Menu

ما أريده بسيط جدا... وطنٌ عاديّ...!

نصّار إبراهيم

ليأخذ الوطن الإفتراضي ما يشاء وليترك لي وطني العادي.. فما أريده بسيط جدا... وطن عادي.

سئمت الوطن المجازي... وطن الكناية والتشبيه.. أريد أن تستعيد لغتي حريتها... لكي أكون كما أنا.. لا أكثر ولا أقل... وهذا لا يحدث إلا في وطن عادي تماما .. كان فلسطين... وسيبقى فلسطين.

لقد ذهبنا بعيدا في المجاز حتى احتلت الرموز الوطن العادي... فأصبح بذاته رمزا... فلم يعد هو هو.. لقد أصبح وطنا افتراضيا أكثر مما هو طبيعي وواقعي... وكل ما هو افتراضي سيصل في لحظة ما، في لعبة مجاملة اللغة للوعي بما يشبه الغميضة... إلى الإنكسار أو الضياع... فيما الوطن العادي أبسط من ذلك بكثير، بتفاصيله، بقدرته على التكامل مع دورة المواسم والفصول...وخط سير التاخ. 

لا أريد وطنا يزهر فيه اللوز في الخريف... أو يتصرف النخيل فيه كنبات متسلق... أو أن يتطاول الزيتون كالسَّرْو، لا أريد وطنا بدون إيقاع الزيتون الأليف على المنحدرات المنسية... أريد وطنا طبيعيا تماما... تشرق فيه الشمس كعادتها... يغمره البدر في منتصف كل شهر قمري... وطن تقف فيه قُبَّرة على ذروة شوكة برية وتمارس حياتها بدون اكتراث. 

لقد أرهقني البحث عن المعنى في وطن مسكون بالخوف والجنود والبنادق، بالحواجز وتصاريح المرور... حتى أصبحت أغيِّر شكل ابتسامتي لتوافق آخر حاجز طارئ.

كل صباح أقف أمام خارطة الوطن ...أعدّ خطوط الطول والعرض.. خوفا من أن يكون الليل قد سرق بعضها فيغير الوطن ملامحه ... فلا يعود لي بحر ولا نهر ولا شواطئ ولا مدن كانت بالأمس لي... أخشى أن تتغير الخارطة بحيث لا أعود أعرف الطريق إلى التلال والسفوح والأزهار التي تنمو هناك بين مفاصل الأرض والصخور... أخشى وطنا لا وجود فيه لبئري الأولى... أخشى وطنا لا تحرسه الذاكرة.. أخشى وطنا لا وجود فيه لذاكرة أجيال قادمة.

أرهقني البحث عني في مدن لم تعد تعرفني... فأصبحت مشغولا بالبحث عن ذاكرتي... نسيت اللحظة... حيث تلاشى الوطن في زحمة الخوف من اغتيال الفرح العابر... لهذا صرت اختصر الوطن في أجنحة حمامة أو فراشة... أو زهرة لوز أو رمان...ألجأ للرمز والمجاز.... فأجعل من الوطن حقل قمح... أو مجرد صورة خيالية.. فيما هو اشمل من ذلك وأكثر بساطة.

كم هو متعب هذا الدوران في غابات المعاني المشتبكة والملتبسة... كم هو مرهق هذا الرحيل في الأمنيات لوطن أقف على ترابه وأنا أحاول ان أقول: هذه الأرض بتفاصيلها لي دون أن أقصد شيئا آخر.

لقد ذهبنا بعيدا في لعبة اللغة والمعنى الآخر حتى غادر الوطن طبيعته... فاصبح شبه وطن... وغادر الإنسان تلقائيته.. فأصبح شبه إنسان. 

متى أتحرر من هذا الوطن الافتراضي... ليعود لي وطني العادي.. لأعود إنسانا عاديا أركض على مساحاته متى وكيف وأين أشاء... بكامل حريتي وولدنتي التي أثقلتها الأيام، ومع ذلك لا تزال تراوغ ما استطاعت لكي تحرس وطنا لا يشبه فلسطين.. بل يكونها تماما كما هي.