Menu

الحركة الوطنية الأسيرة...جيش آخر في مواجهة الاحتلال

ابو علي حسن

    في يوم الأسير الفلسطيني تكثر وتتجدد الاسئلة الملحّة والملازمة لشؤون وشجون الحركة الأسيرة المناضلة...

     فالحديث عن الأسير الفلسطيني هو ذاته الحديث عن فلسطين كقضية وطنية...وحديث عن شعب لا زال يسطر روايته الوطنية التاريخية بألف طريقة وطريقة...وعليه فالحديث عن الأسير الفلسطيني...هو حديث عن البدايات والمسارات والروايات والمعجزات والإرادات...فهناك الأسير الذي وقع بالأسر في ميدان الحرب أو قتل جندياً صهيونياً...أو طعن مستوطن...أو قاد وشارك في دورية ليعبر النهر والحدود إلى فلسطين...أو دبر وخطط وساعد بالرأي والمال...وهناك أسير مدني حمى وسهّل للمقاومة.

    إن مفهوم الأسير الفلسطيني يتسع ليشمل كل فلسطيني وطني أعلن رفضه للاحتلال...وعليه فالشعب الفلسطيني كله في حالة حرب مع الاحتلال...وكله معرّض للأسر والاعتقال والمحاكمات...فالتقارير التي أعدتها هيئة شؤون الأسرى ونادي الأسير الفلسطيني تشير إلى أن عدد الفلسطينيين الذين تم اعتقالهم من قبل السلطات "الاسرائيلية" قد ناهز المليون فلسطيني...منهم أكثر من مائة وخمسون ألف فلسطينية أي أن ثلث الشعب  الفلسطيني قد تعرض للأسر والاعتقال منذ عام 1967...ودخل زنازين الاحتلال...وتمت محاكمتهم ومورس عليهم شتّى أنواع التعذيب الجسدي والمعنوي والنفسي...كما وتشير التقارير إلى أن أكثر من 180أسير قد استشهدوا داخل السجون منذ عام 1967...وأن الآلاف من الأسرى قد تعرضوا للتعذيب...وتوطّنت الأمراض في أجسادهم...والكثير منهم قد رحلوا عن دنيانا جراء تلك الأمراض...ولا تتوقف عمليات الأسر والاعتقال في كل لحظة وكل يوم وفي كل منطقة ومدينة وقرية وجامعة...وتطال الأطفال والنساء والشباب وقيادات وأعضاء مجلس تشريعي..ومجلس وطني ووزراء...واليوم نحن أمام أكثر من 7000 معتقل وأسير...من بينهم 70 فتاة...و 400 طفل...وهناك المئات من المعتقلين تحت عنوان الاعتقال الإداري الذي يتجدد تلقائياً شهوراً وسنوات دون محاكمات بما يتعارض مع القوانين والأعراف الدولية.

    ولا يتوقف الأمر عند حدود الأسر والاعتقال الإداري...إنما يتعدى ذلك إلى ممارسة الاحتلال لسياسة العقاب الجماعي عبر اعتقال ذوي وأهل الأسرى... وهدم البيوت...وترحيل ذوي الأسير إلى أماكن غير مكان إقاماتهم.

    إن دولة الكيان هي الكيان الوحيد في العالم الذي يعتقل الموتى ولا يظهر مكان دفنهم...ويعطيهم صفة مدافن الأرقام...فهناك العشرات من الجثامين منذ نصف قرن لا يعرف مكان دفنهم...وفي هذا انتهاك للقانون الدولي ومعايير حقوق الإنسان.

    إننا أمام مشهد للاحتلال "الاسرائيلي" لم يماثله أي مشهد بالتاريخ...حيث تفوق على النازية والفاشية...يقابله مشهد وبانوراما فلسطينية تعبر عن فرادة واستثنائية لهذا الشعب في مقاومته وطاقته وقدرته على الصمود والمواجهة وتجدد أساليبه وأدواته في المواجهة.

    إن الحديث عن الأسير الفلسطيني لا يمكن أن يختصر بهذا المشهد الماثل أمامنا اليوم...فثمة مشاهد متحركة منذ الاحتلال تتجدد...إننا لا نتحدث عن عالم متخيل...إنما عن واقع ملموس...ومشاهد أمام الفضائيات وعدسات الكاميرا...وفي الظلام...وفي الأماكن السرية.

