في فلسطين تختلف معادلة الحياة فيلد كل فلسطيني من جسده من روحه من قلبه "الأرض" يعيطها الحياة بكل تفاصيله ورؤاه , بكل فكرة ونفس ووجود , وتأتي فلسطين تبحث عن ركنها الأكثر تمسكاً بقضيتها لتعطيه إيماناً يصرخ في وجه الاحتلال " هنا باقون .. نؤسس في عقم التاريخ ذاكرة لا تطالها يد الموت " , وفلسطين اختارت ولادتها من حنجرة "ريم بنا" ابنة الناصرة التي تبنّت وليدها بكل حبّ وغنّته كما لم تفعل أمٌ من ذي قبل , اعتنقت ديانة المقاومة في عالمٍ أعطى ظهره لفلسطين وقضيتها ..
ريم لم تطلق رصاصةً يوماً بل وضعت صوتها داخل بندقية وجهتها إلى صدر المحتل بعينين ثابتتين تطالع فلسطين كل فلسطين من النهر إلى البحر , ولأن للصوت صداه الذي يجتاز حدود الأرض اختارت أن تغني فلسطين علّ الآذان تسمع نداء مقاومة عدوٍ غاشم أتفق مع الصفة على تنصيبه كآخر محتل ٍ على وجه هذه الأرض والأشد توحشاً وظلما , وفي عبورها إلى السماء أوصت بمقاومتها الأخيرة «أحرقوا جسدي بعد مماتي.. وعبئوا رفاتي في زجاجة عَرَق نصراويّ.. واحشوها بالبنزين والمواد المشتعلة، لتتحوّل إلى (مولوتوف) في يد مُقاوم يرجم بها أعداء الحُب وطغاة الأرض».
غنّت ريم فلسطين , وعاهدت نفسها على إنعاش ذاكرة التاريخ لتبين وبالنتيجة المؤكدة أصل الوجود الفلسطيني فوق هذه الأرض , فدمجت التهاليل الفلسطينية التراثية بالموسيقى العصرية , حملت صوتها وأغانيها تجوب بها أصقاع العالم تحدّثهم على إنه هناك في الطرف الآخر من زاوية العيش شعب يموت لأجل حريته , هناك نساء لا تملّ ولا تكتفي من فعل الولادة لأجل أرضٍ خرجت من سمة العطاء إلى البذل ..
كانت تلبس فلسطين بكل ما يعنيها ترتديها كوفيةً وثوبا مطرزاً بالغرزة الفلسطينية تصعد إلى المسرح غزالةً ترفض افتراس الاحتلال لها , وطيراً يحلق في فضاء اللحن أغنية تحلم بالسلام بقدر عشقها لنوّار الليمون في أرض كنعان ..
هي أشبعت ذاكرتنا بتراث فلسطين , وأعطت من صوتها رصيداً لأطفال فلسطين الذين لا يزالون يرددون أغانيها حتى اليوم ولم تغفل عن أخوتها في السجون الذين يناضلون داخلها بقدر الذين يناضلون خارجها فحبال المقاومة كيفما كانت جميعها تمسك بيد واحدة "فلسطين" , وساهمت بأعمال عالمية أحالت بها قضية فلسطين من النسيان إلى القلب لنجاحها بإيضاح مشهدية صاحب الحق من المعتدي , وقد لحّنت في ألبوماتها لعدة شعراء فلسطينيين وعرب فأضافت للإبداع صورة كاملة تعبر من الكلمة إلى النغم واللحن ..
لم توقفها أصابتها بالسرطان للمرة الأولى عن غايتها في الوجود والحلم والعمل بل حاربته بكل قوتها ترسم على وجهها ابتسامة تهزأ بها من خبث المرض الذي يشابه خبث الاحتلال , حتى صارت مثالاً يحتذى به عربياً وعالمياً في صراع هذا المرض , لكنه في المرة الثانية كان أكثر رعونةً وخبثا نال من جسدها الغض ولكنه لم ينل من عزيمتها وروحها التي تؤمن بأن الموت آلية لتغير الروح من شكلها ومقامها , ومرة أخرى هزها امتحان الجسد لما أصيبت بشلل في الوتر الصوتي الأيسر أقعدها عن الغناء بيد أن الأمل وإرادتها في إكمال المسيرة لم يضعف أبدا , حتى أنها وعدت نفسها بالتغلب عما يجري حولها بخشوعٍ كامل للحنٍ جديد تراقص به الكلمة إلا أن الموت كان أشد اصراراً منها ..
كتبت تنعي نفسها وتخفف من مرارة فقدانها على أفئدة محبيها :
>>بالأمس .. كنت أحاول تخفيف وطأة هذه المعاناة القاسية على أولادي ..
فكان علي أن أخترع سيناريو ..
فقلت ...
لا تخافوا .. هذا الجسد كقميص رثّ .. لا يدوم ..
حين أخلعه ..
سأهرب خلسة من بين الورد المسجّى في الصندوق ..
وأترك الجنازة "وخراريف العزاء" عن الطبخ وأوجاع المفاصل والزكام ... مراقبة الأخريات الداخلات .. والروائح المحتقنة ...
وسأجري كغزالة إلى بيتي ...
سأطهو وجبة عشاء طيبة ..
سأرتب البيت وأشعل الشموع ...
وانتظر عودتكم في الشرفة كالعادة ..
أجلس مع فنجان الميرمية ..
أرقب مرج ابن عامر ..
وأقول .. هذه الحياة جميلة ..
والموت كالتاريخ ..
فصل مزيّف .. <<
قد غادرتنا ريم جسداً لكنها بقيت معنا روحاً تطوف السماء تغني فلسطين كسحابة تمطر عطشنا إلى الأرض , وبها نستطيع أن نرى وجه فلسطين الآخر , وجه يعبق برائحة زهر الليمون والبرتقال يقسم بالزيتون على قدم الوجود وأصالته , لنجري كنهرٍ هائج على المنفى والاحتلال نلحق بطفلة نسيت ضفيرتها عند باب القدس لتغويها الريح إلى رحلةٍ أخرى أكثر نقاء وبقاء وبذاكرةٍ لا تطالها يد التاريخ ..
مثلك لا يموت يا ريم ..
مثلك لا يموت أبدا ..