Menu

الشيزوفرانيا الأخلاقية في "إسرائيل"

تعبيرية

بقلم الأسير كميل ابو حنيش

في كل يوم  ما فتأت "اسرائيل" تفاجئنا  بأحداث وتطورات تنطوي على التناقضات الصارخة والمفارقات الغريبة وهو ما يجعلنا كفلسطينيين - بوصفنا الأكثر معرفة بها- نعجب ونستغرب وكأنّ هذه الدولة ليست "إسرائيل" التي نعرفها، وإنما هي "يوتوبيا" رسم ملامحها الفلاسفة والمفكرون، والقضية هذه المرة التي ينهمك فيها الرأي العام والدولة والصحافة مرتبطة بقضية إنسانية وأخلاقية: وهي قضية طرد اللاجئين الأفارقة، الذين يوصفون بأنهم "متسللين" وفدوا إلى "إسرائيل" في الثلاث سنوات الماضية عبر الحدود المصرية.

انقسم الجدل في الرأي العام "الإسرائيلي"، بين مؤيد بطردهم ووصفهم بـ"الغرباء" الذين يحملون في جعبتهم الأمراض والجرائم والخطر الأمني، وهو رأي حمل ما حمل من شعارات عنصرية ضدهم، إذ تحوّلوا إلى "شماعة" علقت عليها عدد من الجرائم، كالاغتصاب والسرقة والتحرش،  وبين من يدافعون عنهم بحماسة ويرفضون طردهم ويدعون إلى استيعابهم في المجتمع لأسباب أخلاقية وضميرية.

 ونحن بدورنا كفلسطينيين اكتوينا بنيران العنصرية الاحتلالية "الإسرائيلية"، وعرفت جلودنا كل أصناف الفاشية الصهيونية، تجعلنا نستغرب ونتساءل إن كانت هذه الدولة  "الإسرائيلية" من حقها أنّ تصدق بأنّ لديها أخلاق إنسانية، وهي تنتهج أقصى وأفظع صور التمييز والعنصرية  والكراهية بحقنا كفلسطينيين .

 "إسرائيل" بوصفها مجتمع استيطاني يقوم على أنقاض الشعب الفلسطيني وما ارتكبته، ومازالت من وقتل وحصار وإذلال يومي، بحيث تعد من أهم الدول التي تسببت في ظاهرة اللاجئين.

فُصام في الشخصية

 في ذات الوقت،  تزعم إنّها دولة ديمقراطية تنتمي إلى العالم وتمرّغ وجهها القبيح في المساحيق الاخلاقية، وجرائم "إسرائيل" وممارساتها البربرية أكثر من أنّ تحصى ولكن ما يثير السخرية أنها تحاول تقديم نفسها كدولة مسؤولة لديها منظومة قيمية وأخلاقية، وهو أمر يرفضه الواقع وينم عن فُصام في الشخصية الإسرائيلية العامة، ومن أمثلة ذلك: تأييدها للنزاعات الاستقلالية لدى عدد من الشعوب ودعمها بحماسة استقلال جنوب السودان ، وتأييدها لاستقلال الأكراد وتظاهرها مع الشعوب التي تتعرض للقمع والاستبداد، كما نراها تهرع أثناء الكوارث والزلازل وترسل أطقمها الطبية والإغاثية لتقديم يد العون للشعوب المنكوبة، في محاولة لإظهار نفسها بمنظر الدولة المسؤولة والأخلاقية،  وكل هذه المواقف تتناقض مع كونها دولة محتلة تمارس التمييز العنصري والإذلال وتشن الحروب ضد الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة .

نحن، كفلسطينيين، لا نملك إلا التعاطف مع قضايا التحرر لشعوب العالم، ونرفض كافة أشكال التمييز والعنصرية والاضطهاد والاستبداد،  كما لا نملك إلا التعاطف مع كافة اللاجئين في كافة أرجاء العالم، ونضم أصواتنا لكافة الأصوات التي تدعو لرعايتهم وعدم اختراق الحدود والعمل على احتضانهم وإنهاء بؤسهم وشقائهم ، ولكن ذلك لا يمنع من تسليط الضوء على بعض الأمراض المتفشية  في "إسرائيل"، وكشف تناقضاتها، خاصة أنها تستغلها لتقديم نفسها بصورة مغايرة لحقيقتها، بصفاقة تقديم نفسها على أنها "دولة أخلاق" تتسم بإنسانية مرهفة.

