Menu

قضية أراضي الوقف الأرثوذوكسي في فلسطين.. أولا قضية شعب ووطن... ثم...!

نصّار إبراهيم

قضية أراضي الوقف الأرثوذوكسي

بالأمس 1 آب 2017 نظمت المؤسسات العربية الأرثوذوكسية في بيت ساحاور (الجمعية الخيرية الأرثوذوكسية العربية – لجنة وكلاء كنيسة الآباء الأجداد – النادي الأرثوذوكسي الثقافي العربي – جمعية أبناء الطائفة الأرثوذوكسية للإسكان) ندوة بعنوان: تسريب الوقف هو ضياع للكنيسة وقضية وجود وهوية.
تحدث في الندوة كل من:
- السيد جورج أبو عيطة - رئيس الجمعية الخيرية الأرثوذوكسية العربية، كلمة ترحيبية.
- الأستاذ المحامي جواد بولس - قدم الإطار العام للقضية.
- الصديق د. أغلب خوري – تناول آخر صفقات تسريب الوقف الأرثوذوكسي.
- السيد خليل التفكجي – مدير دائرة الخرائط في بيت الشرق/ القدس – تحدث عن الأهمية السياسية والوطنية لأراضي الوقف المسرب.
- الأستاذ المحامي الياس خوري – تحدث عن تنفيذ إدعاءات وتبريرات البطريركية للصفقات.
أدار النقاش في الندوة الصديق جلال برهم رئيس النادي الأرثوذوكسي الثقافي العربي في بيت ساحور.
أصغيت بتركيز شديد لمداخلات المتحدثين حول قضايا بيع وتأجير أراضي الكنيسة الأرثوذوكسية... لقد تحدث المتحدثون بمعلومات دقيقة موثقة ومفصلة... تحدثوا بألم وغضب وإحساس عميق بالمسؤولية... فلهم التقدير والاحترام.
غير أنني هنا لن أتحدث عن حقيقة وحجم وطبيعة المعلومات التي تتعلق بقضية بيع وتسريب وتأجير أراضي وقف الكنيسة الأرثوذوكسية... التي هي أكبر وأعرق كنيسة في فلسطين... فقد أصبحت هذه المعلومات والحقائق والوثائق حقيقة ثابتة.. وأي إنكار أو تجاوز لها أو تبريرها من أي شخص او جهة فقط سيثير الاستغراب، بل وأبعد من ذلك سيثير الأسئلة. 
ما سأتناوله في هذه المقالة الكثيفة يتعلق بكيفية مقاربة هذه القضية الهامة، الحساسة والخطيرة.
هنا في فلسطين لا يمكن .. بل ومحظور التعامل مع أي قضية بهذا المستوى من منطلق حسن النية أو بضيق أفق أو بصورة ساذجة.. نحن نتحدث عن قضية في واقع وسياقات لا يمكن عزلها عن الصراع الضاري الذي يعيشه الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال والمشروع الصهيوني الذي يستهدف وجود الإنسان الفلسطيني المتربط بارضه وتاريخه وحقوقه الوطنية.
بهذا المعنى لا يعود النقاش فيما يخص قضية أراضي الكنيسة الارثوذوكسية مسألة تخص الطائفة الأرثوذوكسية فقط، كما أن قضية الأراضي هنا لا تأخذ أهميتها من أثمان العقارات ومقدار الإيجار وعدالته، فنقطة الانطلاق لا تتعلق أصلا بكون ما يجري صفقة رابحة أو خاسرة بالمعنى المالي..
ما يدور حوله النقاش هو قضية شعب وقضية وطن، بهذا المعنى فإن الفلسطينيين المسيحيين الأرثوذوكس هم أولا وقبل أي شئ جزء عضوي ومكون طبيعي وتاريخي أصيل من الشعب الفلسطيني، وما انتماؤهم الديني سوى جزئية من انتمائهم الوطني والقومي، بالضبط كما غيرهم من المسلمين والطوائف الأخرى. 
إنطلاقا من هذا الثابت الحاسم يمكن مقاربة وتحديد المواقف والسياسات تجاه قضية أراضي الوقف الأرثوذوكسي، أي من ذات الثوابت والركائز التي يمكن اعتمادها عند مقاربة أي عبث بالوقف الإسلامي أو أي فلسطيني يقوم ببيع وتسريب الأراضي لدولة الاحتلال.
هنا لا إزدواجية في المعايير... فالشعب الفلسطيني ومنذ عقود وهو يخوض صراعا ضاريا للدفاع عن أرضه وقدم عشرات آلاف الشهداء دفاعا عن هذه الأرض وعن وحقوقه الوطنية ولا يزال... وهو يدرك مركزية ومحورية الأرض في الفكر الصهيوني، كما يدرك جيدا الأساليب والوسائل المركبة والمعقدة التي يلجأ إليها الاحتلال ليستولي على أكبر قدر من أرض فلسطين سواء بالاحتلال المباشر أو من خلال الضغط والإكراه والتزوير بما في ذلك شراء الأرض قطعة قطعة.. ومترا مترا...
جيد أن يتحدث المتحدثون عن الأبعاد المباشرة والضيقة لمسألة تسريب أراضي الكنيسة الأرثذوكسية للاحتلال وأثارها المباشرة المادية والمعنوية على (الطائفة الأرثوذوكسية) .. ولكن حصر المسألة في هذا النطاق وتقديمه باعتباره هو الأساس ونقطة الآنطلاق يفقد هذه القضية الكبرى أهم ركيزة من ركائزها.. أقصد بعدها الوطني الحاسم كأولوية تتقدم على ما عداها.