     وحينما نتحدث عن الأسير الفلسطيني...فنحن نتحدث عن عالم آخر عاشه الأسير ولم نعشه نحن...عالم السجون والزنازين...عالم الأقبية والتعذيب...وزرد السلاسل وصرير المزالج...نتحدث عن عالم آخر توجد فيه مهنة صناعة الموت البطيء للإنسان عبر الجلاد الصهيوني...عالم الحجز الإفرادي...والشبح...والاغتصاب...والتعذيب...وتحطيم الذات الإنسانية...عالم الأهوال.

    هو وحده الأسير الفلسطيني الذي عاش عوالم الحياة الثلاثة...عالم السلم وعالم الحرب وعالم  السجون...هي عوالم ثلاثة...عاشها سلماً وحرباً واعتقالاً في عالمه داخل الأسر...عمل على صناعة عالمه الخاص الذي يبدد عالم الظلام والمتعاكس مع عالم القهر والإذلال...فأعطى إرادة الحياة المتناقضة مع بؤس الإحباط واليأس شأناً كفاحياً...فأنتج نخب ثورية ومناضلين أصلب وأمضى ثورية ووطنية...وأنشأ أكاديميات الخلود والفكر الثوري داخل الزنازين والسجون...وأنشأ مدارس ثورية وثقافية تتواصل مع مدارس الثورة خارج السجون...وهنا تجلت مباراة الإرادات بين الجلاد والأسير على أوضح ما يكون داخل الزنازين والسجون في صراع طويل الأمد...أفضى إلى زيادة منسوب الوعي الوطني والثوري...في مقابل يأس الجلاد من قهر الأسير وتذويب هويته الوطنية.

     ولعله من المفارقات الموضوعية والمميزة للحركة الوطنية الأسيرة أنها تجدد ذاتها من قلب المقاومة...ومن واقع المجتمع الفلسطيني...ولا يمر يوم إلا ويدخل في صفوفها أسرى ومناضلين جدد...وهي مفارقة قد لا تجدها في فصائل العمل اليومي من حيث تجديد وتوسع عضويتها...وهذه المفارقة هي وحدها التي تعطي الدلالة على أن مقاومة الاحتلال باقية وتتجدد...بل هي عنوان استمرارية النضال والمقاومة...

    وعليه حين نتحدث عن الأسير...يجب أن نعطي الكلمات والألقاب معناها الحقيقي...لا أن نحولها إلى معاني أو شعارات فاقدة للمضمون...فالأسير اليوم هو العنوان الأبرز للمواجهة...هو لقباً يعكس فعلاً ومعنىً ودلالة إنسان...وروح الوطن...ومروءة فلسطينية.

    لكل ذلك فثمة حاجة إلى قراءات تاريخية لتجربة الأسير الفلسطيني ومقاربتها مع تجارب الشعوب الأخرى وحالات الأسر وكفاحها...الأمر الذي يدفعنا إلى استخلاص جوهري...وهو أن الحركة الأسيرة الفلسطينية تميزت ولا زالت بالفرادة في التاريخ الإنساني والكفاحي...من حيث ديمومة نشاطها...وتوسعها وسيرورتها...ومدى نضالاتها على مستوى الوطن وخارج الوطن...كما تتميز في قدرتها على مأسسة ذاتها لا سيما في السجون حينما أنشأت نظاماً ثورياً داخل السجون...وأنشأت حلقات وشبكات تنظيمية ولوائح داخلية وسياسات وبرامج عمل...ضمن الحفاظ على هيكلية تنظيمية وسياسية تواجه الاحتلال.

إن هذه الاستثنائية للحركة الأسيرة...تقتضي من السلطة الفلسطينية ومن م.ت.ف أن تعطي جلّ اهتمامها لأوضاع الأسرى داخل وخارج السجون...للحفاظ على كرامة وإنسانية الأسير الفلسطيني وتعيد إليه ما فقده من سنين عمره عبر توفير كل مقومات الحياة الكريمة...وضمان قدرته على العيش والتواصل والإنتاج والإندماج في مجتمعه سالماً معافاً كريماً لا سيما بعد تحرره...

إن الحركة الأسيرة اليوم لا زالت تشكل رافداً وطنياً وثقافياً وفكرياً وإعلامياً لنضال الشعب الفلسطيني...هي حاملة للهوية الوطنية حاملة لوعي الشعب والحق الفلسطيني...وباعثة ومجددة للتراث الوطني الفلسطيني.

 

ابو علي حسن

17/نيسان /2018