Menu

إلى الرفيق "مقلد": هناك ما يدعو للفرح

محمد رياض

ثورة 25 يناير

بمناسبة ثورة 25 يناير خصّ الشاعر والصحفي المصري محمد رياض "بوابة الهدف" بمقالته هذه، التي هي بمثابة تكثيف لوجع الثورة، وأملها الذي لم ينطفئ. 

إلى الرفيق "مقلد"*: هناك ما يدعو للفرح

 بقلم: محمد رياض**

1

نزلوا من عربة ترحيلات توقفت عند تقاطع شارعي شامبليون وعبد الخالق ثروت، كان واضحًا أنهم يخبّئون آلاتٍ حادةً تحت الثياب المدنية، بعضهم كان يعدّل وضعها أثناء السير، صفّان من "القبضايات" يقودهما أحد العساكر إلى داخل الكردون الأمني، ويستقران في مواجهة سلالم النقابة.

على السلالم كان الرفاق يهتفون، دونهم حواجز الأمن، سرعان ما تجمع آخرون، وانطلق الجميع في الهتاف خارج الحواجز، بعد قليلٍ يفتحونها لتبدأ المطاردات، عقيدة الأمن لا تتغير، بالطريقة نفسها تم اعتقال المئات، فلماذا مررتَ من هنا يا رفيق؟

2

الجهرُ بالصياح ممنوعٌ بموجب المادة 102 من قانون العقوبات، في بلادنا الصياحُ صامت، والعيونُ صامتة، والشعراءُ صامتون، والبشرُ مُتعَبون من المصير، لهذه الدرجة أصبح الحاضرُ عصيًّا على الفهم.

حين يُطلَب منا، نحن الأولياءُ في الوعد بالمستقبل، أن نساهمَ في صناعة الفوبيا من السقوط، وأن نحذّر من انهيار النظام العام: الاستبدادُ أو المجاعة، القمعُ أو الحرب الأهليّة، الموتُ في المكان أو وراء الحدود، فإن بإمكاننا أن نؤديَ المُهمّة على أكمل ما يكون.

سقطنا.

وطنٌ يائسٌ، وجوعٌ، وقتلٌ أثناء المداهمة، وقتلٌ في الشوارع، واعتقالاتٌ بالشبهة، واعتقالاتٌ بالمصادفة، ونخبةٌ فقدت الطريقَ إلى حتفها، مرحلةٌ بكاملها تسقط في قبضة العساكر.

وسقطنا.

حين صار الكلامُ معجزةً في زمن يُملي علينا أن اخرسوا، وحين لم يعد أحدُنا آمنًا من المطاردة، وحين أصابنا الرعبُ من الصباح القادم، ومن الشارع والمقهى، ومن مكالمةِ الهاتف، ومن وصولنا متأخرين إلى العمل، وعودتِنا متأخرين في آخر الليل.

وسقطنا.

حين تعبنا من الركض، وخِفْنا من السجن، وحين بدأنا نودّع المصائرَ مصيرًا وراء آخر، دون أن نتأمّلَ مرةً واحدةً في مصيرنا، وبتنا نخدع أنفسنا بأننا أدينا المسموحَ به في معادلة النضال، ومن حقنا أن نحظى بإحباطٍ هادئٍ مدفوع التكاليف.

وسقطنا.

بين وضوحِ الأهدافِ ومراوغةِ الطريق، التضحياتِ والمواءمات، الحُلمِ والمدرّعة، بين موجاتِ الهتاف الهادرةِ وحصارِ السدّادات الأمنيةِ في الشوارع، بين الإذعانِ والتحايلِ والتمرّد، وبين النقشِ على جدارِ الشمس والنبشِ على حوائط الزنازين، لقد كتبنا وجَعَنا كاملاً بكل الطرق الممكنة.

وسقطنا.

