Menu

الصمود الفلسطيني ورخص الدم العربي

د.فايز رشيد

ما كادت جماهيرنا المقدسية تحقق انتصارها على العدو الصهيوني، وتجبره على إزاحة بواباته الإلكترونية من باحات الأقصى، حتى تبارت بعض العواصم العربية حول دورها المفصلي في تحقيق التراجع الصهيوني.

صحيح أن الهزيمة لها أب واحد، لكن الانتصار، آباؤه كثيرون. الفضل الأول والأخير لتراجع العدو الصهيوني، كان لأهلنا في المدينة المقدسة، ومن ورائهم كل قطاعات شعبنا الفلسطيني في كل مناطقه. وبالعودة إلى بعض التصريحات الرسمية العربية حول البوابات الإلكترونية، نجد أن رئيس دولة عربية ناشد نتنياهو قائلا: «من فضلكم هذا الأمر يجب أن يتوقف، ولا بد أن تحترموا مشاعر المسلمين تجاة المقدسات». أما أحد الأئمة العرب، فاعتبر أن البوابات في الأقصى هي قضية داخلية إسرائيلية، ذلك أن نائب حاكم تلك الدولة منع رجال دين دولته من الدفاع عن الأقصى. إنها تصريحات في غاية الفجيعة والحزن، وملاطفة الكيان الصهيوني.

بالفعل، ما حدث في المدينة التاريخية الفلسطينية العربية الكنعانية اليبوسية الخالدة، هو انتصار الكف على المخرز، انتصار الإرادة على السلاح، انتصار الحق على الباطل، انتصار الفلسطينية على شمشون اليهودي في رواية جابوتسكي، كما حاول تصويره، بأنه الذي لا يقهر. يحاولون تهويد القدس وهدم الأقصى بكل الوسائل، ويدّعون أنّ القدس ستظل عاصمة دولتهم الأبدية والخالدة، ومنذ أيام جرى التصويت على مشروع قرار في الكنيست بالقراءة الأولى، يقضي بعدم الانسحاب من أيّ جزء من القدس، ووفقاٍ لمركز «مدار» في رام الله، بيّن تقرير القوانين العنصرية والداعمة للاحتلال والاستيطان في الكنيست، أنه منذ انتخابات 2015، وحتى اختتام دورته الصيفية في الأسبوع الماضي، عالج الكنيست 156 قانونا ومشروع قانون عنصري، بزيادة 20 قانونا عما كان حتى قبل أربعة أشهر، لدى اختتام الدورة الشتوية، من بينها 25 قانونا أقرت نهائيا.

لقد أبلغ رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو (الأربعاء 26 يوليو 2017) كتلته البرلمانية «الليكود»، بمصادقته على قانون من شأنه ضم خمس مستوطنات ضخمة إلى مدينة القدس المحتلة، وعمليا جرى ضم هذه المستوطنات، إلى ما يسمى «السيادة الإسرائيلية» المفروضة قسرا على القدس.

وفي المقابل فصلت الحكومة الصهيونية أحياء وضواحي فلسطينية ضخمة عن مدينتها القدس. لم تكن انتفاضة الأقصى الأخيرة، مجرّد تحرك من أجل فتح أبواب الأقصى فقط، بل هي ردّ على المخططات الصهيونية السوداء لتهويد المدينة وهدم الأقصى، أما عن دلالات هذه الانتفاضة ورسائلها، فنقول: إنها إثبات وطني وعملي، بأن أهل القدس وفلسطين، كلّ فلسطين، يرفضون المخططات الصهيونية لتهويد مدينتهم وهدم الأقصى، وأنهم سيفشلون هذه المخططات الحاقدة. أثبتت أن الإرادة هي أقوى من السلاح، وأثبتت عقم الحوار مع العدو، وأن المطالب تظلّ كما هي، ولا تتجزأ، وأنه يمكن لمقاومة شعب لا يمتلك السلاح، فرض إرادته على محتليه. لقد عززت الانتفاضة، الوحدة الوطنية الفلسطينية، والأخوة الإسلامية المسيحية في فلسطين، وفي القدس تحديداً. بأم العين، كنتَ ترى الكثير من إخوتنا المسيحيين، يعلقون الصليب ويحملون الإنجيل، ويركعون ويسجدون مع إخوتهم المسلمين أمام باب الأسباط، ومناطق أخرى.

