سبعة وأربعون عاما مضت على وفاة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر وعلى مدار هذه السنوات لم تنطفئ شعلة حضوره ، كما لو أنه بالأمس قد غادرنا ويكاد أن يكون الزعيم العربي الوحيد الذي لا زال يحظى بشعبية كبيرة وعاطفة جياشة في أوساط شعبية وثقافية وفكرية ،ولا يتوقف الجدل حوله سلباً وإيجابا حول شخصه ودوره ومشروعه القومي العربي ،يملّك رصيداُ من الحب والعاطفة والتأييد ليس وفاءً له بقدر ما هو اختياراَ واعياَ لنموذجه من بين رؤساء الغفلة في هذا الزمن الرديء .. فالحنين إلى رجل مثله يزداد يوما وراء يوم كلما زاد منسوب الانحطاط والانحدار العربي في هذه المرحلة من حياة الأمة العربية .
وإذا كان هناك من مؤيدين لعبد الناصر وتاريخه وتراثه الوطني ، ومن يحلمون بصنع مجد لم يكتمل في عهده ، فإن هناك تياراَ إسلاميا في الواقع العربي يحمل من الحقد والضغينة تجاه هذا الرجل ما لم يتعرض رئيسا مثله بهذا القدر من الكراهية والتعرض لشخصه ومرحلته ومواقفه ، بالرغم من غيابه عن هذه الدنيا ما يقرب من نصف قرن من الزمان .
ان هذا التيار الإسلامي تزعمته ولا زالت ((حركة الإخوان المسلمين )) وهي الحركة التي ناصبته العداء منذ اللحظات الأولى لانطلاق ونجاح ثورة 23 يوليو ..
ومن الغرابة بعد كل هذه السنوات من غياب الرجل فإن حملة الإخوان المسلمين السياسية لم تتوقف يوماً، بل تزداد ضراوة بكل أشكال التضليل والافتراء وتزوير التاريخ ومحاولات تحطيم الشخصية ((الكاريزمية )) للرجل عبر كل أدوات الإعلام المضادة من صحافة واقنية فضائية .ومقابلات ،وفيديوهات ويوتيوب ،والتواصل الاجتماعي دون حد أدنى من احترام عقل المواطن العربي ...
فالرجل في نظرهم كان كافراَ, سفاحاً ، وكان عميلا للغرب ..!! ومن صنع الموساد ..!! والرجل ماسونيا..!! والرجل يهوديا..!! وزوجته شيعية..!! والرجل ديكتاتورياً ،ومهزوماً ، و يسمونه ((عبد الخاسر ..)) ولم تبقى مفردة من لغة الوضاعة وانحطاط الأخلاق إلا وألصقوها بهذا الرجل .. ثمة حملة إعلامية مبرمجة يقودها أناس متخصصون مهنيون في أدارة فن الكذب والخداع والدعاية الرخيصة مستخدمين مبدأ الداعية النازي وزير الدعاية جوزيف غوبلز في زمن هتلر (( اكذب ،اكذب حتى يصدقك الآخرون ، واكذب اكذب حتى تصدق نفسك ))
حملة ظلم تاريخية على مدار نصف قرن لا تتوقف ، ومن الغرابة أن يقود هذه الحملة المنظمة والمتواصلة من حركة الأخوان جيل بعد جيل من الإخوان المسلمين ،أجيال لم تعش عصره ولم تعرف شيء عن تجربته ، ولم تكتوي ((بظلمه أو ديكتاتوريته ))..!!
ما لذي يفسر هذه الحملات المتواصلة على هذا الرجل الذي آمن بالأمة العربية وضرورة وحدتها .. والذي رفع مكانة مصر من دولة تابعة للاستعمار إلى دولة مستقلة ذات سيادة تحظى باحترام كل شعوب العالم ..؟؟
إن حركة الإخوان كانت تعي ولازالت إن مشروع عبد الناصر العروبي كان نقيضا لمشروعهم الإسلاموي الذي ينشد الخلافة الإسلاموية بطبعتهم الاخوانية ... كانت الحركة تعي أن لا مشروع في الوطن العربي يقوض مشروعهم إلا مشروع العروبة , فوضعوا مشروع الأمة الإسلامية في مواجهة مشروع الأمة العربية .. ولم يسعوا أو يفكروا أن يتكامل المشروعين .. لأنهم بالأساس كانوا دعاة سلطة لا دعاة إسلام ..
ولما كانت حركة الإخوان تعي أن المشروع القومي العربي ((الناصري)) ارتبط وتماهى مع شخصية عبد الناصر الكاريزمية , ومع مواقفه السياسية وإجراءاته الاقتصادية , وأخلاقه الوحدوية, واشتراكيته العادلة .. فقد عملوا على تحطيم الفكرة . وصاحبها ,و تحطيم المشروع وحامله السياسي ،و تحطيم التجربة بكل مالها وما عليها .. يجب قتل الفكرة الوحيدة التي لا زالت تدغدغ عواطف شباب الأمة , وهي الفكرة الوحيدة التي تحمي الوطن العربي ... وعلى ذلك لابد من تشويهها وتشويه صاحبها بأنه أبو الكوارث ...
