Menu

الواقعية السياسية وإسقاط الأمنيات على الواقع

هاني المصري

خلال عشر أيام فقط، استطاع مركز مسارات تنظيم لقاء وطني حواري حول "متطلبات دعم وإنجاح مسار المصالحة الوطنية"، شارك فيه 600 شخصية في الضفة والقطاع، وتحدث فيه ممثلون على أعلى مستوى لعدد من الفصائل والمجتمع المدني، ما يدل على توق فلسطيني لإنهاء الانقسام. وقدم فيه المتحدثون، خصوصًا محمد اشتية ممثل حركة فتح، ويحيى السنوار ممثل حركة حماس ، مواقف إيجابية رفعت سقف التوقعات من النتائج المُحتملة لاجتماع القاهرة المقرر أن يبدأ اليوم الثلاثاء ويستمر غدًا الأربعاء.

السنوار قال إن المصالحة فريضة رقم واحد، وأهم من بقية الفرائض، وإن المصالحة ليست شأنًا فتحاويًا أو حمساويًا فقط، وإنما تهمّ الكل الفلسطيني، وعليها أن تنجح. أما اشتية فقال إن قطار المصالحة سائر بلا رجعة هذه المرة، وأن المطلوب اتفاق شامل، وهذا ممكن حول جميع القضايا حتى لو طبقت بشكل متدرج، حتى لا يحصل معنا مثلما حصل في "اتفاق أوسلو" الذي أجل القضايا النهائية ما أدى إلى استمرار تأجيلها إلى اليوم .

لقاء الحوار الوطني الذي تحدث فيه حوالي عشرين متحدثًا ممثلين لعدد من الفصائل والمجتمع المدني ووزير العمل كان بمثابة "بروفة" لاجتماع القاهرة، وعكس صورة إيجابية للغاية لو سادت بين المجتمعين اليوم في القاهرة سيخرج الاجتماع باختراق نوعي بتحقيق الوحدة الوطنية. ولكن الأمنيات والرغبات شيء والسياسة الواقعية شيء آخر. والحوار الرسمي شيء حيث من المفترض اتخاذ قرارات وتحمل المسؤولية، والحوار غير الرسمي أمام عدسات التلفزيون ومئات الحاضرين شيء آخر. الأمر أشبه بالعالم الافتراضي على الفيس بوك وبقية وسائل الاتصال الاجتماعي والعالم الحقيقي.

حتى الاجتماع الرسمي على الأغلب لن يعكس حقيقة المواقف، كون الرئيس ليس مشاركًا ولا رئيس المكتب السياسي لحماس. فالحركتان تديران حوارًا ثنائيًا منذ بدء الانقسام وبعد كل جولة يطلبون من الفصائل الأخرى والمستقلين المصادقة على ما يتم الاتفاق عليه ثنائيًا، ما جعل الآخرين أقرب إلى شهود الزُّور، ولعل قبولهم بهذا الدور وعدم التمرد عليه منذ البداية، أو في وقت لاحق، هو من أسباب استمرار الانقسام وعدم تبلور تيار ثالث قوي قادر على إحداث التوازن المطلوب في القرار والمؤسسة الفلسطينيين، ولعل هذا  من أسباب أن تأخذ المصالحة عندما تم الشروع فيها شكل الانتقال إلى مرحلة ما بعد الانقسام وليس الوحدة.

فالوحدة لا تقوم إلا على الشراكة، والشراكة لا تتحقق إلا بالاتفاق على برنامج وطني يجسد القواسم المشتركة، وقبول كل طرف للطرف والأطراف الأخرى، وهذا فقط يفتح طريق عقد المجلس الوطني التوحيدي، والاتفاق على حكومة وحدة وطنية يشارك فيها مختلف القوى، وعلى أعلى مستوى، لتكون قادرة على مواجهة العقبات وتوحيد المؤسسات المدنية والأمنية والقضائية، بما يستجيب للمصالح والأولويات والاحتياجات الفلسطينية، وذلك على أسس ومعايير مهنية وموضوعية بعيدًا عن الحزبية والمحاصصة الفصائلية.

أما الاجتماع الأهم فحصل يوم الجمعة الماضية في غزة بين يحيى السنوار وماجد فرج، وبحث نقاط عدة، أبرزها التعاون لفتح معبر رفح، وهذه النقطة تم إحراز تقدم فيها، ومسألة التمهيد لاجتماع القاهرة، وهذه مسألة كما أفادت مصادر مطلعة لم يتم إحراز أي تقدم فيها، وهذا يحيل الأمر إلى اجتماعات ثنائية بالقاهرة أثناء الاجتماع وبعده، فالفشل ليس مسموحًا، وهذا ما يجعل المسألة عملية من دون مصالحة حقيقية إلى أن تنضج شروط تحقيقها، وهذا أفضل من العودة إلى مربع الانقسام.