تسونامي اللجوء

لن نتوقف أمام لوحة التناقضات الداخلية لهذه الدولة، وما تنطوي عليه من تمييز اثني وطبقي وصور فاضحة تخرق بديهيات  العلاقات الإنسانية،  كما لن نتوقف أمام التشوهات التي تعاني منها مركبات المجتمع الاسرائيلي،  فهي معروفة،  ولكننا سنتطرق إلى اندماج الإسرائيليين في جدال ساخن حول قضية  استيعاب أو طرد اللاجئين الأفارقة.

وقبل معالجة هذه القضية وردود الأفعال المختلفة عليها، علينا مقارنة قضية اللاجئين من زوايا عامة ووضعها في إطارها العالمي، إذ تعتبر قضية اللاجئين ظاهرة عالمية خاصة في ظل العولمة، وتعود أسباب هذه الظاهرة المتنامية لعوامل مختلفة وأبرزها:

العامل الاقتصادي:  في ظل تمركز الثروات في أيدي القلة، إذ يتركز أكثر من 90% من الثروة  العالمية بأيدي 1 % فقط من البشر، في حين تهيمن شركات متعددة الجنسيات على الاقتصاد العالمي وهو ما نجم عنه نهب ثروات  الشعوب وإثقال كاهلها، ما تمخض عن مجاعات وأوبئة وحروب، حفّز على فرار الملايين من هذا البؤس عبر موجات لجوء مكثفة من الجنوب الفقير إلى دول الشمال الثرية.

فبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن أكثر من  2 مليار من البشر يعانون من شح في المياه، فيما يموت أكثر من 24 ألف يوميًا بسبب الجوع.  وتشير التقديرات أنه من المتوقع  أن تتضاعف أعداد اللاجئين إلى مليار نسمة بحلول سنة 2050 .

 يقول المؤرخ العالمي "ايريك هوبس باوم"  في كتاب "أزمنة متصدعة": (كلما زادت الفجوة بين بلاد الثروة والسلاح وبين بلاد الفقر تزداد تيارات البشر، التي تنساب من إحداها إلى أخرى)، وفي السنوات الأخيرة تنامت حركة الهجرة نحو البلدان الثرية،  خاصة نحو البلدان الأوروبية والولايات المتحدة، وتفيد التقارير الإخبارية شبه اليومية، عن غرق أعداد كبيرة من هؤلاء اللاجئين في البحر، ومن ينجو منهم يذهب ضحية الاستغلال والاستعباد ويجري إغلاق أبواب الدول في وجوههم وتتم مطاردتهم وإعادة ترحيلهم.

 تحوّل هذا البؤس إلى مادة دسمة لأحزاب اليمين في أوروبا،  التي استغلت قضية الهجرة غير الشرعية في الانتخابات لإذكاء النزاعات العنصرية وتخويف الشعوب من اللاجئين، أما رئيس الولايات المتحدة الحالي دونالد ترامب  فيعبر بوضوح عن هذه الحالة، إذ كانت قضية استغلال مسألة اللاجئين إحدى العوامل التي قادت إلى فوزه بالانتخابات، ويهدد بطرد ملايين اللاجئين وبناء الأسوار على حدود الولايات المتحدة الجنوبية .

"نفايات" بشرية

 أما المفكر العالمي "ريموند بومان فيرى" فيعيد تنامي ظاهرة تدفق اللاجئين نحو الشمال بأنها (نتاج للحداثة السائلة، إذ تزايدت أعداد الفقراء والمهمشين في عصر العولمة وتجري عملية إثقال مليارات البشر،  وقذفهم إلى هامش الحياة، إذ  تغدو الجماعات البشرية الفقيرة أقرب إلى النفايات البشرية حسب ثقافة العولمة)، ويقول بومان في كتاب الأزمنة السائلة (أن اللاجئين هم التجسيد الحقيقي إلى ما نسميه النفايات البشرية فليس لهم وظيفة نافعة يقومون بها في بلد الوصول أو الإقامة المؤقتة، وليس لهم نية أو إمكانية باستيعابهم واندماجهم في الجسد الاجتماعي الجديد)، ويضيف بومان في ذات الكتاب (ربما أشبع تباعات انتصار العولمة للحداثة هي الأزمنة الحادة لصناعة التخلص من النفايات البشرية وكل قاعدة تفرزها الأسواق الرأس مالية تضيف ألافاً جديدة وربما ملايين من أعداد المحرومين )، لقد باتت الدول الفقيرة تصدر اللاجئين بعد أن جرى نهب مواردها من قبل الشركات العملاقة، وأينما ذهب اللاجئون، فهم مرفوضون وغير مرحب بهم، فهم مصدر إزعاج وقلق بالنسبة للدول المضيفة، الأمر الذي فاقم من مأساتهم واغترابهم وتدهور أوضاعهم .

