Menu

في ذكرى حلم وحدوي أجهضه الانفصال

عبد الإله بلقزيز

لم يكن حظ الوحدة المصرية السورية (1958-1961) أفضل حالاً من حظ محاولة التوحيد بين البلدين في عهد محمد علي وابنه إبراهيم باشا قبل ذلك التاريخ بما يزيد، قليلاً، على قرن وربع القرن، كلاهما تعرَّض للنكسة والانفراط.

ولكن بينما كان على تجربة حكم إبراهيم باشا لبلاد الشام، أن يَنتهيَ بعملية عسكرية خارجية دولية، شاركت فيها بريطانيا وفرنسا، مع غريمتهما الامبراطورية العثمانية، كان على الجمهورية العربية المتحدة أن تسقط بانقلاب عسكري عليها، نظمته قوى انفصالية سورية أدّت، بالوكالة، المهمّات التي لم تنهض بها، مباشرة، القوى الخارجية المعادية وعلى رأسها الولايات المتحدة و«إسرائيل». النتيجة واحدة، في الحاليْن، وإن اختلفت وسائل التخريب وقواه.

لا يمكن لتكرار حدث تخريب الوحدة بين البلدين مرّتين، في العهد الحديث، إلا أن يستوقف المرء للتفكير في الأسباب التي تَحمل قوى من الخارج ومن الداخل، على معالنة الوحدة بين البلدين اعتراضاً، والنظر إليها بما هي خطّ أحمر غير قابل للتجاوز، واستنفار القوى لضربها إن قامت. ولقد يقول قائل، هنا، إن عوامل الفشل ليست خارجية حصراً، بل داخلية أيضاً، ولا يمكن تجاهُلها والتغطية عليها.

ولقد يستدل على ذلك بأن انفراطَها المعاصر (في سبتمبر/أيلول من عام 1961)، إنما أتى بفعل أيد سورية ولم يتولد من عدوان أجنبي. ومع أننا لا نستبعد ولم نستبعد يوماً أن تكون للداخل أسبابُه وللأخطاء في بناء الوحدة وإدارتها أسهم في ما حصل، إلا أننا لا نرى في عوامل الداخل عوامل رئيسة وحاسمة؛ فكم من وحدة في التاريخ قامت في لجة الأخطاء، ولكنها صمدت في امتحان التناقضات الداخلية. ونحن بالأحرى، أَمْيَل إلى الظن بأن عوامل الداخل هي، في أحسن أحوال فعلها التخريبي، عوامل مساعدة يمكن استثمارها في أي مشروع عدواني خارجي للإطاحة بالوحدة. بل نذهب، أبعد من هذا، إلى الظن بأن بعض ما نحسبه داخلاً في عوامل الداخل هو، في الأصل، من ثمرات التدخلات الأجنبية المتسربة من بوابات عدة.

من المنطلق هذا نذهب إلى أن وحدة بين مصر وسوريا تقع في قلب ممنوعات سياسات القوى الدولية ذات المصالح النافذة في الوطن العربي. وليس يهم السياسة الاستعمارية تلك، مَن تكون النخبة السياسية التي تقود مشروع التوحيد: تقدّمية أو غير تقدّمية، ليبرالية أو اشتراكية، ملكية أو جمهورية، المهم أنّ عليها أن تقطع الطريق على أيّ خطوة من خطوات التوحيد القومي لمنطقة عدّها الاستعمار، والامبريالية بعده، مسرحاً للنفوذ ومرتعاً للمصالح. لم تحارب بريطانيا وفرنسا الدولة العثمانية طويلاً من أجل أن يظفر محمد عليّ باشا وابنه ببلاد الشام، ولم تحارباها في الحرب العالمية من أجل أن يقيم فيصل دولة عربيّة، كانتا تحاربان من أجل وراثة أملاك الامبراطورية العثمانية، وهو ما تم لهما بعد الحرب الأولى. ولم تُزِح الولايات المتحدة النفوذيْن البريطاني والفرنسي من الوطن العربي بعد «حرب السويس» (1956) من أجل أن يظفر جمال عبد الناصر بوحدة مع سوريا مقدّمة لوحدة عربية، وإنما من أجل وراثة نفوذهما، وهو ما تحقّق لها كلياً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

مَن لم يأخذ العامل الاستعماري - الامبريالي في حسبان التحليل، لن يقْوى على فهم الأسباب التي عرَّضتْ وحدةَ مصر وسوريا للتخريب، بل عرّضت وحدة سوريا الكبرى نفسها للتمزيق (بعد الحرب العالمية الأولى)، فوحدةُ البلديْن كانت تعني، عند القوى الاستعمارية، وما تزال، وحدة إفريقيا العربية وآسيا العربية؛ وقطع طريق الهند في الماضي القريب ( القرن ال19)، وتهديد وجود «إسرائيل».

وحين تكون البلاد العربية ملتقى قارات ثلاث، والمَعْبَر الرئيسي لتجارة الطاقة: بحراً وبراً، والمكان الذي تقوم في قلبه «إسرائيل»، والعالم المهجوس بفكرة الأمة ووحدتها... فلن يكون لأحكام هذا الموقع الجيوستراتيجي المميَّز أن تقضيَ بالسماح لأي عملية توحيد بأن تجري فيها ولو كانت بين دولتين، وخاصة حينما تكون الدولتان كبيرتيْن في الإقليم (مصر وسوريا، العراق وسوريا سابقاً، المغرب والجزائر...).

وبعد، ينسى الكثيرون في هذه الذكرى السنوية الستين لإعلان قيام الجمهورية العربية المتحدة أنّ الوحدة بين مصر وسوريا لم تولد بضغط من عبد الناصر على سوريا ورئيسها (شكري القُوَتلي)، بل فرضَها عليه أمران اثنان، أحدهما استراتيجي والثاني طارئ. ومردّ الأول منهما إلى ما تعنيه سوريا في عقيدة الأمن القومي المصري من مركز لا يكون الأمن ذاك متحققاً وموفوراً إلاّ به. وإذا كانت العقيدة هذه قديمة، منذ محمد عليّ باشا؛ بل منذ عهد الأيوبيّين، فقد رفع من معدّل الإيمان بها قيام «إسرائيل» على أرض فلسطين (أي في قلب سوريا الكبرى)، وتهديدها الدائم لمصر وسوريا. أما مرد الثاني فإلى رغبة سوريّة جامحة في وحدة بين البلدين عبّرت عنها شرائح المجتمع السوري كافة (الرئيس والجيش و«حزب البعث» وسواه من أحزاب وطنية)، لم يَجد عبد الناصر حيالها سبيلاً للردّ، بل هي رغبة اقترنت بإلحاح شديد أحرج عبد الناصر في ما روى محمد حسنين هيكل في كتابه «سنوات الغليان» وبَدَا كما لو أنه في مقام الضغط عليه. وليس يعني هذا أنّ عبد الناصر ما أراد الوحدة، أو أنها فُرِضت عليه، وإنما معناه أنه وهو الوحدوي بامتياز لم يفرضها على السوريين بالقوّة، بل نضج الوعيُ بالحاجة إليها عندهم، هُم المتشبّعون أكثر من غيرهم بفكرة العروبة وفكرة الوحدة.

هكذا يبطُل القول إنّ الانفصال ثمرة عملية توحيد قسريّ مثلما روَّج المدافعون عنه، المعادون للوحدة.