لأننا ننسى ذكرياتِ الدّم، ولا نكترثُ لموتِ إنسانٍ كلَّ يومٍ تحتَ التعذيب، نقولُ إنها ستمر، موجةُ العنفِ والقمعِ والانفجارات، نقولُ إنه سيمر، زمنُ التشكيكِ والتفتيشِ والمزايدات، نقولُ إنهم سيعبرون، اللصوصُ والسماسرةُ والمدرّعاتُ والقتلة والمزيّفون والمفرّطون.

3

مؤلمٌ يا رفيق.. أن تضيعَ ثورةٌ من بين أصابعك، وكنتَ تظنُ أنكَ أحكمتَ قبضتكَ عليها، وعلى جميع أحلامِك، حتى أصبحتَ تشمّها مع الدخان، وتعرفها بالنَظَر، وتملك عليكَ جميعَ الحواسّ كأنها امرأتك، ثم لا شيءَ بعد ذلك، سوى أنكَ أصبحتَ كبيرًا، وأنكَ لا تستطيعُ المغامرةَ من جديد، وأنكَ عبرتَ عُمرَ الانتحار، وأنكَ تماديتَ حتى صِرتَ مثقلاً بالأحمالِ كلِّها وجميعِ التَبِعات، وأنكَ تواجه اتهامًا جديدًا مع كل هتافٍ أو قصيدة، وأنك أصبحتَ عبئًا على السلام الاجتماعيّ، مُثيرًا للفتن، ومُهينًا للحاكم، كما أصبحتَ علامةً على الرعونةِ والحزنِ وانكسارِ الأحلامِ وضياعِ الأهدافِ وفقدانِ المدى ورحيلِ السماء.

مؤلمٌ أن تتحصنَ بخرافةٍ أنتَ تعلمُ أنها لن تكونَ قادرةً على إنقاذك، لكنكَ تلوذُ بها ببساطةِ طفل شوارع يحتمي من البرد تحت عربة نقلٍ كبيرةٍ محمّلةٍ بكلّ شحنتها، ويستدفئُ الصغيرُ بالحرارة التي تنبعث من محرّكها الضخم وقد توقف للتوّ عن دورانه، ويغيبُ الاثنان في السُبات، الطفلُ والمُحرّك، وينسى الصغيرُ أن هذا الثِقلَ الفادحَ سيبرحُ مكانه في الصباحِ كأن لم يكن، وأنه سيكون أوّل الضحايا عندما تعبرُ عجلاتُه القاسية مزدوجةُ الإطار فوق أحلامه تمامًا.

مؤلمٌ بلا هوادة، أن تغيم الرؤيا وينعقد الكلام، ويضيع الوجعُ العنيفُ الشامل، ويصيرُ خافيًا ومتسللاً بين الظلال، لا يكاد يبين ليعرفَ أن البقاءَ مستحيل، وأن الوضوحَ يحتاجُ أعمارًا وأعمارًا من المعاناة، وأي معاناةٍ أكثرَ من استشهاد الجسد، وضياعِ الكتابة، والسيرةِ التي أصبحت غبارًا عالقًا، والرؤيا وقد استحالت كابوسًا باردًا مُحكمَ الأسوار.

4

ليرفعَ كلٌ منا نارَه التي تخصّه، ولنحترق جميعًا كلٌ بطريقته، لنعد للجذوة الأولى من الحريق، فإذا كان الحاضرُ عصيًّا على السؤال، فإن النار المطمورةَ بإمكانها أن تقدّم الإجابة الدّامغة، إنني أريد أن أرفعَ شاهدي وأؤكدَ معاناتي، من أول الحقولِ إلى الضفاف، إنني حرٌ إلى الآن، غير أنني لم أدفعِ الثمنَ كاملاً، أريدُ أن أسدّدَ حصتي، ما زال هناك بالتأكيد ما يمكنُ أن يتغيّر، حتى زمنُ الحصارِ والقتلِ والمراقبةِ الشاملة، يمكنُ أن يتغيّر، ليس سوى أن نقبضَ على الذاكرةِ وهي توشكُ أن تضيع، ليس سوى أن نكملَ الطريق، حتى لو تشابهت علينا الإشاراتُ والأخطاء.

