Menu

فلسطين في ظل واقع وطني وقومي مضطرب

قلم

بقلم / محمد صوان

لم يتوقع أحد من المشتغلين على تصفية القضية الفلسطينية أن تكون لدى القيادة الفلسطينية (م.ت.ف) وفصائلها القدرة على تعطيل توقيع الرئيس الأمريكي ترامب للأمر التنفيذي بنقل سفارة بلاده إلى القدس المحتلة بالتزامن مع الذكرى السبعين لنكبة فلسطين.. حتى النظام الرسمي العربي المتسم بمواقف الشجب والإدانة اكتفى في واقع الأمر بامتصاص ردة الفعل الشعبية وإبقائها فاترة عند الحدود الدنيا.. باستثناء هبة القدس وما سجلته خلال عام من استشهاد"117" مواطن فلسطيني بينهم "12" طفل استشهدوا قبل أن يغلق العام أجندة أيامه ..فيما استشهد "18" شاب منذ إعلان الرئيس ترامب قراره المشؤوم في 6/12/2017 .

لايزال النظام الرسمي العربي مجرداً من ردود الفعل واكتفى بتصريحات لوزراء خارجيته, واجتماع لمجلس الجامعة العربية على مستوى وزاري, واجتماع في العاصمة الأردنية عمان,  للجنة المتابعة العربية, واجتماع للاتحاد البرلماني العربي ..وخلاف على انعقاد القمة العربية "طارئة أو عادية ..في عمان أو الرياض " يترافق ذلك الفتور العربي مع المزيد من الإجراءات الصهيوأمريكية ،فقد أغلقت الإدارة الأمريكية مكتب (م.ت.ف) في واشنطن, وعلقت تقديم مساعداتها لوكالة" الأونروا", فيما اتخذت حكومة نتنياهو قرارات استيطانية جديدة وتهويدية واسعة .

تأتي الهجمة الصهيوأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية في سياق "صفقة العصر " المتضمنة: " الوطن البديل والتوطين ،وعاصمة بديلة عن القدس، وتذويب الشخصية الفلسطينية وشطب الحقوق الوطنية والقومية المشروعة للشعب الفلسطيني, والتطبيع مع الدول العربية ".

ورغم ذلك لا يوجد مشروع وطني فلسطيني جامع وعربي موحد .. باستثناء شعارات رنانة لفصائل العمل الوطني حول التحرير والعودة وحق تقرير المصير.

مأزق غير مسبوق :

الواقع الراهن مريح بالنسبة لحكومة الاحتلال فهو يمكّنها من تنفيذ سياستها العدوانية ذات الطابع الاستعماري الكولونيالي ، ويسمح لها بالاستمرار في تكريس سيطرتها على ما تبقى من فلسطين التاريخية.. في المقابل ليس مريحا للشعب الفلسطيني لأنه يعرقل تنفيذ مشروعه الوطني التحرري ويجعل الزمن عاملاً سلبياً بسبب استغلاله من الاحتلال الصهيوني, وبما يمكنه من الاستيلاء على مزيد من الأراض ، وإقامة مزيد من المستعمرات, وتهويد القدس واستباحتها ، وحصر اكبر كثافة من المواطنين الفلسطينيين في أصغر رقعة من الأرض الفلسطينية المحتلة.

فضلا عن العامل المتمثل في زيادة ثقل اليمين الصهيوني المتطرف  فيبرز عاملان آخران يشجعان الطغمة الكولونيالية في"إسرائيل" على المضي في هذه السياسات:

الأول:

محاولة استغلال الواقع المضطرب في الدول العربية والذي يقود الى انهيار النظام الرسمي العربي وبالتالي تراجع الدعم العربي للقضية الفلسطينية وفي هذا السياق يعتقد الصهاينة أن "اسرائيل" اصبحت اكثر اهمية بالنسبة لمصالح الغرب الرأسمالي بوصفها الأكثر استقراراً بين حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط, الأمر الذي يجعلها أكثر مناعة تجاه اي انتقادات او ضغوطات من حلفائها الدوليين .

الثاني:

هو انقسام بنية الحركة الوطنية الفلسطينية وأطرها القيادية وترهلها, وذلك  بفعل انقسام النظام الفلسطيني, والصراع بين حركتي "فتح وحماس", واستفراد الأولى بالسيطرة على الضفة الغربية والثانية على قطاع غزة, علاوة على غياب المؤسسات السياسية الفلسطينية وبالمقدمة "م.ت.ف" وتراجع مظاهر الديمقراطية والمشاركة والمساءلة والانتخابات, بما ادى الى اتساع الفجوة بين الشعب والفصائل وحولت بنية هذه الفصائل الى ما يشبه الماء الآسن متسببة بضعفها وشل فاعليتها وقدرتها على التصدي للعدوانية الصهيوأمريكية.

ويشكل واقع اقتسام الأرض الفلسطينية - التي يفترض ان تكون ارض "الدولة الفلسطينية"-  بين حركتي "فتح وحماس " ضربة شديدة لمشروع التحرر الوطني والديمقراطي والبرنامج السياسي الفلسطيني ويقدم هدية ثمينة للعدو الصهيوني بعد ان بات تأييد العالم لحل الدولتين باهتاً ومحرجاً بصوة كبيرة.

 وأدى هذا الواقع ان يمر إعلان الرئيس ترامب واجراءات ضم القدس ونقل السفارة الأمريكية إليها واعتبارها "عاصمة اسرائيل الأبدية" وتكريس الاحتلال دون تكلفة تذكر حتى الآن, الأمر الذي مكن "اسرائيل" من استغلال هذا الوهن والانقسام لتصعيد عدوانها بشكل غير مسبوق..

