Menu

ما يميز الدولة عن الدين

عبد الإله بلقزيز

حين يتقرر عندنا أن الدولة مؤسسة اجتماعية اصطنعها الناس لتنظيم الاجتماع الإنساني على القواعد الضامنة للمصلحة العامة، والأمن الاجتماعي والسلّم المدنية؛ وأنها «مؤسسة» قامت بالتوافق والتراضي، على قاعدة اتفاق قضى بالتنازل عن بعض ما يعدّ في جملة الحقوق الطبيعية لجسم سياسي يترجم ذلك، من خلال تأسيس حق مدني عام، وإذا تقرر عندنا أن أفراد العقد الاجتماعي؛ أي المتعاقدين على إقامة الدولة، يصبحون بقوة أحكام ذلك العقد مواطنين يتمتعون بحقوق مدنية وسياسية تضمنها قوانين الدولة، ويشاركون في إدارة الشؤون العامة وفي مراقبة السلطة عبر ممثليهم.. حين يتقرر ذلك، يكون معناه أن الدولة مؤسسة دنيوية في المقام الأول، وألاَّ صلة لها بهدف آخر غير هدفها الدنيوي الرئيس: رعاية المصلحة العامة وصون الأمن والسلم.

ومن هنا تبطل الدعوات الكثيرة إلى قياس الدولة بميزان الدين، أو إلى النظر إليها بما هي كيان محكوم بمبدأ ديني ما، أو تقدير فعلها وإنجازها بمدى الوفاء أو عدم الوفاء للأحكام الدينية. وما أكثر من يخوضون في هذا الضرب من النظر إلى الدولة، ذاهبين إلى أنها إن لم تكن جزءاً من مستلزمات الدين ومقتضياته، فهي على الأقل مدعوّة إلى أن تسخر إمكاناتها وسلطانها السياسي لمصلحة الدين.

فأما الذين يماهون مماهاة كاملة بين الدولة والدين، فيفترضون أن نظام الدولة ينبغي أن يشتق من الدين، وأن يطبق تعاليم الدين وأحكامه، فقد يختلفون بموقف الغلوّ هذا عن الذين يصلون الدولة بالدين، من زاوية أنه لا مصدر لشرعيتها إلا هو، ولا معيار للحكم على أدائها إلا معيار مدى التزامها أحكامه، ولكن الفريقين معاً يلتقيان في حسبان الدين من ضرورات الدولة ومسوغات وجودها، وفي أن للدولة أهدافاً وغايات أخرى أبعد من الأهداف والغايات الدنيوية.

ولقد تنوع التعبير عن نظرة المماهاة تلك، كما عن فرضية الصلة التلازمية «بين الدولة والدين»، في دعوات من قبيل الدعوة إلى إقامة «الدولة الدينية» أو، في الحالة الإسلامية، إقامة «الدولة الإسلامية»، أو تطبيق الشريعة... إلخ.

وهي دعوات تأخر الإفصاح عنها لدى جماعات «الإسلام الحركي» بفصائلها كافة: لا فرق بين من يدعي «الاعتدال»، مثل جماعة «الإخوان المسلمين»، ومن يعد مغالياً أو متطرفاً مثل «القاعدة» و «داعش»، ومن سبح في فلكهما .

ليس للدولة أي دولة دين تدين به، على نحو ما يعتقد الذاهبون إلى إقامة التلازم «الماهوي» بينها والدين؛ فما من دولة متدينة، وما من دولة ملحدة في التاريخ؛ الناس هم من يدينون، أو لا يدينون، بدين ما من الأديان.

أما وصف دولة ما بدين ما (إسلامية، مسيحية، بوذية...)، أو نزع الطابع الديني عنها (ملحدة، مجوسية، لا دينية...) فتزيد من القائل الذي لا يفصح سوى عن جهل محترم لمعنى الدولة ! إنه أشبه ما يكون بوصف فيزياء ما، أو كيمياء أو رياضيات أو بيولوجيا، بأنها إسلامية أو يهودية أو هندوسية !

ليس للدولة من عقيدة دينية، إذن، وإنما مواطنوها هم من يعتنقون هذا الدين أو ذاك، وهم من يُحاسَبون على إيمانهم من ربهم، أما الدولة فلا تحاسب يوم القيامة، ولا تدخل الجنة أو النار، وإنما تحاسب من مواطنيها فقط بحسبانهم من أقاموها بالاتفاق والتوافق والتراضي.

وإذا كان من عقيدة للدولة، فإن عقيدتها «هي» السياسة والمصلحة العامة. ولأنها كذلك، فهي لا يعنيها عقائد مواطنيها، ولا تنحاز إلى عقيدة بعينها من عقائدهم، أو إلى مذهب بعينه من مذاهبهم، وإلا تخلت بذلك عن كونها دولة، وأصبحت حزباً أو فرقة أو مذهباً. كل ما يعنيها من عقائد مواطنيها، ألاَّ تؤثر ممارسة العقائد تلك من المؤمنين، على السلم المدني وعلى حريات المخالفين، بما يكون من شأنه أن ينال من الاستقرار الاجتماعي والوحدة الوطنية، أي أيضاً من استقرار الدولة.

وإلى ذلك، فالدولة شأن من الأمور العقلية، كالسياسة، لا من الأمور الشرعية؛ إذ مبناها على اتفاق الناس واختيارهم وإرادتهم، لا على نص من دين.

اليهودية وحدها تذهب إلى القول إن الدولة جزء من الدين نص عليه في الأسفار، وإنها قامت على عهد بين الله و«الشعب المختار»، فأقامها النبي موسى على هذا الأساس قبل أن تضمحل فيها وشائج العهد مع هارون. وليس في المسيحية نص على الدولة، حتى إن عيسى عليه السلام (يسوع المسيح) قال إن مملكته ليست من هذا العالم، وحث أتباعه على اتباع قوانين الإمبراطورية.

أما أن تختلق الكنيسة البابوية ذرائع لدينية الدولة، باستثمارها تعاليم بطرس الرسول، فذلك ليس من المسيحية كدين، بل من الكنيسة الرومانية كمؤسسة. أما الإسلام فأبعد الأديان عن التشريع للدولة.

حتى الخلافة نفسها التي اعتبرها الفقهاء مؤسسة دينية وطعن في ذلك مسلمون كثر فكانت اجتهاداً من كبار الصحابة، ولم تنشأ بمقتضى نص ديني.

وهكذا، فقد ولدت الدولة في الأديان لا ثمرة نص ديني عليها يجعلها من لوازم الدين، بحيث لا قيام لأمره إلا بقيامها، وإنما لأن الحاجات والمصالح الضاغطة للمجتمعات المؤمنة قضت بقيامها، علماً أن أكثر تلك المجتمعات عرف الدولة قبل اعتناقه الأديان التوحيدية تلك.