فقضية تسريب وبيع وتأجير أراضي الوقف الأرثوذوكسي للاحتلال تتجاوز تماما أي مقاربة تحاول حصرها وكانها مجرد شأن داخلي للطائفة ألرثوذوكسية، أو مجرد نقاش ما بين الطائفة والبطريركية ، أو أنها مجرد صفقات غير مجدية أٌقتصاديا.. على اهمية ذلك بالطبع.
إنها قضية ترتقي بالضبط إلى ذات المستوى الذي لا يجوز معه حصر قضية المسجد الأقصى وما يقوم به الاحتلال في القدس في بعدها الديني الإسلامي فقط... فتلك وهذه قضايا تمس مصير وحقوق الشعب الفلسطيني أولا وعاشرا قبل أن تمس حقوق هذه الطائفة أو تلك. 
بهذا المعنى بالضبط فإن قضية أراضي الوقف الأرثوذوكسي هي قضية كل مواطن فلسطيني، قضية الشعب الفلسطيني. 
بهذا المعنى بالضبط فإن كل من هو مع فلسطين ونضالات شعبها قولا وفعلا حقا... عليه أن يقف في مواجهة هذا العبث والتبديد والاستهتار .. وغير ذلك مجرد ثرثرة لن تحمي وطنا ولا ارضا ولا حقوقا ولا كنيسة. 
بهذا المعنى بالضبط تصبح مواجهة هذا التبديد والعبث قضية القوى والقيادة والحركة الوطنية الفلسطينية برمتها.
بهذا المعنى بالضبط تصبح هذه القضية قضية المثقفين والإعلاميين الفلسطينيين والأردنيين والعرب بكاملهم.
بهذا المعنى بالضبط يجب أن يتجاوز الفعل والتفاعل مع هذه القضية المستوى (الطائفي "العائلي").. والارتقاء بها إلى مستوى ما تعنيه سياسيا واجتماعيا وثقافيا ووجوديا على الصعيد الوطني. 
حصر النقاش والمبادرات والمواجهة وإبقائها ضمن مساحات ومعادلات "الطائفة الأرثوذوكسية في فلسطين والأردن ودولة الاحتلال"... هو أكثر ما يريح الاحتلال .. وهو أكثر ما يريح الجهات التي تدير هذه الصفقات.. ذلك لأنها تملك من أدوات التاثير المباشرة وغير المباشرة ما يجعلها دائما قادرة على إدارة وضبط التناقضات وعدم السماح لها بتهديد ما تقوم به.
رفع القضية وتحويلها إلى قضية وطنية بامتياز يقلص مساحات المناورة والمراوغة والضغط الذي تقوم به الجهات التي تقف وراء تسريب هذه الأراضي الفلسطينية للإحتلال، ذلك لأن نجاحها على هذا الصعيد وحتى اللحظة يعود في كونها نجحت في إبقائه وحصره في دوائر طائفية ضيقة.. في حين أنها ستواجه مأزقا شاملا عندما تجد نفسها في مواجهة إرادة شعبية وطنية فلسطينية عامة.
أرجو أن لا يأتي أحد ليقول لي ما دخلك أنت.. فأنت لست "مسيحيا أرثوذوكسيا"... فهذا شأن خاص بالطائفة الأرثوذوكسية.. وما تقوم به هو تدخل في شأن لا يخصك...
إذا وجد من سيقول أو يفكر بمثل هذا المنطق سأقول له: كل ذرة تراب في فلسطين هي شأن يخصني .. واي طرف أو جهة أو شخص يفرط بها بصورة مباشرة أو غير مباشرة .. فإنه يفرط بحق من حقوق شعب فلسطين وأجياله القادمة.. هذه مسألة تخصني تماما... وما يترتب عليها من نتائج تمس حقوقي وكرامتي الوطنيةمباشرة... 
والجميع يدرك ويرى بأم العين كيف ينفذ الاحتلال مشاريعه الاستيطانية في فلسطين... ف"هايدرا" الاستيطان الصهيوني لا تقف عند حد.. إنها تزحف حيث ما تستطيع... تنهب وتبتلع وتسرق وتشتري وتستولي...
وعليه فإن المسألة هنا لا تتعلق فقط بانتماء طائفي أو عائلي أو شخصي... ذلك لأن أرض فلسطين هي موضوع وعنوان الصراع الشاسع ما بين الشعب الفلسطيني والاحتلال... هذه هي بديهة الوعي ونقطة البداية التي تحفظ وجهة البوصلة.
أنا لا أقول أن المؤسسات والشخصيات التي شاركت في هذه الندوة الهامة لا تعي هذا البعد الوطني.. فأنا أعرف أنها تعي جيدا الأبعاد الوطنية للمسألة.. ولكن ما أريد قوله أن هذه المؤسسات والشخصيات التي تخوض المواجهة منذ سنوات على هذا الصعيد ببسالة وجرأة .. عليها الآن أن تبادر الآن لرفع النقاش والفعل إلى مستوى جديد... مستوى يليق بقضية بهذا الحجم وبهذه الخطورة... مستوى يليق بقضية يدافع عنها ويحملها ويحميها شعب بكامله... هنا الصخرة فلتقفز... هنا الوردة فلترقص.