ثلاثة عوالم

 بدوره، يقول "اريك هوبس باوم"  في مؤلفه "أزمنة متصدعة":  ( المهاجرون اليوم يعيشون ثلاثة عوالم:  عالمهم الخاص بهم، وعالم البلد المهجر ، وعالم البلد الكوني، الذي صار ملكية مشتركة للبشرية بفضل التكنولوجيا والمجتمع الرأسمالي الاستهلاكي الحديث ومجتمع الوسائط). إذاً قضية اللاجئين هي قضية عالمية ناجمة بالأساس عن تمركز الثروات التي تقود إلى الحروب والفقر والمجاعات في مختلف البلدان الفقيرة، وفي العودة إلى قضية اللاجئين الأفارقة في "إسرائيل" وما شغلته مؤخرًا في الرأي العام يفترض التنويه، إن استقبالهم منذ البداية لم يبعث بالارتياح لدى الدولة والمجتمع العبري، ونسبت إليهم في السنوات الماضية جرائم عديدة، وهو ما كان محفزًا "لإسرائيل" لبناء جدار فاصل مع الحدود المصرية لوقف تدفق اللجوء الأفريقي إليها، لكن ما حجم اللجوء الأفريقي إلى "إسرائيل"؟ في سياق الإجابة عن هذا السؤال، كشفت عنها الصحف الإسرائيلية مؤخرًا، إذ أشارت صحيفة "يديعوت أحرنوت" بعددها الصادر في 26يناير /2018، بأنه وصل إلى "إسرائيل" نحو 64 ألف لاجئ أفريقي ، 92% منهم تدفقوا من أريتريا والسودان، وجرى  الزج بهم في هوامش البلدات الإسرائيلية وضواحي المدن الفقيرة، وعملت "إسرائيل" على تجميع الآلاف منهم في معسكرات اعتقال في صحراء النقب، وطوال السنوات الماضية أجرت "إسرائيل" عملية ترحيل لهم في بلدانهم الأصلية، أو إلى بلد ثالث حتى تبقى منهم قرابة 35 ألف لاجئ .

ولدى "إسرائيل" قرارًا بترحيلهم جميعًا إلى بلد ثالث، وادعت الحكومة الإسرائيلية أنها عقدت اتفاقًا مع رواندا لاستقبالهم، والتي تقوم بدورها بإعادة تهجيرهم إلى دول أخرى حال وصولهم. وتطورت هذه القضية في الأشهر الأخيرة  بعدما رفع اللاجئين التماسًا إلى المحكمة العليا الإسرائيلية لوقف عملية  ترحيلهم بوصفهم لاجئين سياسيين، وقد تحركت فئات في أواسط المجتمع العبري للتعاطف مع هؤلاء اللاجئين، وتدعو إلى  استيعابهم في "إسرائيل"،  ومن بين هذه الفئات ناجون من "الهولوكوست" الذين وصفوا ترحيل هؤلاء اللاجئين بمثابة قتل لهم،  كما رفض طيارون من شركة العال  نقلهم على متن الطائرات من باب التعاطف معهم، وتعاطفت نخبة من الأكاديميين والمفكرين والدبلوماسيين مع اللاجئين، واعتبروا ذلك إساءة إلى "إسرائيل" وسمعتها الأخلاقية في العالم، إضافة إلى تعاطف قطاعات أخرى أثارت هذه القضية في مواقع التواصل الاجتماعي.

وفي إطار ما نشرته "يديعوت أحرنوت" حول هذه القضية، يقول "يوشي ادلشتاين"، مدير دائرة الهجرة في وزارة الداخلية الإسرائيلية، في دفاعه عن قرار الحكومة "أن ما يجري لا يعد طردًا وإنما  إبعادًا"، وهو عذر  - عدا أنه أقبح من ذنب- فهو يحمل من السخرية أنه اعتبر الإبعاد مسألة أخلاقية،  بينما الطرد مسألة منافية للأخلاق .