إنهم يخافون حتى اليوم من المشروع العروبي ، ويخافون من خروج زعيم آخر يحمل فكرته وعروبته .. وها نحن اليوم أمام تداعيات مشروعهم الذي ولّد عشرات المنظمات الإرهابية وقوض ال قطر يات العربية واحدة وراء واحدة.. هاهو مشروعهم يثبت بالممارسة أنه يؤسس لمشروع تفتيتي وتقسيمي , بل أن تداعيات مشروعهم تدلل على أن مشروع عبد الناصر العروبي الوحدوي كان هو الأكمل والأقدر على حماية الأمة العربية من التقسيم والتفتيت .
ويصل بهم اللامعقول حينما ينسبون هذا الانحطاط والانحدار والتراجع الوطني والخلافات العربية والحروب الداخلية وفشل الأنظمة وسقوطها إلى تراث عبد الناصر ومشروعه السياسي ، أنهم ينسبون فشل اليوم إلى زعيم أختطفه الموت قبل نصف قرن .. ذلك هو منطق الملهاة الذي يريدون منه إقناع الناس بترهاتهم ...
وما من شك إن حركة الإخوان المسلمين تعرضت في عهد عبد الناصر إلى الملاحقة والاعتقال والتعذيب لعناصرهم .. وإعدام بعضهم وعلى رأسهم سيد قطب .. فهل ما تعرض له الأخوان , وحل تنظيمهم ..كان ولا يزال سببا لملاحقة عبد الناصر إلى اليوم ...؟
هل كانت حركة الإخوان المسلمين حركة بريئة ودعوية سلمية وكانت ضحية لم ترتكب جرماً أو إرهابا في سياق نشاطها وتجربتها الطويلة , أم أنها أسست منذ البداية لهذا العنف الذي أطالها هنا وهناك ..
أن تاريخ حركة الإخوان المسلمين وسياساتهم وممارساتهم وإرهابهم المتكرر لم يكن إلا في سياق البحث واستلام السلطة في مصر .
ويتبدى السؤال مجدداَ لماذا لم يتعرض الإخوان المسلمين إلى الملك فاروق و الرئيس أنور السادات والرئيس مبارك من التشهير والعداوة بمثل ما تعرض له عبد الناصر ؟
ومن الجدير بالذكر أن الإخوان تعرضوا للاعتقال والملاحقة في عهد فاروق والسادات ومبارك بالرغم من أن السادات أطلق سراحهم ثم عاد واعتقلهم في عام 1981 وان مبارك عقد صفقة معهم وأدخلهم البرلمان واعتقل الكثير منهم .
إذا المسألة أن الإخوان حينما يحاربوا عبد الناصر إلى اليوم كانوا يحاربوا مشروعه العروبي والقومي ونظامه الاشتراكي ورؤيته لمستقبل مصر كما يحاربون شخصه , بينما السادات ومبارك وقبلهم فاروق لم يكن لديهم مشروع سياسي او مشروع عروبي يقوض مشروعهم , بقدر ما كانوا رؤساء يديرون شؤون السلطة السياسية حصرا في مصر .
من هنا سيستمر الإخوان في الهجوم على عبد الناصر ومشروعه العربي لاجتثاثه من التراث والتاريخ .
الم يقل حسن البنا ذاته انه يحتاج إلى ثلاثة أجيال لتنفيذ برنامجه وخططه ومشروعه ..؟ الجيل الأول هو جيل التكوين وليس شرطا أن تكون الطاعة موجبة في هذه المرحلة ..
والجيل الثاني هو جيل التنفيذ والطاعة ملزمة وواجبة في هذه المرحلة ..
والجيل الثالث هو جيل الانتصار .. أليس هذا فكراً تنظيمياً لقلب الأمور والمكونات والأنظمة ..؟
فهل كان الإخوان بريئين من العداوة لعبد الناصر ..؟ أم إن الإخوان هم لا غيرهم من جنوا على أنفسهم في عهد عبد الناصر وفي عهود من بعده إلى اليوم ...؟
وهل حركة الإخوان في عام 1954 واعتقال عناصر المؤامرة التي حاولت اغتياله في منشية الإسكندرية ، والأحكام التي صدرت بحقهم تفسر هذا الحقد الأعمى لشخصه وتجربته
ونظامه ..؟ وهل هكذا يكون الانتقام , وهكذا يكون تزوير التاريخ ..؟؟
لقد تعرض الإخوان للاعتقال في عهد الملك فاروق بعد أن أقدموا على اغتيال احمد الخزندار ومن ثم محمود فهمي النقراشي باشا عام 1948 .. بعد أن حلت الجماعة وتم مصادرة أموالها واعتقال أعضاؤها .. وبعد ذلك تم اغتيال قائدها حسن البنا ..!! فلماذا لازال عند الإخوان الملك فاروق أفضل حالا وأفضل مشروعا من عبد الناصر ..؟؟
هم نفسهم الإخوان الذين خرجوا عام 1936 استقبالا في محطات السكك الحديدية على طول طريق القاهرة – الإسكندرية للملك فاروق بمناسبة تتويجه ملكا بالهتافات والمبايعة و الأهازيج ..!!
