهي من إعداد العدد، وتسويقه، نحسم الكلفة، ثم نتقاسم جميعاً الربح بالتساوي و.....، قبل أن أتمّ كلامي غادرني وهو يرغي ويزبد.

يا أخي، لولا أنه انتقل إلى الدار الآخرة لكنت صرّحت عن اسمه..!

يطوف القلق الحزين على جبينه، لكنه يتماسك، يقول لي: أن يصبح الانضمام إلى العمل النضالي والفداء مجرّد وسيلة للتكسّب كأيّ عمل وظيفيّ.. أول طريق الانحدار.

وأكبر المصائب أن يرتبط أيّ فصيل مقاوم بجهاتٍ مشبوهة للدعم والتمويل، ثم يصبح أسير قراراتها.

قلت: وماذا تفعلون، أنتم والفصائل الأخرى الآن.؟

عندما بدأت الخطوات الأولى تدقّ على درب الفداء، وعندما أصبحت (خيمة عن خيمة تفرق)، كان لأولئك المؤسسين هدفا واحدا، وبوصلة واحدة، كلها تشير إلى فلسطين، عملهم النضالي كان تطوّعاً دون أن يلتفت أحد منهم إلى مردودات ماديّة..

الآن يا أخي، في الذكرى الخامسة والأربعين على استشهادك.. أحسدك أنك غادرت قبل أن تلج، كما ولجنا نحن، هذا الزمن الرديء.

أرباب القرارات، أصحاب النعمة والقدرة هم الذين يدفعون معاشات عناصر "بعض" الفصائل، وعلى هؤلاء أن "يجاملوا" ولو كانت المجاملة على حساب الوطن.

لم تعد "الهدف" هي الهدف.. ولم تعد الخيانة وجهة نظر فقط بل أصبحت على خفق المنابر، وتحت اللحى والقفاطين والبزّات الأنيقة وربطات العنق الفاخرة.

لم يعد العدوّ عدوّاً بل أصبح الأخ وابن العم والجار هو العدوّ.

يا أخي الهادئ في مستقر البرزخ المجهول.. لن أزيد ألمك ألماً، لكنني، وبعد خمس وأربعين سنة من الصمت أجدك تُخرجني من سطوة الوعد القديم.

ومن تلك الشرفة في بيت "الأمّة" التي تختزن كل ما كان بيننا، سأختار ما أنشره.

أسمعك تقول: لم يعد من شيء يفيد، ولا شيء يهم، فتنفس كما تشاء.

يرحمك الله يا غسان كم كنت نقيّاً وحالماً وصادقاً.