ويلعب "ادلشتاين" على وتر "الهولوكست" لتغطية قرار الحكومة بقوله (والدي أحد الناجين من الهولوكوست، وعندما يقول أحد الناجين من المحرقة أنكم ترسلون اللاجئين إلى الموت فذلك يؤلمني، كما أننا منحنا تأجيلًا للإبعاد حتى شهر  نيسان حتى يقرروا العودة إلى بلدانهم أو الترحيل إلى دولة ثالثة )، إذًا علينا البحث من المعجم عن الفارق بين الطرد والإبعاد لنخفف عن هذا المسؤول ونريحه ضميرياً..!

 لسنا الوحيدين

وكشف "ادلشتاين" عن طرد حكومته لـ 5500 متسلل غير شرعي في سنة 2017، مبررًا ذلك الفعل بالقول: ( نحن لسنا الدولة الوحيدة التي تطرد اللاجئين ) وهذا كلام منسجم تماماً مع منطق الدولة، لا سيما إذا كانت "دولة اسرائيل" المعروفة بسياساتها العنصرية،  أما الغريب فهي تلك الصحوة الأخلاقية من جانب قطاعات الرأي العام التي تبدو منافية للواقع في "إسرائيل"، إذ يتناسون آلاف الممارسات التي تنتهجها دولتهم بحق الشعب الفلسطيني في كل يوم .

أمّا مديرة القسم الجماهيري في مركز اللاجئين "سيجال رونز فتبدي"، أبدت  احتجاجها على سلوك حكومتها في حق اللاجئين بقولها: (إن حكومة إسرائيل تزعم أنها توصلت إلى اتفاق مع دولة روندا لاستقبال اللاجئين، ولكن روندا أنكرت وجود مثل هذا الاتفاق)،  وتضيف "رونز" ( نحن نبدي احتجاجنا ونرفض قرار حكومتنا في طرد هؤلاء اللاجئين بالقوة )،  لكن أغرب ما قالته هذه السيدة ( نحن كدولة لدينا التزامات قانونية وأخلاقية لقد أخذنا على أنفسنا جزء من سلوك الدولة الديمقراطية بالالتزام بالدفاع عن اللاجئين، وها نحن ندوس هذه الالتزامات، إن سلوك حكومتنا يعتبر وقاحة). ونحن نتساءل أين تعيش هذه السيدة في السويد أم في النرويج ؟ أين هي التزامات "إسرائيل" القانونية والأخلاقية باتجاه اللاجئين ؟ وإذا كانت متعاطفة مع قضايا اللاجئين لماذا لا تتعاطف مع ملايين اللاجئين الفلسطينيين الذين شردتهم دولتها ويعيشون في مخيمات منذ سبعين عامًا؟!

 على ما يبدو، فإنه ينطبق على هذه السيدة وعلى  الفئات الأخرى،  التي أبدت تعاطفًا مع اللاجئين الأفارقة، ما قاله "ايريك هوبس  باوم" في مؤلفه " العولمة والديمقراطية والإرهاب" :( ثمة كلمات لا يجب أن ينتسب إليها أحد من الناس، العنصرية والإمبريالية، وثمة كلمات أخرى يدعي الكل نسبه إليها كالأمهات والبيئة، والديمقراطية واحدة من هذه الكلمات التي يحاول الكل أن يلتصق بها وينسبها لنفسه)،  فهذه الفئات التي تزعم تعاطفها مع اللاجئين،  مصابون على ما يبدو بـ"الشيزوفرانيا" إذ أنهم يتجاهلون ممارسات دولتهم اليومية في حق الفلسطينيين، أما المشهد اللافت الذي أبرزته الصحيفة نفسها، في إطار تغطيتها لقضية ترجيل المهاجرين الأفارقة، مظاهرة مؤيدة بشدة لطرد هؤلاء اللاجئين، إذ حمل المشاركون في التظاهرة لافتات كتب عليها "الإصلاح في جنوب تل أبيب يبدأ بطرد المتسللين"، فمصطلح "المتسللون" هو التسمية التي أطلقها الإعلام العبري اتجاه الأفارقة، وهو ما يحتم علينا أن نوضح أن جنوب تل أبيب،  هي من الضواحي الهامشية  والفقيرة وسكانها من اليهود الشرقيين والأثيوبيين، وتعتبر هذه الضاحية موطئ قدم العالم السفلي والعصابات الاجرامية في "إسرائيل" وسكان هذه الضاحية يعانون منذ عقود من الفقر والتهميش والإقصاء، وفوق كل ذلك يرون أن إصلاح عالمهم يبدأ بطرد هؤلاء اللاجئين البائسين وكأن هؤلاء اللاجئين هم المسؤولين عن هامشية سكان هذه الضاحية، وهذه إحدى الصور الأخرى التي تعبر عن حالة الشيزوفرانيا في "إسرائيل" .