كيفية الخروج من المأزق:

المدى المنظور لا يحمل آفاق حل سريع أو انتصار ما, وإنما يتطلب إعادة بناء على جميع المستويات بهدف تغيير موازيين القوى وتعديلها لصالح قوى التحرر الوطني القومي وتحويل عامل الزمن الى حليف . وبناء عليه يمكن طرح النقاط التالية لمواجهة تحديات المرحلة.

إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية من اجل تمكين الشعب الفلسطيني من مواجهة تحدي تغول اليمين الصهيوني الاستيطاني الكولونيالي... وليس المقصود هنا المصالحة بالمعنى التقليدي، لأنه من الطبيعي ان تمثل الأحزاب والفصائل المتعددة مصالح فئات وشرائح وطبقات ووجهات نظر مختلفة لدى اي شعب، والشعب الفلسطيني ليس استثناء، وانما المقصود توحيد جميع المؤسسات الوطنية والتشريعية والتنفيذية والبلدية والنقابية وتفعيلها، وخاصة مؤسسات ( م. ت. ف) بما فيه اجراء الانتخابات، متى كان ذلك متاحاً، لأنها الطريقة الوحيدة والضرورية من أجل تجديدها، وبعث الحياة فيها، وجسر الفجوة بينها وبين الشعب.

وقف التراجع والتآكل في الموقف السياسي الفلسطيني الذي يجري بالتدريج، عبر الاصرار الرسمي على التمسك بالمفاوضات كخيار وحيد.. وقد بدأ تأكل الموقف الرسمي على يد السلطة عندما تمت الموافقة على تبادل الأراضي بينها وبين ( اسرائيل) الذي يشكل في جوهرة محاولة لمواءمة الحل مع الواقع الاستيطاني، الأمر الذي شكل تشجيعاً على مواصلة الاستيطان وقضم الأراضي... ويبدو ان الفصل الأخير من هذا التأكل هو ما يجري الان من محاولات صهيوأمريكية لاستقطاع القدس كاملة وتفتيت الضفة الى كانتونات ومعازل متباعدة.

ان إعادة بناء المؤسسات الوطنية وتجديد شرعيتها بالانتخابات هي الطريقة الأكثر جدوى لتحصين المواقف الرسمية، ولحمايتها وحماية المشروع الوطني التحرري من التأكل والتبديد.

الحاجة الملحة لنقله جذرية في المقاربة السياسية المعتمدة من أجل تحقيق أهداف المشروع الوطني التحرري، من كونه يعتمد فقط على دبلوماسية المفاوضات بإشراف الولايات المتحدة الامريكية، التي طغت على العمل الرسمي لأكثر من ربع قرن، الى الدعوة لإشراف دولي ممثلاً بمجلس الأمن وأعضائه الدائمين، والمستند إلى جميع قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، بحيث يصبح المجتمع الدولي بجميع هيئاته ومؤسساته ساحة الصراع ضد الاحتلال الكولونياليالاحلالي.

من البديهي ان يعتمد كل طرف يخوض صراعاً على ميزات القوة النسبية التي يتمتع بها، ويتجنب مواقع وأساليب الصراع التي تعطي عدوة القوة.. ومن المنطقي أن يقودنا مثل هذا المبدأ الى التركيز على التفهم والتأييد الشعبي العالمي، خاصة الأوربي، لموقفنا وروايتنا.

هناك حاجة ماسة إلى تحقيق الانسجام والتكامل بين الدبلوماسية الرسمية والشعبية المتمثلة في الحملة العالمية المتنامية لمقاطعة ( إسرائيل) وسحب الاستثمارات منها، وفرض العقوبات عليها  (B.D.S)- - ذلك بأن هذه الحركة التي تتميز بالسلمية الفاعلة، تشكل رافعة من شأنها أن تعزز الموقف الفلسطيني، وتعطيه زخماً افتقده منذ نهاية الانتفاضة الأولى عام 1987.

لقد اثبتت التجارب الطويلة والمريرة في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني، أن تجربة المقاومة والانتفاضة التي تجلت في الانتفاضة الأولى 1987- 1993، والتي اتسمت بالكفاح الجماهيري الشامل ولمدة طويلة ومتواصلة، تمثل الأسلوب الأكثر جدوى لجعل الاحتلال أكثر كلفة والنضال الوطني أكثر نجاعة.

الجميع يتغنى بالمقاومة ويدعو إليها، غير أن لهذا النوع من المقاومة متطلبات، أهمها استراتيجية عمل موحدة، وبرنامج عمل مشترك، وقيادة وطنية موحدة تكون موضع ثقة الشعب ومثالاً له، علاوة على مؤسسات ومنظمات ولجان عمل متخصصة ومتغلغلة في أعماق المجتمع بفئاته وشرائحه وطبقاته وتياراته (الإسلامية, والوطنية, والعلمانية). من المهم الاتفاق على أن هذه التوجهات تستند إلى فهم محدد لطبيعة الصراع, فالحديث ليس عن (نزاع) بين طرفين, وإنما هو صراع بقاء بين مشروعين: الأول صهيوني كولونيالي يهدف إلى الاستيلاء المتدرج على كل فلسطين التاريخية... والثاني فلسطيني متشبث بحقه في بلاده وأرضه وتقرير مصيره بنفسه فوق ترابه الوطني, وسيستمر في مقاومته جيلاً بعد جيل, وبما يفتح الأفاق أمام الخيار الفلسطيني على أوسع وأرحب فضاء قومي وإسلامي وأممي, والاستفادة من كل التطورات والمتغيرات الاقليمية والدولية التي تصب في مصلحة الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.