إن الهوة واسعة بين موقفين: الأول يرى الاستمرار في تأجيل القضايا الأساسية، وخصوصًا المنظمة وحكومة الوحدة الوطنية والبرنامج الوطني، وربما الانتخابات إلى حين تمكين الحكومة من السيطرة الكاملة على قطاع غزة، بما يحقق سلطة واحدة وسلاحًا واحدًا وقرارًا واحدًا، وبين رأي آخر يرى ضرورة تطبيق كل ما جاء في اتفاق القاهرة أو معظمه على الأقل، إن لم يكن مرة واحدة فمن خلال الاتفاق على جدول زمني من دون أن يصر على موقفه، لأن آخر ما يريده العودة إلى نقطة الصفر.

أسوأ ما يحدث أن الحوار الوطني قاعدته التمثيلية ضيقة جدًا، إذ تشارك فيه الفصائل والمستقلون من دون تمثيل واسع وحقيقي لقطاعات وتجمعات أساسية، مثل المرأة والشتات والشباب، ومن دون مواكبة ولا رقابة شعبية، وحتى من دون مشاركة مؤسسات مهمة مثل المجلس الوطني والمجلسين التشريعي والمركزي، ومن دون مشاركة أعضاء اللجنة التنفيذية التي يشارك بعض أعضائها بوصفهم ممثلي تنظيمات لا بوصفهم أعضاء في اللجنة.

يطرح هذا الواقع ضرورة تنظيم حوار مستمر ليس مفتوحًا وإنما لفترة قصيرة يتفق عليها يتم عليها بعد توسيع قاعدة المشاركين بالحوار، من أجل الاتفاق على القضايا الأساسية، مثل البرنامج الوطني، والمنظمة، والسلطة/الدولة، والانتخابات، والأمن، والسلاح، والمال، والمشاركة التي من دون الاتفاق عليها لا يمكن الحديث عن إنجاز وحدة وطنية حقيقية.

إن السياسة الواقعية تجبرنا على الهبوط من السماء إلى الأرض، وتجبرنا على توقع أمور واقعية من هذا الاجتماع المهم كونه يعقد في لحظة تاريخية يجري فيها السعي الحثيث لتصفية القضية الفلسطينية بصورة أخطر من قبل، بدليل الحديث عن صفقة القرن، والحل الإقليمي، والتطبيع العربي مع إسرائيل أولًا، ولعل أول الغيث المسموم إقدام الإدارة الأميركية على عدم التجديد للبعثة الفلسطينية في واشنطن كابتزاز يرمي إلى "إقناع" القيادة الفلسطينية بالتخلي عن أوراق القوة التي لا تزال في يديها، أو يمكن أن تحصل عليها، مثل الوحدة الوطنية الكفاحية التي تسعى لتغيير موازين القوى، وتفعيل العضوية الفلسطينية في محكمة الجنايات الدولية، وإلى قبول الفلسطينيين بالانخراط في مفاوضات ثنائية في إطار دولي من دون شروط، أي وفقًا للشروط الإسرائيلية.

على هذا الأساس، وفي ظل المعطيات الراهنة، ودرجة الضغوط الممارسة الإيجابية والسلبية المحلية والخارجية، إذا تمكن الاجتماع من تحقيق الحفاظ على قوة الدفع في المصالحة، وعدم التراجع إلى الخلف، ورفع الإجراءات العقابية، أو جزء منها على الأقل، وإطلاق سراح المعتقلين، وضمان الحقوق والحريات، والاتفاق على مأسسة الحوار الوطني، وتشكيل لجان حول مختلف القضايا  مع وضع سقف زمني قصير للانتهاء منه .. فيكون خطوة ملموسة إلى الأمام. فليس هذا ما يريده ويحتاج إليه الشعب الفلسطيني، ولكنه المتوقع والممكن .

على أن يكون هدف الحوار التوصل إلى وضع أجندة وطنية متفق عليها قادرة على شق طريق الخلاص الوطني، وتأكيد الاتفاق على الأهداف الفلسطينية المركزية الثلاثة في هذه المرحلة (إنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة على حدود 67، وحق العودة والتعويض، والمساواة الفردية والقومية لشعبنا في 48). فهذه الأهداف متفق عليها من الغالبية الفصائلية والشعبية. والانتقال فورًا للاتفاق على خطة عمل كفيلة بتحقيقها، مع التركيز على إحباط المخططات الأميركية الإسرائيلية  لتصفية القضية عبر إحداث المزيد من تمزيق القضية والشعب والأرض، وتطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية حتى قبل حل القضية الفلسطينية، مع إشاعة وهم جديد بأنها في طريقها إلى الحل عبر استئناف المفاوضات، ولكن هذه المرة في إطار إقليمي، وبلورة الخطة الترامبية التي يجري العمل لبلورتها والتي يجب الاستعداد لإحباطها إذا رأت النور