إنها رسالة إلى العالم العربي بشقيه، النظام الرسمي والجماهير العربية، إلى الأول، أنها استطاعت كشف حقيقة هذا العدو وتآمره وحقده على العالم العربي بأكمله، حتى على الدول التي لها اتفاقيات «سلام» مع الكيان الصهيوني. لقد تضمنت الانتفاضة رسالة إلى الرأي العام العالمي من قسمين، الأول، كشف الفاشية الصهيونية تجاه شعب أعزل، إلا من إيمانه بربه وقدسه وأقصاه. أما القسم الثاني، فهو صمود شعبنا، وتجذر وانغراس حقوقه الوطنية في نفوس وعقول وقلوب أبنائه، كما رسالة للعدو الصهيوني أيضا، بأن كل مخططاته السوداء لتهويد القدس وتغيير معالمها ستفشل على صخرة صمود أهلنا في القدس، وكل شعبنا الفلسطيني، لن يهمنا الاستشهاد في سبيل وطننا وترابنا الطاهر المقدس، أنتم غزاة، ارحلوا من أرضنا، فهي لنا، والصراع معكم مفتوح حتى انتصارنا.

لقد زادت الانتفاضة من رمزية القدس والأقصى، وطهارة أرضنا الفلسطينية، وهي أكناف بيت المقدس، وأثبتت صمود شعبنا، رغم كل عوامل التفكك والرداءة في الوضع العربي والإقليمي المحيط.

على صعيد آخر، فقد استقبل نتنياهو أحد حراس أمن السفارة في العاصمة الأردنية، بعد قتله بدم بارد لمواطنين أردنيين، استقبال الأبطال مع أنه مجرم، وكان يجب عدم تسليمه ومحاكمته في عمّان، وذلك يفتحُ جرحاً غائراً في نفسية وضمير ووجدان الفرد العربي، حول القيمة الرخيصة له في ظلّ أنظمته، فقدت سوريا ما يزيد عن 300 ألف من أبنائها، وهاجر منها نحو 4.8 مليون لاجئ، وجرى تدمير البنية التحتية لها. وفقد العراق منذ احتلاله من قبل الولايات المتحدة عام 2003 حوالي نصف مليون مواطن، وهاجر 5 ملايين، ودمّرت مدن بأكملها وآخرها الموصل. أما في اليمن، فوصلت حصيلة الحرب حتى اللحظة 15 ألف قتيل. هذا وقد حذرت الأمم المتحدة من أن الأطفال، هم الذين يتحملون وطأة النزاع في اليمن مع وجود 80% في حاجة ماسة للمعونة، ومليونين يعانون من سوء التغذية الحاد. وأشارت صحيفة «الغارديان» البريطانية، إلى أن تأثير الحرب والجوع على شباب البلد البالغ عددهم 12.5 مليون تضاعف بسبب «أسوأ تفش لوباء الكوليرا في العالم، وسط أكبر أزمة إنسانية عالمية»، كما وصفها مديرو منظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) وبرنامج الأغذية العالمي في بيان مشترك.

نذكر هذه الأرقام، عدا عن المعتقلين في السجون العربية وفقدان العديد منهم، وانتشار الطائفية والمذهبية البغيضة والرشاوى والفساد في العديد من الدول العربية (باعتراف حكوماتها).

في وطننا العربي أميّة واضطهاد وتعنيف للمرأة، ونسب عالية من الفقر، رغم الثروات العربية، التي على الأغلب تذهب للجيوب الأمريكية والغربية، كما رأينا ما حصّله ترامب في زيارته الأخيرة إلى الرياض، واجتماعه بخمسين من رؤساء وملوك الدول العربية والإسلامية. لا ندري لماذا، عندما يعتقل مواطن أمريكي أو صهيوني أو من إحدى الجنسيات الغربية، في بلد ما من دول العالم الثالث، تقوم الدنيا ولا تقعد من أجل إطلاق سراحه حرصا على شعور والديه، بينما عندما يعتقل آلاف العرب في مختلف بلدان العالم، فإن حكومانهم على الأغلب تتخلى عنهم!

صحيح أن المؤامرة تستهدف دولنا لأسباب عديدة يعرفها القارئ: بترول، ثروات، موقع استراتيجي، الحرص على بقاء الكيان الصهيوني وأمنه. غير أنه من الصحيح أيضاً، أن انعدام الحريات الأساسية والديمقراطية، وافتقاد أشكال الضمانات المختلفة للمواطن، الدراسة، الطبابة، العمل بعد التخرج وقلة فرصه، البيت، الشيخوخة، الصراعات والحروب وغيرها، كل ذلك، يساعد على هجرة المواطن العربي إلى خارج بلده، الطارد له. إن كافة الإحصائيات تؤكد أن نسبة الهجرة من أقطار الوطن العربي بلغت 57% من 65 مليون شخص تم إحصاؤهم.

المؤامرات لم ولن تتوقف على الوطن العربي، لكن سوف تتكسر إذا ما شعر المواطن العربي بإنسانيته وحريته وقول رأيه دون خوف من اعتقال، وإذا ما جرى تحقيق متطلباته الإنسانية البسيطة. المواطن العربي يدفع عشرات الأنواع من الضرائب، ويدفعها دون مردود أو فائدة عليه، فكيف يشعر بالمواطنة والانتماء إلى بلده؟ لو استهدفت المؤامرات بلداً تحقق فيه كل الذي نقوله، لتحطمت على صخرة صمود شعبه.