ما الذي يفسر هذا التلون من المبايعة والتأييد ثم الذهاب إلى اغتيال رجالات الملك فاروق ..؟
انه البحث عن السلطة عبر سياسة التمكين .. وسياسة المراحل من التكوين إلى التنفيذ إلى الانتصار .
لقد أراد الإخوان منذ اللحظة الأولى في التفكير بالثورة على الملك فاروق أن يسلبوا الضباط الأحرار المبادرة حيث عرضوا عليهم الاندماج في الحركة ورفض عبد الناصر هذا الطرح .. ومع انتصار الثورة عام 1952 اصدر عبد الناصر قراراَ بالإفراج والعفو الشامل عن كل المعتقلين من الإخوان في عهد الملك فاروق وناهز المفرج عنهم الألف معتقل في حين لم يشمل القرار الشيوعيين ..؟
وحاول عبد الناصر أن يدمجهم في الحياة المدنية و السياسية ويشركهم في السلطة السياسية حيث عرض عليهم المشاركة في الحكومة ووافقت الحركة على ذلك وحددت اسمين للوزارة هما : حسن العشماوي ومنير الدله إلا أن مكتب الإرشاد عاد ورفض المشاركة في الوزارة , بينما الشيخ احمد حسن الباقوري من حركة الإخوان قبل أن يكون وزيرا للأوقاف , ولاحقاً مكتب الإرشاد للإخوان اصدر قرارا بفصل الشيخ من الحركة ..؟
كما صدر مرسوم 1953 بتشكيل لجنة لوضع الدستور من خمسين عضوا أشرك فيها ثلاثة أعضاء من الإخوان هم حسن عشماوي وصالح عشماوي وعبد القادر عودة .. وبعد انتصار الثورة تم حل الأحزاب السياسية جميعها ماعدا حركة الإخوان المسلمين كإشارة ايجابية للحركة وزعمائها .
كل هذه الإشارات الايجابية لم يستجيب لها الإخوان, وعلى العكس من ذلك طالبو عبد الناصر كشرط في الدخول في الوزارة أن يطلعهم مجلس قيادة الثورة على كافة القرارات قبل إقرارها من المجلس ..؟؟
كما طلب المرشد حسن الهضيبي من عبد الناصر بضرورة اسلمة المجتمع ..؟؟ وارتداء الحجاب لنساء مصر ..؟؟ وإقفال دور السينما والمسرح في محاولة لفرض نفوذهم على حركة الضباط ومحاولة لتمكين وفرض حركتهم كمرجعية موازية لقيادة الثورة .
ثمة تاريخ طويل من مراوغة الإخوان ومؤامراتهم ضد نظام عبد الناصر يقتضي الامر تظهيره حتى يتعرف الجميع اليوم من حركة الإخوان المسلمين وكيف تشكلت ودوافعها وممارساتها وطبيعة فكرها السياسي والديني الذي يكفر المجتمع ويرفضه .
يريدون أن يبنوا مجتمعات جديدة على أنقاض المجتمعات القائمة على قاعدة ان هذه المجتمعات ليست مسلمة .. فالسيد قطب يقولها بصراحة ((أن العالم يعيش كله في جاهلية ..؟؟ ونحن في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم , وكل من حولنا جاهلية )) ويمضي قائلاَ (( ان مهمتنا الأولى هي تغيير واقع هذا المجتمع وتغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه ..؟؟ ولابد من طليعة تتكفل بهذه المهمة ..؟؟)) ويمضي أيضا في مؤلفة في معالم الطريق بان الحاكمية لله ولا حاكمية إلا الله .
أي أنهم يعيشون حالة إنكار للمجتمع العربي الإسلامي وللإسلام ذاته .. ويريدون وجودا آخر على مقاسات تفكيرهم ونزعاتهم السياسية المغلفة بالدين .. ولا يعترفون بأية حاكمية (( نظام سياسي إلا حاكمية الله .. وهذا نفي لدور الأنظمة السياسية في إدارة المجتمعات بل هو نفي أيضا لدور الخلفاء المسلمين وغيرهم من الزعماء والرؤساء في إدارة دولهم ومجتمعاتهم أي أن شعار الحاكمية لله ليس إلا حق يراد به باطل .
أخيراَ الم يقل مرشد الإخوان مهدي عاكف في احد تصريحاته (( ما المانع أن يحكمنا ماليزي طالما كان مسلما , وطز في مصر ويلي في مصر ويلي جابوا مصر )) هذه عبارة تلخص وتثبت أن الوطن هو أولوية بعد المئة لديهم .. في حين أن لفظة الإسلام من غير العربي قد تكون أهم من الوطن ..؟؟
وهكذا كان عبد الناصر نقيضهم في وطنيته وعروبته واشتراكيته وإسلامه فقد تكاملت عنده هذه المفاهيم .