فقدان ذاكرة

يتعين علينا كفلسطينيين، أن نعلن عن تعاطفنا الكامل مع هؤلاء اللاجئين، بل ومع كافة اللاجئين في العالم ومع كل الذين يتعرضون للظلم والاستغلال في هذا العالم، كما نؤيد أي عمل إنساني نبيل متضامن مع هؤلاء اللاجئين في وجه العنصرية الإسرائيلية،  ولكن من حقنا أن نتساءل: ألا  يعكس هذا التضامن نوعًا من الفصام الأخلاقي داخل المجتمع الاسرائيلي ؟ من حقنا أن نجادل هذه الفئات التي تحاول أن تتظاهر بالحس الأخلاقي وهي تشكل مجتمعاً في دولة استيطانية عنصرية لم تتراجع يومًا عن ممارساتها البربرية في حق الشعب الفلسطيني في شكل يفوق أضعافًا مضاعفة ما يعانيه هؤلاء اللاجئين في "إسرائيل"،  فهل تتجزأ الاخلاق ؟ ولماذا لا نرى مواقفهم ونسمع أصواتهم عندما يتعلق الأمر في ممارسات دولتهم في حق الشعب الفلسطيني؟

عندما تعلنون عن تضامنكم مع اللاجئين الأفارقة يتعين عليكم أن تتذكروا 7 ملايين لاجئ فلسطيني لايزالون يعيشون في مخيمات بائسة منذ سبعين عامًا، هؤلاء اللاجئين قامت بتشريدهم دولتكم  التي تسمي نفسها" دولة ديمقراطية"، في الوقت التي تستقبل به دولتكم من اليهود المهاجرين سنويًا، تجري عملية طرد ممنهج  للشعب الفلسطيني من أرض وطنه، وتمارس بحقه أفظع الممارسات من قتل وتشريد وهدم البيوت، وإبعاد وحروب وحصار ومصادرة أرضه ومياهه.

في قطاع غزة يعتبر أكثر من 70% من سكانه لاجئون لم يأتوا من أرتيريا والسودان، بل هجرتهم دولتكم ولا زالت تحاصرهم منذ سنوات طويلة، وتجوعهم وتشن حروبها عليهم، وارتكبت بحقهم هولوكوست حقيقي في حروب 2008، 2012، 2014 ولا نسمع أصواتكم وتنديداتكم اتجاه هذه الممارسات .

علينا تذكيركم بالمهجرين العرب الذين يحملون جنسيات إسرائيلية وهم يشكلون نسبة 15% من العرب والفلسطينيين في الداخل،  وهم مهجرون منذ 70 عاما ويبعدون مسافات قصيرة عن قراهم وأراضيهم، ولا نسمع منكم كلمة واحدة تدعو إلى إنصاف هؤلاء اللاجئين، وعندما كشف المؤرخ الاسرائيلي "إلان بابه" عن جرائم التطهير العرقي أثناء نكبة عام 48 جرى ملاحقته وقمعه من التدريس بالجامعات الإسرائيلية، ولم نسمع صوت الأكاديميين الموقرين ولا المفكرين المحترمين وهم يدافعون عنه. لم نسمع أصواتكم في التنديد بقانون الحاضر الغائب الذي صادر غالبية الأراضي الفلسطينية، ولم نسمع رأيا واحداً بالأواسط الأكاديمية والثقافية والفكرية يطالب بعودة اللاجئين إلى ديارهم.

وفي النقب توجد 39 قرية لا تعترف بها دولتكم، ويقطنها أكثر من 70 ألف من عرب النقب، وتجري عملية طرد ممنهج لهم وتصادر أرضهم وتقام عليها مستوطنات للمهاجرين الغرباء، وتجري عملية هدم شامل لبيوتهم وقراهم ولا نرى ولا نسمع عن مواقفكم الأخلاقية.

قبل أيام  فقط أعلن ترامب عن قطع الأموال الأمريكية عن الأونروا، التي تعنى بشؤون اللاجئين الفلسطينيين، ورئيس حكومتكم نتنياهو رحب بهذا القرار ولم تستيقظ ضمائركم ومواقفكم الأخلاقية.