5

كان ممكنًا أن تتأخرَ قليلاً يا رفيق، أو أضيعَ أنا في المقاهي وأبعثرَ القصائد، كان ممكنًا ألا نكونَ معًا ولا ندخلَ التجربةَ من الأساس، كان مقرّرًا ألا أراك، ولكنك أتيتَ لتصعدَ معي، نزعوا هواتفنا وهوياتنا وأخضعونا لتفتيش دقيق في الضمير: لماذا تكتب الشعر؟ وقصائدك، عن الحب أم البلاد؟ سألوا عن "نزار": هل تكتب مثله عن العشيقات؟ عن البنت التي أحببتُها: أين تعمل، وكيف تعيش، ولماذا اعتقلوها؟ سألوك بالتأكيد عن أولادك، وأفكارك، وقصائدك، وماضيك، وطموحك، وأهوائك، وكراهيتك، وجراحك، وجراح الوطن، أعرف أنك لم تنكر شيئًا، ولم أنكر أنا أي شيء، لكننا التقينا من جديد ونحن نهبط السلالم، وكتبنا على بوابة الحجز من الداخل، وراء أعمق حفرةٍ محصّنةٍ في البلاد: "ويتمان: أيتها الحريّة، فليصبهم اليأس منك، فأنا لا أيأس"، ألسنا شاعرين محظوظين؟

تلفّت يا رفيق، كلّهم يريدون الحريّة، كلّهم يطلبون الجمالَ والعدلَ والرخاءَ والكرامة، كلّهم يسألون الثورةَ الجميلةَ أن ترضى وأن تمنح، كلّهم متحرشون يقطعون عليها الطريق، حمقى وسخفاءُ لا يعرفون حقيقتها، كلّهم بلا ملامحَ واضحةٍ، ويريدون أن يسرقوا ملامِحَها النبيلة، كلّهم شواذ ومخنثون في أفكارهم، والثورة عنيفةٌ وبالغةُ الذكاء لا تلتفت إليهم أبدًا، إنها واضحةٌ كالجدران القديمة، لا تتسلّلُ كالمومساتِ فوق السلالمِ الدائريّة، وغير صالحةٍ للتداولِ في المنظّمات، قليلون للغاية من حمّلتهم أمانةً أو قصيدةً أو وجعًا، بينما تمضي في طريقها مكشوفةَ الساقين، باهرةً من الدمِ الساخنِ والبروقِ والرصاص.

ولسنا مغروريْن يا صاحبي، ولكننا نحلُم، ما زلنا نصدّقها ولم نكتشف أنها مخادعة، ما زالت قويةً في ضمائرنا وفي الشوارع، وفي الزنازين ومكاتب التحقيق وقاعات المحاكم، ما زالت تمنحنا النارَ والحضورَ لكي نُدافِعَ عنها ونكْسِبَ الرِّهان، ما زالت تدعونا لندفعَ أيامًا في محبّتها، دمًا من أجل خلاصها وعُرسها وانتصارها في نهاية الطريق، أليس هناك ما يدعو إلى الفرح؟

* الشاعر عبد الرحمن مقلد، رفيق القضية 7956 جنح قصر النيل، مظاهرة "تيران وصنافير"، نقابة الصحفيين المصرية، 13 يونيو 2017. الاتهامات: الجهر بالصياح لإثارة الفتن، التظاهر، التجمهر، إهانة رئيس الجمهورية.

** شاعر وصحفي مصري من مواليد عام 1978، صدر له ديوانين شعريين الأول بعنوان: "الخروج في النهار"، والثاني بعنوان: "يارا"، حيث حصلت قصيدته "يارا" من ذات الديوان، على جائزة غسان كنفاني للكتابة الإبداعية عام 2015.