كشف حساب

وفي كل يوم تجري عملية إصدار التصريحات المنادية لطرد العرب وترانسفير الجماعي للفلسطينيين، ولازالت آلاف العائلات تنتظر لم شملها منذ سنوات طويلة، وأصدرت دولتكم عشرات القوانين العنصرية المعادية للعرب، هذه القوانين التي تتناقض تناقضًا صارخًا مع مزاعم الديمقراطية، ولا نشهد تنديداً من أواسطكم بهذه الممارسات.

لم نسمع تنديداً الناجين من المحرقة على إحراق الطفل : محمد أبو خضير، وإحراق عائلة دوابشة، ولم نجد من ينتقد ويندد بقتل آلاف الأطفال الفلسطينيين، واعتقال الآلاف منهم في سجون الاحتلال.

ولم نسمع احتجاجكم على هدم البيوت ومصادرة الأراضي وبناء جدار الفصل العنصري، ولم نسمع أصواتكم تضامنًا مع النساء اللواتي ولدن وأجهضن على حواجز جيشكم الذي تدعون أنه أكثر الجيوش أخلاقية بالعالم.

أين احتجاجات الشعراء على اقتلاع اشجار الزيتون سنوياً على أيدي المستوطنين الرعاع بالضفة الغربية؟

اذهبوا وتضامنوا مع عشرات الآلاف من العمال الفلسطينيين الذين يكدحون كالعبيد في "إسرائيل" وبأجور متدنية، فوق كل ذلك تجري عملية مطاردتهم من قبل الشرطة واعتقالهم والزج بهم في السجون،  وعلينا تذكيرهم أن هؤلاء العمال هم سكان البلاد الأصليين وليسوا لاجئين أو مهاجرين غرباء.

لا نجد أحداً في أواسطكم يحتج على شعارات "الموت للعرب" بحيث تجري تجسيد هذه الشعارات بالشارع بشكل يومي بينما تعتبرون قرار حكومتكم بطرد اللاجئين الأفارقة، هو موت لهم ألا يعبر هذا عن فصام أخلاقي؟ لم نر تعاطفاً مع آلاف البائسات اللواتي يجري تهريبهن من كافة دول العالم ويجري إجبارهن على امتهان الدعارة في "إسرائيل" وتحديداً في جنوب تل أبيب، التي تظاهر سكانها مطالبين بطرد اللاجئين تحت مزاعم أن طردهم سيصلح أحوالهم..!.

 لماذا لا تدين سياسات دولتكم التي تبيع السلاح لعشرات الدول الفقيرة، وتحديداً الدول الأفريقية التي تذبح شعوبها وتحولهم إلى لاجئين يهربون من الموت والمجاعات؟! ومن المفارقات أنّ طيارو شركة العال الذين رفضوا ترحيل هؤلاء اللاجئين بأسباب أخلاقية هم ذاتهم الطيارين الذين نقلوا شاحنات السلاح إلى إرتيريا وجنوب السودان وروندا، هذا السلاح الذي ساهم في إذكاء نيران الحروب الأهلية وحوّلت الناس إلى لاجئين يتدفقون إلى مختلف بلدان العالم، بما فيهم اللاجئون ذاتهم المتواجدون حاليًا في "إسرائيل".

إنّ المواقف الأخلاقية، لا يمكن لها أن تتجزأ، أمّا تضامنك مع اللاجئين الأفارقة -وإن بدا أخلاقيًا-  إلّا أنه يعبر عن حالة من الشيزوفرانيا الأخلاقية أو محاولة لإطفاء مسحة أخلاقية على ممارسات دولتكم العنصرية، فمواقفكم هذه ما هي إلاّ مواقف استثنائية، في محاولة يائسة للتظاهر بالحس الإنساني والأخلاقي. فالمجتمعات الاستيطانية التي تقوم على أنقاض الشعوب وتمارس قهرها اليومي لا يمكن أن يكون لها أخلاق تتفاخر بها،  ومن كان منكم يبحث عن قضية ليناضل تحت راياتها ويثبت من خلالها حسه الإنساني وموقفه الأخلاقي، فعليه أن ينظر حوله ويفتح ملف القضايا التي تسبب بها، وإلا فأنتم مصابون بعمى ألوان أخلاقي، إلى جانب إصابتكم بـ"الشيزوفرانيا".